الدكتور حسن الدَعجه*
شهدت المنطقة في الأشهر الأخيرة تصعيدًا حادًا في التوتّرات بين إسرائيل وإيران، وسط َتبادُلٍ للهجمات المباشرة وغير المباشرة. فمن استهدافٍ إسرائيلي لمنشآتٍ إيرانية إلى هجماتٍ إيرانية بالطائرات المُسَيَّرة والصواريخ الباليستية على أهدافٍ إسرائيلية، يتزايدُ القلقُ الإقليمي والدولي من احتمالِ تحوُّلِ هذا الصراع إلى مواجهةٍ شاملة خطيرة. وفي هذا السياق، تبرزُ ثلاثة سيناريوهات مُحتَملة لمستقبل هذه المواجهة: التصعيدُ المُتبادَل، أو التهدئة المشروطة، أو التوصُّلُ إلى اتفاقٍ ضروري عبر وساطةٍ دولية.
السيناريو الأول: التصعيدُ المُتبادَل نحو مواجهةٍ مفتوحة: يرى المراقبون أنَّ السيناريو الأكثر ترجيحًا في المدى القريب هو استمرارُ التصعيد المُتبادَل، نظرًا لالتزامِ كلِّ طرفٍ بسياساته الأمنية والهجومية. وتُكثّفُ إسرائيل، التي تَعتبرُ الوجودَ الإيراني في اليمن ولبنان تهديدًا استراتيجيًا ووجوديًا، غاراتها الجوية على أهدافٍ تابعة للحرس الثوري الإيراني ومواقع استراتيجية إيرانية. وفي المقابل، تستخدم إيران الصواريخ وهجمات الطائرات المُسَيَّرة لضرب أهدافٍ إسرائيلية مُماثلة.
قد تُصَعِّدُ هذه الهجمات المُتبادَلة الصراعَ بشكلٍ أكثر خطورة، خصوصًاً إذا وقعت خسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين أو استُهدِفَت منشآتٌ استراتيجية كالموانئ أو البنية التحتية للطاقة. ويخشى المراقبون من أنَّ أيَّ خَطَإٍ في التقدير -كضربةٍ تُوقِعُ خسائرَ بشرية كبيرة أو تستهدف شخصيةً بارزة- قد يُشعلُ فتيلَ مواجهة عسكرية مفتوحة، تمتد من لبنان لضرب “حزب الله” وصولًا إلى الأراضي الإيرانية.
في هذا السياق، يُزيدُ غيابُ قناة اتصالٍ مباشرة بين تل أبيب وطهران من فُرَصِ سوءِ الفَهمِ والتصعيد غير المقصود، خصوصًا في ظلِّ غيابِ توازُنِ الرَدعِ التقليدي بين الجانبين.
السيناريو الثاني: تهدئةٌ مشروطة واحتواءٌ عبر وسطاء. ويُمثّلُ هذا هدوءًا مؤقتًا أو “احتواءً قابلًا للاشتعال” مفروضًا بضغطٍ خارجي ووساطة إقليمية ودولية. في هذا السياق، قد تتدخّلُ جهاتٌ كالولايات المتحدة وروسيا وقطر وسلطنة عُمان للعبِ دور الوسيط، لا سيما مع تزايُدِ المخاوف من أنَّ أيَّ تصعيدٍ سيُقوِّضُ الاستقرارَ في الخليج، ويُعطّل الملاحة في مضيق هرمز، ويرفع أسعار النفط العالمية.
في هذا السيناريو، قد يتمُّ التوصُّلُ إلى تفاهُماتٍ غير مُعلَنة، منها التزام إيران بضبطِ تحرّكات الميليشيات التابعة لها في المنطقة، وعدم عسكرة برانامجها النووي، مقابل امتناع إسرائيل عن شنِّ هجماتٍ واسعة النطاق، والحدّ من استهدافِ الشخصيات الإيرانية أو المنشآت الاستراتيجية. كما قد يشملُ خفضُ التصعيد اتفاقًا ضمنيًا على عدم استهداف السفن في الخليج أو البحر الأحمر، وهو ما يُعرف بـ”قواعد الاشتباك الرمادية”.
يعتمدُ نجاح هذا السيناريو على وجودِ نوايا صادقة لدى الجانبين لتجنُّب الحرب، وعلى قدرةِ الوسطاء على مُمارسةِ ضغوطٍ سياسية واقتصادية لإجبارهما على الالتزام بخفض التصعيد، ولو مؤقتًا.
السيناريو الثالث: إتفاقُ الضرورة… من المواجهة إلى المفاوضات غير المباشرة. على الرُغم من صعوبة تحقيقه، يتضمّن السيناريو الثالث التوصل إلى اتفاقٍ شاملٍ أو جُزئي بين إسرائيل وإيران من خلالِ مفاوضاتٍ غير مباشرة برعايةٍ دولية، خصوصًا إذا شعر الطرفان أنَّ استمرارَ التصعيد سيؤدّي إلى تكاليف كارثية.
قد يتخذ هذا الاتفاق طابعًا أمنيًا بحتًا، بما في ذلك تحديد مناطق “خالية من التهديدات”، وإزالة الأسلحة الثقيلة من بعض المناطق الحدودية اللبنانية وغيرها، أو اتفاق لوقف الهجمات الإلكترونية والصواريخ والطائرات المُسَيَّرة. في المقابل، قد تتعهّد إسرائيل بعدم استهداف العلماء الإيرانيين أو المنشآت النووية الإيرانية طالما لم يكن هناك انتهاك فعلي للاتفاقيات النووية الدولية.
يمكنُ أيضًا استغلال الزخم الإقليمي في هذا الاتجاه، خصوصًاً بعد استعادة العلاقات بين طهران والرياض، وتقدّم عمليات خفض التصعيد بين إيران وبعض دول الخليج. وهذا من شأنه أن يعزز إمكانية ممارسة ضغط إقليمي جماعي لفرض اتفاقية أمنية أو خفض شامل للتصعيد.
إلّا أنَّ عقبات هذا السيناريو تكمن في انعدام الثقة بين الطرفين، والانقسامات الداخلية بينهما.
تُعاني الحكومة الإسرائيلية من انقساماتٍ سياسية عميقة، بينما تتعرّض إيران لضغوط داخلية واقتصادية تُصعّب تقديم تنازلات قد تُفسَّرُ على أنها علامة ضعف في مواجهة “العدو الإسرائيلي”.
يبقى خيار الحرب قائمًا، ولكنه ليس حتميًا. يتراوح مستقبل المواجهة بين إسرائيل وإيران بين هذه السيناريوهات الثلاثة: التصعيد، أو التهدئة المشروطة، أو اتفاق الضرورة. ورُغمَ أنَّ التصعيد يبدو الخيار الأسهل والأكثر ترجيحًا في المدى القصير، لا سيما في ظلِّ انعدام الثقة المُتبادَلة وتصاعُد الخطاب العدائي بين الجانبين، إلّا أنَّ تكاليفه السياسية والعسكرية والاقتصادية قد تكونُ باهظة لدرجةٍ أنَّ كلا الجانبين قد يسعى، وإن على مضض، إلى حلٍّ تفاوضي أو تهدئةٍ مدروسة.
الحربُ الشاملة لا تخدُمُ مصالحَ أيٍّ من الطرفَين. تُدركُ إسرائيل أنَّ فَتحَ جبهةٍ مُتعدّدة الأوجه مع إيران ووكلائها في لبنان واليمن وغزة قد يُنهِكُ قدراتها الدفاعية والاقتصادية، بينما تُدرِك إيران بدورها أنَّ الدخولَ في مواجهةٍ مباشرة مع إسرائيل سيُعرّض بنيتها التحتية الحيوية للخطر في وقتٍ تُعاني من أزمةٍ اقتصادية داخلية خانقة. لذا، يبقى دورُ الوسطاء الإقليميين والدوليين -مثل سلطنة عُمان وقطر والاتحاد الأوروبي- حاسمًا في ترجيحِ كفة الميزان لصالح خفض التصعيد، من خلالِ تفعيلِ قنوات اتصالٍ سرّية وفرض خطوط حمراء لكلا الجانبين.
علاوةً على ذلك، قد يكونُ تقاطُعُ بعض المصالح الأمنية والاقتصادية، لا سيما في قضايا الطاقة والملاحة البحرية، دافعًا ضمنيًا لفتح حوارٍ يُفضي إلى اتفاقٍ قائم على الضرورة لا على الرغبة.
- الدكتور حسن الدعجه هو أستاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة الحسين بن طلال في الأردن. يمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @hasanaldajah.