هنري زغيب*
في عادة كلِّ مدرسةٍ، مع نهاية العام الدراسي، أَن تُقدِّم احتفالًا يؤَدِّيه تلامذتُها، يكون ترفيهيًّا أَو فنيًّا بَحتًا، قلَّما يَعكِس مادةً تعلُّميةً ذاتَ علاقةٍ مباشِرةٍ بتراثنا أَو بتاريخنا أَو سِماتنا الحضارية. حتى وجدتُ ذلك مجموعًا بشكل مغاير متجدِّد في احتفال “يوم التراث اللبناني”، لدى مدرسة Lycée Montaigne في بيت شباب، أَدَّاهُ 107 تلامذة تعاقَبوا على المسرح، مقدِّمين لوحاتٍ ثقافيةً لبنانيةً، تعمَّقوا درسًا بها خلال العام الدراسي، قادَتْهم فيها مرشدتُهم الدكتورة جنى مَكرَم بيُّوض، الخبيرة بهندسةِ السْتراتيجيات التربوية. وهي شرحت هذه الستراتيجيات مرارًا لوسائل الإِعلام، إِبَّان أَحاديثها عن أَهمية التربية القائمة على المشاريع، فاستشهدَت بأَفكار الفيلسوف والـمُصلح التربوي الأميركي جون دُوِي، وفرَّقَت بين التربية الواسعة الأَجنحة، والتعليم شبه الإِحادي محصورًا بين دفَّتَي كتاب مدرسي محصُورٍ بدوره داخل قاعة الصف. بهذا المفهوم، تتالى أَمامنا في احتفال Lycée Montaigne تلامذةُ الصف الأَساسي السادس، عرضوا لنا كيف الحكاياتُ الشعبية اللبنانية تعكِس ملامح من تاريخ لبنان. ثم اختاروا مثلًا شعبيًّا ألَّفوا حوله قصةً نفَّذوها بالدمى، وصمَّموا إِعلانًا للدعوة إِلى مشهدية تلك الدمى.
تلامذة الأَساسي السابع قدَّموا لمحةً عن كُتَّاب لبنانيين معروفين، ثم عرضوا مجسماتٍ صغيرةً صنعوها لبعض المعالم الأَثرية في بلدات أُولئكَ الكتَّاب، وسردوا تباعًا معاني أَسماء بلدات لبنانية، كانوا صمموا لنشرها محطة تلفزيونية عرضوا منها معلوماتٍ اكتسبوها خلال العام الدراسي.
تلامذة الأَساسي الثامن حدَّثونا عن مبدعين بَثُّوا السلام في أَعمالهم. وكان التلامذة قبل أَشهر كتبوا رسائل سلام رفعوها إِلى مسؤُولين، في طليعتهم العماد جوزف عون، وكان يومها قائد جيش لبنان. ثم عرض التلامذة ما عرفوه عن مسرح كركلَّا واحةً لنشر السلام عبر التنوُّع الثقافي، وكتبوا مقالًا عما اكتسبوه، نشروه في جريدة “النهار”.
وكان الختام مع تلامذة الأَساسي التاسع الذين اشتغلوا خلال العام الدراسي على دور الفن اللبناني في بناء مستقبل الجيل اللبناني الجديد، واستضافوا إِلى صفهم الفنانين رفعت طربيه، جورج خباز، غدي الرحباني، ناصر مخول، حاوروهم واكتسبوا من تجاربهم، وتعمَّقوا أَكثر في جوهر الإِبداع اللبناني، ودورِه في فتح فضاء لهم صوب غدهم الوطني.
ساعتان ممتعتان قضيناهما مع هذا الاحتفال الموسوم بــ”يوم التراث اللبناني” في Lycée Montaigne، أَعدَّتْهُ تنظيمًا وقيادةً منسِّقَةُ “برنامج اللغة العربية للمعفيِّين من المنهج اللبناني الرسمي” الدكتورة جنى مكرم بيُّوض، ومعاونتُها السيدة جيسي فراج. كانت المشاهدُ تتوالى تباعًا في انسيابية سلسة. وبدا واضحًا كم اكتسب تلامذة هذه المدرسة من التربية على المواطنة، ومن التعمق في ثقافة لبنان الحضارية والإبداعية، ووعي القيَم الإِنسانية الخلَّاقة والسلوكيات الناصعة. وكلُّ ذلك جاء في تمازج ذكيٍّ بين المواد، انطلاقًا من العربية لغةَ تعبيرٍ وتنفيذٍ ميداني، مصحوبةً بمواد التاريخ والجغرافيا والفنون والتكنولوجيا وبعض اللغات الأُخرى، فلم تَعُد العربية لغة يتلقَّاها التلامذة ببغائيًّا فينفرون منها، بل تصبح العربيةُ منصةً يوظِّفون مفرداتها وتعابيرَها وقواعدَها لا بتسميع آليّ، بل يستخدمونها مرنين مع المواد الأُخرى. هكذا يخرجون إِلى فضاءِ المعرفة، بفضل التربية القائمة على مشاريعَ ميدانيةٍ متحركةٍ ينفِّذونها بِفَهْم ومتعة، لا بالتعلُّم الببغائي الكُتُبي الجامد يتلقَّونه بدون فهم ولا لذَّةِ تعلُّم.
بهذا تصبح العربية لغتَهم الحية المحببة، يتعلمونها ويتعلَّمون عنها ومنها، فتصبح طينة طيِّعة لهم لمعانقة موادَّ أُخرى تثقيفيةٍ ثمينة.
بهذه الستراتيجية التربوية، لا يعود أَولادنا متلقِّين حياديين، بل يَغدُون، منذ صفوفهم الأُولى، جاهزين لابتداع ما يهيِّئُهم ليكونوا لاحقًا بدَورهم مبدعين، فيختاروا مهنتَهم المستقبليّة بكلِّ وعيٍ وقناعةٍ ومسؤُولية.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib