الكويت تَكبَحُ الديموقراطية لدَفعِ الإصلاحات الاقتصادية

في عصرٍ يتزايدُ فيه التسامح مع الاستبداد، يُعَدُّ تحوُّل الكويت خلال العام الماضي تطوُّرًا ذا دلالة، حتى وإن لم يحظَ باهتمامٍ يُذكَر مقارنةً بالدول الأخرى التي تشهدُ تحوّلات مماثلة.

الأمير محمد بن سلمان يلتقي الشيخ صباح الخالد الحمد المبارك الصباح: توثيق العلاقات والخطوات… الكويتية-السعودية.

علي الشعلان*

مرَّ عامٌ تقريبًا منذ أن حلَّ أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح مجلس الأمة الكويتي وعلّق العمل بأجزاءٍ من الدستور لمدة تصل إلى أربع سنوات. كانت الكويت تُعرَفُ سابقًا ببرلمانها شبه المستقل ومعاييرها الديموقراطية النسبية مقارنةً بدول مجلس التعاون الخليجي الأخرى. لكن منذ أيار (مايو) 2024، سيطر أفراد العائلة الحاكمة والحكومة المُعيّنة من قِبلهم على السلطة المركزية، حيث يسعى الأمير إلى تولي زمام مستقبل البلاد الاقتصادي.

طغت التطوّرات الجسيمة الأوسع نطاقًا في الشرق الأوسط في العام 2024، بما في ذلك الحرب الدائرة في غزة والتوترات بين إسرائيل و”حزب الله” وإيران، على تحوّل الكويت نحو الاستبداد. لكنها الآن تستخدم المركزية السياسية للحاق اقتصاديًا بالتحوُّلات الأبرز التي شهدتها دول مجلس التعاون الخليجي المجاورة على مدار العقد الماضي، بما في ذلك المشاريع العملاقة المستقبلية في المملكة العربية السعودية، واستضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم 2022، واستثمارات الإمارات العربية المتحدة في الذكاء الاصطناعي والطاقة الخضراء.

اعتلى الأمير مشعل العرش في كانون الأول (ديسمبر) 2023 وسطَ جمودٍ سياسي استمرَّ لسنوات بين برلمانٍ تقوده المعارضة ومجلس الوزراء المُعَيَّن، مع فشل الانتخابات المتكرّرة في حلِّ هذا المأزق. ووصف مشعل الشلل السياسي بأنه “صعوبات وعوائق لا يمكن تصوُّرها ولا تُطاق”، وتعهّد في خطابٍ متلفز أعلن فيه حل البرلمان في أيار (مايو) الماضي بعدم “السماح أبدًا لإساءة استخدام الديموقراطية بتدمير الدولة”.

وجد مشعل دعمًا من بعض الكويتيين الذين جادلوا بأنَّ الطبيعة شبه الديموقراطية للبلاد أعاقت سابقًا نموّها الاقتصادي، حيث عرقل البرلمان الكويتي العديد من مبادرات الاستثمار الكبرى في الماضي. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، في العام 2008، عارض البرلمان مشروعًا مشتركًا بقيمة 17 مليار دولار بين شركة الصناعات البتروكيماوية المملوكة للدولة وشركة “داو للكيماويات”. وبالمثل، واجهت مبادرة “مشروع الكويت” البالغة قيمتها 7 مليارات دولار، والتي كانت تهدف إلى تعزيز إنتاج النفط في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، معارضة شديدة من برلمانيين جادلوا بأنَّ مشاركة الشركات الأجنبية تُخالف دستور الكويت.

تُوَضّحُ هذه الأمثلة كيف عمل مجلس الأمة كجهةٍ رقابية، حتى في ظلِّ الجمود السياسي. ولكن مع تهميش البرلمان الآن، يتمتع مشعل بحرية التصرُّف للمضي قدمًا في الإصلاحات الاقتصادية في الوقت الذي تسعى الكويت إلى اللحاق بجيرانها الإقليميين. ومن أهم هذه الأهداف رؤية الكويت 2035، التي وُضِعَت معالمها في العام 2017، والتي تهدف إلى تحويل البلاد إلى “مركزٍ مالي وتجاري إقليمي ودولي”.

وعلى خطى دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، تسعى الكويت إلى استقطابِ القوى الاقتصادية الكبرى لدعم تحوُّلها. ففي كانون الثاني (يناير) الفائت، وقّعت عقدًا مع الشركة الصينية الحكومية للبناء والمواصلات المحدودة التابعة لوزارة النقل الصينية لإدارة وتشغيل ميناء مبارك الكبير الجديد. ومن المقرر أن تبلغ الطاقة الاستيعابية السنوية للميناء أكثر من 8 ملايين حاوية شحن، متجاوزةً بذلك القدرات الحالية لموانئ دول مجلس التعاون الخليجي مثل جدة في المملكة العربية السعودية وصلالة في عُمان. وهذا من شأنه أن يجعله أحد أكبر الموانئ في العالم العربي، بعد ميناء جبل علي في دبي، على الرغم من أنَّ التوسعات المستقبلية لموانئ دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى قد تؤثر في التصنيف.

بالإضافة إلى ذلك، تُخطّطُ الكويت لتحديث مبنى الركاب 2 في مطارها الدولي بتكلفة 4.3 مليارات دولار. ومن المتوقع الآن اكتماله بحلول نهاية العام 2026، ويهدف المطار المُوَسَّع إلى استيعاب 25 مليون مسافر سنويًا، مع إمكانية نموه إلى 50 مليون مسافر. وعلى الرُغم من أنَّ هذا لا يزال يُمثّلُ جُزءًا بسيطًا فقط من مطار دبي الدولي، الذي استقبل رقمًا قياسيًا بلغ 92 مليون مسافر في العام 2024، إلّا أنه يشير إلى طموح الكويت في منافسة جيرانها.

وتشمل جهود الكويت للتحديث أيضًا مشروع “مدينة الحرير” الطموح، وهو مركز حضري مستقبلي بقيمة 132 مليار دولار أميركي سيضم “برج مبارك الكبير” الذي سيكون أطول مبنى في العالم بارتفاع 1001 متر (250 طابقًا)، إذا تم بناؤه، متجاوزًا برج خليفة في دبي. وهناك أيضًا خطة بقيمة 1.3 مليار دولار أميركي لتحسين حالة الطرق، مما يدل على تطلّعات الكويت الأوسع لتحديث بنيتها التحتية.

إلى جانب هذه المشاريع الضخمة، تسعى الدولة إلى المزيد من الإصلاحات الأساسية. ويشملُ ذلك الجهود المبذولة نحو اقتصاد رقمي قائم على التكنولوجيا، حيث من المتوقع أن ينمو قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في البلاد بأكثر من 70% هذا العقد. وفي قطاعات مثل الرعاية الصحية والتعليم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تهدف الكويت إلى استخدام الشراكات مع الشركات الأميركية لتعزيز خبرتها، مما يسلط الضوء بشكل أكبر على استراتيجيتها في الاستفادة من التعاون الدولي.

ومع ذلك، ومثل دول الخليج الأخرى، قد تواجه الكويت تحدّيات في جمع الأموال لمشاريعها الكبرى، والتي تتفاقم بسبب التقلّبات المُتوقَّعة في سوق النفط في العقد المقبل. لا يزال الوقود الأحفوري يُشكل حوالي 90% من إيرادات الحكومة الكويتية، وهي حصة أعلى بكثير من تلك المُسجلة في المملكة العربية السعودية (64%) والإمارات العربية المتحدة (50%). وقد ساهم هذا الاعتماد الكبير على النفط في انكماشٍ اقتصادي بنسبة 1% في العام 2024، بعد انخفاضٍ بنسبة 3.6% في العام 2023.

هذه التحدّيات الاقتصادية ليست حكرًا على الكويت. فقد اضطرّت الرياض أيضًا إلى مراجعة رؤيتها 2030 وخفضت من موازنتها، ويُعزى ذلك جُزئيًا إلى صعوباتٍ في جذب استثمارات دولية كافية لمشاريعها الضخمة. ومن المرجح أن تواجه الكويت العقبة نفسها مع خططها الطموحة. ولتحقيق هذه الغاية، فرضت ضريبة بنسبة 15% على الشركات متعددة الجنسيات في كانون الثاني (يناير)، بما يتماشى مع المعايير الدولية ويؤكد عزم البلاد على بناء صندوق مالي قوي لتحقيق رؤيتها الاقتصادية.

بالإضافة إلى هذه الإصلاحات الاقتصادية الأكثر اعتدالًا، دفع الإلحاحُ المُتَصَوَّرُ لرؤية “الكويت 2035″ الكويت إلى اتخاذ إجراءاتٍ أكثر إثارة للجدل. فعلى وجه الخصوص، منذ أيلول (سبتمبر) 2024، جَرّدت الحكومة حوالي 42 ألف شخص -أي ما يُقارب 3% من السكان- من جنسيتهم الكويتية، تاركةً الكثيرين بلا جنسية.

وبررت الحكومة هذه الخطوة بزَعمٍ مفاده أنَّ بعضَ هؤلاء الأشخاص حصل على جنسيته بطريقةٍ احتيالية. لكنَّ الهدفَ الرئيس هو تخفيف العبء المالي على الدولة، نظرًا لحصول الكويتيين على مزايا حكومية سخية، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم المجانِيَين، ودعم السكن، وإعانات الرعاية الاجتماعية. وقد سهّل هذا أيضًا التحوّلَ الاستبدادي في البلاد، حيث أقرّ وزير الداخلية الشيخ فهد اليوسف أخيرًا بأنَّ البرلمان كان قد عرقل هذا الإجراء سابقًا.

ورُغمَ أنَّ حلَّ البرلمان كضابطٍ للسلطة قد أطلق يد الأسرة الحاكمة لتسريع الإصلاحات، إلّا أنه من الواضح أنَّ بعضَ التحديات لا يزال قائمًا. تأجّلت خطة خصخصة الكهرباء في الكويت، التي كان من المقرر إنجازها بحلول العام 2026، بسبب عدم وجود لجنة تنظيمية، مما قد يؤدي إلى نقصٍ في الكهرباء في البلاد. وهذا يؤكد أهمية هيكلية الدولة المتنوّعة، وهي وجهة نظر يتشاركها العديد من الاقتصاديين الذين يرون أنَّ مثل هذا النظام أساسي لنجاح أي دولة في المدى الطويل.

في هذه الأثناء، وحتى في خضم التنافس القومي الذي شهدته دول الخليج، وخصوصًاً السعودية والإمارات، على الاستثمارات الدولية، تُولي الكويت أولويةً للتكامل الاقتصادي والسياسي مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى. وقد ربطت نفسها بشكلٍ خاص بالسعودية، ويُعَدُّ مشروع خط السكة الحديد الجاري تنفيذه بطول 400 ميل، والذي يربط الكويت بالسعودية، والمقرر اكتماله بحلول العام 2028، مثالًا بارزًا على ذلك.

من الواضح أيضًا أنَّ الكويت سعت إلى محاكاة بعض تكتيكات السعودية، لا سيما في ما يتعلق بمركزية السلطة وإزالة العقبات السياسية، وهو ما برّرته بـ”حملة تطهير لمكافحة الفساد”. علاوةً على ذلك، في حزيران (يونيو) 2024، وبعد تعيين مشعل للشيخ صباح الخالد الحمد المبارك الصباح وليًّا للعهد، كانت أول خطوة ديبلوماسية له هي لقاء نظيره السعودي والحاكم الفعلي للمملكة، الأمير محمد بن سلمان، مما يُشير إلى توطيد العلاقات الثنائية في ظل التحوُّل الذي تشهده الكويت.

شهدَ التحوُّل في الكويت أيضًا استهدافًا للإسلام السياسي، وخصوصًا جماعة “الإخوان المسلمين”، التي كان لها تمثيلٌ في مجلس الأمة الكويتي من خلال الحركة الدستورية الإسلامية (حدس). تُقرّب هذه الخطوة الكويت من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين اتخذتا خطواتٍ مُماثلة للحدِّ من نفوذ جماعة “الإخوان المسلمين” داخليًا وخارجيًا، نظرًا لتصنيفها منظمة إرهابية.

في ظل هذه الخلفية، تتضح التداعيات الأوسع لمركزية السلطة في الكويت. فوفقًا لتقرير منظمة “فريدوم هاوس” لعام 2025، انتقل وضع الكويت من “حرة جُزئيًا” إلى “غير حرة”. علاوةً على ذلك، واجه منتقدو التوجُّه الحكومي الجديد موجةً غير مسبوقة من الغرامات والسجن.

في حين أنَّ التحوُّلَ نحو الخصخصة والتحديث الاقتصادي قد يُسرّع الإصلاحات التي يراها الأمير ضرورية لنجاح البلاد الاقتصادي، فإنه يكشف أيضًا عن التجانس المتزايد في سياسات الكويت واقتصادها داخل دول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما مع انسجامه بشكل أوثق مع نموذج المملكة العربية السعودية.

في عصرٍ يتزايد فيه التسامح مع الاستبداد، يُعدّ تحوُّل الكويت خلال العام الماضي تطوُّرًا ذا دلالة، حتى وإن لم يحظَ باهتمامٍ يُذكَر مقارنةً بالدول الأخرى التي تشهد تحوّلات مماثلة. يبقى أن نرى ما إذا كان هذا التحوُّل سيؤتي ثماره بالعوائد الاقتصادية التي يُعَوِّلُ عليها الأمير.

Exit mobile version