هناكَ أعظمُ فُرصةٍ لإيران في التخلّي عن الجمود الإيديولوجي وتبنّي البراغماتية الاقتصادية، لكي تُصبحَ دولةً غير معزولة، لكن هذا يعتمد على التغلُّب على هَيمَنَةِ المتشدّدين الراسخة.
أليكس فاتانكا*
يبدو أن إيران تُعيدُ تَوجيهَ نهجها في التعامُل الديبلوماسي مع جيرانها والغرب من خلال إعطاء الأولوية للفوائد الاقتصادية القائمة على التعاون. وبينما تستحقُّ مبادرات إيران تجاه الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وروسيا والصين المُتابعة، إلّا أنها قد تُشيرُ إلى خطواتٍ براغماتية تهدفُ إلى تحقيقِ فوائد قصيرة الأجل بدلًا من تغييراتٍ إيديولوجية أعمق في الموقف. ومن المُرجّح أن تُجبِرَ الضغوطُ السياسية والاقتصادية الداخلية إيران على إعادةِ تقييم نهجها التصادُمي في علاقاتها مع جيرانها والقوى العالمية. ويُعَدُّ الانسحابُ المُحتَمل لدعم الحوثيين أحدثَ النتائجِ المُحتملة المهمّة لتغيُّر موقف إيران. وفي ما يلي خمسة عوامل يجب مراقبتها بينما تُعيدُ طهران، وهي تحت الضغط، صياغة سياساتها.
- الديبلوماسية الاقتصادية البراغماتية: هل تتجه إيران نحو الانخراط مع الولايات المتحدة؟
يبدو أنَّ السياسةَ الخارجية الإيرانية الحالية في ظلِّ القيادة الجديدة تُركّزُ على الانخراطِ الاقتصادي البراغماتي، لا سيما مع الولايات المتحدة، كوسيلةٍ لتخفيفِ التوتّرات الإقليمية. وقد سلّط مقالُ رأيٍ لوزير الخارجية عباس عراقجي في صحيفة “واشنطن بوست” بتاريخ 8 نيسان (أبريل) الفائت الضوءَ على تَحَوُّلِ طهران نحو مُناشدةِ غرائز الرئيس دونالد ترامب التجارية مباشرةً، مُصَوِّرًا إيران على أنها “سوقٌ مفتوحة” للاستثمار الأميركي في حالِ رَفعِ العقوبات.
يُشيرُ هذا إلى تَحَوُّلٍ تكتيكي نحو الديبلوماسية الاقتصادية، مع إعطاءِ الأولوية للمكاسب الفورية على المواقف الإيديولوجية. تُقلّلُ طهران من شأنِ الأعمال العدائية السابقة، بما في ذلك اغتيال قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإسلامي، الجنرال قاسم سليماني، على يد الولايات المتحدة في العام 2020، وتُؤكّد على التعاون المستقبلي، مُشيرةً إلى استعدادها لـ”وقفةٍ استراتيجية” بدلًا من المواجهة.
إنَّ الترحيبَ برَجُلِ الأعمال ستيف ويتكوف كمُفاوضٍ أميركي يؤكّدُ عزمَ إيران على إعادة صياغة علاقاتها من خلال التجارة، لا الصراع. محلّيًا، يُصَوَّرُ هذا النهجُ على أنه “فصلٌ جديد”، مع دعواتٍ لجميع الفصائل لدَعمِ الجهودِ الرامية إلى جذب الأعمال الأميركية. مع ذلك، هناكَ بعضُ المعارضة الداخلية من جانب المُتَشَدِّدين – على الرُغم من أنهم أقلية ضئيلة جدًا بحيث لا يستطيعون عرقلةَ العملية الديبلوماسية الجارية. وبينما تُظهِرُ القيادة في طهران انفتاحًا خارجيًا، يستمرُّ القمعُ في الداخل، مما يلقي بظلالٍ من الشك على عُمقِ التزام إيران بالإصلاح الحقيقي. مع ذلك، تبدو أولوية السياسة الخارجية واضحة: تأمينُ انفراجٍ اقتصادي من خلال التعاون، وخصوصًا مع الولايات المتحدة، مع احتواءِ الاضطرابات الداخلية.
2- التقارُبُ الإيراني-السعودي: إدارةُ المخاطرِ على حسابِ الاستقرارِ الإقليمي
يُمثّلُ التقارُبُ الذي توسّطت فيه الصين بين إيران والمملكة العربية السعودية في العام 2023 خطوةً تكتيكية نحو خَفضِ التصعيد، إلّا أنَّ استقرارَ الخليج في المدى الطويل لا يزالُ غيرَ مُؤكَّد. تَعكسُ المساعي السعودية الأخيرة، بما في ذلك زيارة وزير الدفاع خالد بن سلمان إلى طهران في نيسان (أبريل) 2025، رغبةَ الرياض في التحوُّطِ من التداعيات المُحتَمَلة للصراع الإيراني-الأميركي. من خلال التواصُلِ المُباشَر مع القيادة العسكرية الإيرانية، ولا سيما الحرس الثوري الإيراني، يسعى السعوديون إلى ضماناتٍ وممارسةِ نفوذٍ على موقف طهران الإقليمي، الذي يعتقدون أنَّ الجهات العسكرية هي التي تُشَكِّله أكثر من الديبلوماسيين.
يُشيرُ هذا النهج إلى استراتيجيةٍ سعودية براغماتية تَهدُفُ إلى تجنُّبِ التوَرُّطِ في حروبٍ إقليمية، بدلًا من إعادة تنظيم دائمة. وبينما يُشكّكُ البعضُ في طهران في وجودِ تنسيقٍ أميركي خلف الكواليس، يُعيدُ إحياءَ استراتيجية “الركيزتين المزدوجتين” للسيطرة الإقليمية المشتركة بين إيران والمملكة العربية السعودية، يُرَجَّحُ أن هذه النظرة تُبالِغُ في تقدير تماسك أهداف واشنطن الاستراتيجية الحالية.
واقعيًا، تستغلُّ المملكة العربية السعودية تَحَسُّنَ علاقاتها مع إيران لموازنة ضغوطِ كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، وخصوصًا في ما يتعلق بالتطبيع مع الدولة العبرية. ورُغمَ أنَّ العلاقات الإيرانية-السعودية بلغت أعلى مستوياتها منذ عقدين، إلّا أنَّ هذا الانفراجَ يُعَدُّ وسيلةً لإدارة المخاطر المشتركة أكثر منه أساسًا لاستقرارٍ دائم. ولا تزالُ التنافسات الهيكلية والضغوط الخارجية قائمة، مما يجعلُ السلام المستدام هشًّا ومُرتبطًا بالتطوُّرات الإقليمية الأوسع.
- التَوَجُّه الاستراتيجي شرقًا: حدودُ علاقاتِ إيران مع روسيا والصين
تُعيدُ علاقاتُ إيران المُتنامية مع روسيا والصين صياغةَ سياستها الخارجية في المقامِ الأول كاستراتيجيةٍ لمُواجَهة العقوباتِ الأميركية، إلّا أنَّ قيودًا كبيرة لا تزال قائمة. تسعى إيران إلى الاستفادة من شراكاتها ضمنَ أُطُرِ عملٍ مثل مجموعة “بريكس” المُكَوَّنة من عشر دول والتي أطلقتها روسيا ومنظمة شنغهاي للتعاون التي تُهيمن عليها الصين، وذلك لمقاومة الضغوط الأميركية، ومن المتوقع أن تُعزز اتفاقية التجارة الحرة مع روسيا التجارة الثُنائية.
مع ذلك، فإنَّ جُزءًا كبيرًا من النموِّ الأخير في التجارة بين إيران وروسيا كان مدفوعًا بأحداثٍ خارجية، مثل الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 والعقوبات التي فرضها الغرب لاحقًا، وليس بتوافُقٍ استراتيجي عميق. وفي ما يتعلّقُ بالقضايا الإقليمية، تَفتَقِرُ إيران وروسيا إلى التقارُب الكامل، لا سيما في ما يتعلق بإسرائيل والمستقبل السياسي لسوريا بعد الأسد. وتُشكّكُ طهران في التزام موسكو بالأهداف المشتركة، وغالبًا ما يكون هناك تنسيقٌ محدود بينهما في مناطق الصراع مثل جنوب القوقاز.
بينما لا يزال المرشد الأعلى علي خامنئي حريصًا على علاقاتٍ طويلة الأمد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنَّ اعتمادَ إيران على روسيا هو تكتيكي أكثر منه استراتيجي. تستخدمُ إيران هذه الشراكات للحفاظ على نفوذها، مع الانخراط في حوارٍ حذر مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، لا يزاُل انعدامُ الثقة بروسيا قائمًا في الدوائر الإيرانية والغربية على حدٍّ سواء. في نهاية المطاف، يَعكسُ تَوَجُّهُ إيران شرقًا ضرورةً، وليس تحوُّلًا جذريًا، ويظلُّ وضعها الاستراتيجي مُتقلِّبًا، ويتأثّرُ بالديناميكيات العالمية والإقليمية المُتَغيِّرة.
- الضغوطُ الداخلية التي تَدفَعُ إلى إعادةِ تَنظيمِ السياسة الخارجية
أثّرت الاضطراباتُ السياسية الداخلية والتحدّيات الاقتصادية في إيران بشكلٍ كبير في سياستها الخارجية، مما دفعَ طهران نحو موقفٍ أكثر براغماتية وأقلّ تشدُّدًا إيديولوجيًا. في مواجهةِ استياءٍ شعبي من سوءِ الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تُعيدُ القيادة الإيرانية تقييمَ سياساتها المُواجِهة. ومن العوامل الرئيسة وراء هذا التحوُّل التناقُض الصارخ مع دول الخليج العربية، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، التي انتقلت من سياساتٍ ذات تَوَجُّهٍ ديني إلى استراتيجياتٍ تُرَكّزُ على التجارة ومُتكاملة عالميًا. وقد تَفَوَّقَت هذه الدول، من خلال مواءمتها مع القوى العالمية وإعطاء الأولوية للديبلوماسية الاقتصادية، على إيران في النفوذ الإقليمي.
يُجادلُ المُعلّقون الإيرانيون بشكلٍ مُتزايد بأنَّ التزامَ طهران بالمواقف الإيديولوجية قد تركها معزولة، بينما تزدَهِرُ الدولُ العربية المُنافِسة كمراكز اقتصادية. ويُعزّزُ الضغطُ الناجم عن الاحتجاجات الداخلية والصعوبات الاقتصادية إجماعًا متزايدًا على ضرورة تخلّي إيران عن الانقسامات التبسيطية بين الشرق والغرب، واعتماد ديبلوماسيةٍ مَرِنة مُوَجَّهة نحو التجارة بدلًا من ذلك.
إنَّ تحوّلَ المملكة العربية السعودية يُؤثِّرُ بشكلٍ خاص في تشكيل هذا النقاش، إذ يُظهِرُ لإيران أنَّ البقاءَ في عالمٍ مُعَولَمٍ يتطلَّبُ القدرة على التكيّف، لا الجمود الإيديولوجي. ويعكسُ انخراطُ إيران مع إدارة ترامب هذا التحوّل الداخلي – سعيًا منها إلى تحقيقِ انفراجٍ اقتصادي وإعادة اندماج عالمي لاستقرار وضعها الداخلي. ويبقى الأمل أن تُعيدَ البراغماتية، لا الشعارات، مكانةَ إيران الإقليمية والدولية.
- الحربُ بالوكالة تحت الضغط: إعادةُ توازُنٍ تكتيكي
تُواجِهُ استراتيجيةُ إيران الإقليمية، المُتمثّلة في دَعمِ جماعاتٍ بالوكالة مثل “حزب الله” و”حماس” والحوثيين، تحدّياتٍ مُتزايدة في ما يتعلّق بالاستدامة، وذلك بسبب تَغَيُّرِ الديناميكيات وتَزايُدِ الضغوط الأميركية. وتُشيرُ التقارير الأخيرة إلى أنَّ طهران تُعيدُ النظرَ في دعمها للحوثيين، مع مزاعم بانسحاب القوات الإيرانية من اليمن لتجنُّبِ المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة. ويَعكسُ هذا التعديل حاجةَ طهران المُلِحّة لإعطاءِ الأولوية لأمنها في ظلِّ تكثيف الغارات الجوية الأميركية وتنامي الوجود العسكري الأميركي في البحر الأحمر والمحيط الهندي.
تُشيرُ رسالةُ إيران للحوثيين والميليشيات العراقية بضبط النفس إلى تحوُّلٍ استراتيجي. فبدلًا من التصعيد عبر وكلائها، يبدو أنَّ طهران تُركِّزُ على إدارة التوتُّرات وتجنُّب إعطاء ترامب ذريعةً لشَنِّ ضرباتٍ مباشرة. كما أفادت التقارير أنَّ الحوثيين، الذين أعادت واشنطن تصنيفهم منظمةً إرهابية، قللوا من نشاطهم، مما يشير إلى رغبة إيران في تخفيف الضغط الدولي وربما تقديم نفسها كوسيط.
علاوةً على ذلك، تُدرِكُ إيران تَزايُدَ انخراطِ قوى خارجية، مثل روسيا والصين، في ديناميكيات الحرب بالوكالة، مما يُعقّد نفوذها. وتُسلّطُ الاتهاماتُ المُوَجَّهة إلى روسيا بتزويد الحوثيين بالمعلومات الاستخباراتية والأسلحة الضوءَ على كيف أنَّ هذه الجماعات لم تَعُد تعملُ بتوجيهٍ إيراني حصري، مما يجعل سيطرة طهران عليها هشّة.
لا يُشيرُ هذا التحوُّلُ بالضرورة إلى التخلّي التام عن الحرب بالوكالة، ولكنه يُظهِرُ إعادة توازن براغماتية. تسعى إيران إلى تجنُّبِ التصعيد المُكلف مع الحفاظ على نفوذها الإقليمي. وتتنافس استراتيجيتها بالوكالة، التي كانت محورية في السابق، مع نهجٍ أكثر حذرًا وتركيزًا على البقاء في مواجهة التهديدات الأميركية وإعادة تقييم الأوضاع الإقليمية. وهكذا، أصبح دعم إيران للجهات الفاعلة المُزعزعة للاستقرار أكثر انتقائية وتكتيكية، بدلًا من التزامٍ شامل، مما يعكس التساؤلات المتزايدة حول استدامة هذه الاستراتيجية.
السياسةُ الخارجية الإيرانية عند مُفتَرَق طُرق: التحدّيات والفُرَص
على مدى السنوات الخمس المقبلة، ستُواجِهُ السياسة الخارجية الإيرانية تحدِّيَين مُترابطَين: النجاةُ من الركود الاقتصادي، والحَدُّ من هَيمَنَة المُتشدّدين. يُجادل النقاد داخل إيران بأنَّ محلّلي السياسة الخارجية المُتشدّدين، الذين يفتقرون إلى الخبرةِ العالمية والفَهمِ الدقيق، قد دفعوا البلاد إلى عزلةٍ استراتيجية. وقد أدى اعتمادهم على الخطاب الديني والشعارات المُعادية للغرب إلى عزل إيران عن النظام الدولي، لا سيما مع تقدُّم منافسيها في الخليج العربي، مثل المملكة العربية السعودية، من خلال ديبلوماسيةٍ براغماتية تُركّزُ على التجارة.
على الصعيد الاقتصادي، تُواجِهُ إيران أضعفَ وضع لها منذ الحرب الإيرانية-العراقية، حيث تُعاني من فشلِ أنظمتها المالية، وأزماتٍ بيئية، وانعدامِ الثقة العامة المستشري. وهذا يحدُّ بشدة من قدرة طهران على توظيف السياسة الخارجية لتحقيق الانتعاش الاقتصادي. فبدون الإصلاح، يفتقر النظام إلى رأس المال الاجتماعي والثقة العامة اللازمَين لتنفيذ مشاريع اقتصادية واسعة النطاق، بينما تقاوم جماعات المصالح الراسخة التغييرات التي قد تُفيدُ عموم الشعب. ومع ذلك، ثمة فرص. فالتعاون مع الولايات المتحدة بشأن اتفاق نووي مُحتَمَل قد يُخفّفُ العقوبات ويفتح آفاقًا للنمو الاقتصادي إذا استعاد البراغماتيون نفوذهم. وإذ يدركُ المعتدلون أنَّ مشاكل إيران الاقتصادية مرتبطة بسياستها الخارجية المُواجِهة، فهم يدفعون باتجاهِ التحوُّل نحو الديبلوماسية والتكامل العالمي. وفي نهاية المطاف، تكمن أعظم فرصة لإيران في التخلّي عن الجمود الإيديولوجي وتبنّي البراغماتية الاقتصادية، لكن هذا يعتمد على التغلب على هيمنة المتشدّدين الراسخة.
- أليكس فاتانكا هو زميل أول في معهد الشرق الأوسط، والمدير المؤسِّس لبرنامج إيران في المعهد. وهو متخصّص في شؤون الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، مع التركيز بشكل خاصّ على إيران.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية على موقع معهد الشرق الأوسط في واشنطن.