هُدى الحُسَيني*
هل يُكَرِّرُ الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين الأخطاءَ التي ارتكبها الرئيسُ السوري السابق بشار الأسد؟ يعتقدُ كثيرون أنَّ الإجابة قد تكون نعم.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، انهارَ نظامُ الأسد بسرعةٍ مُذهلة بعد سنواتٍ من حُكمٍ قمعي للشعب السوري. ووفقًا لصحيفة “واشنطن بوست”، كانَ الانهيارُ المُفاجئ للنظام مُرتَبطًا مباشرةً برفضه الفُرَص التي قدّمتها إليه الولايات المتحدة وتركيا لإجراءِ تسوياتٍ سياسية، في مقابل تخفيف الضغوط الديبلوماسية والاقتصادية التي كانت دمشق تُعاني منها لسنوات.
في ما يتعلق بالولايات المتحدة، عرضت واشنطن على الأسد تخفيفَ بعضِ العقوبات المفروضة على الاقتصاد السوري مقابل موافقته على منع إيران من الاستمرار في استخدام الأراضي السورية لإمداد ميليشيا “حزب الله” اللبناني. وبشكلٍ مُنفَصِل، اقترحت تركيا تطبيعَ العلاقات بين أنقرة ودمشق مُقابل التزام النظام السوري بكبحِ الجماعات الكردية المُسلّحة العاملة على طول الحدود التركية-السورية، وهي جماعاتٌ كانت تُعَدُّ تهديدًا للأمن القومي التركي.
لكنَّ الأسد رفضَ النظرَ في أيٍّ من العَرضَين. ووفق مصادر “واشنطن بوست”، عندما شنّت “هيئة تحرير الشام” المدعومة من تركيا هجومها في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 ضد قوات النظام السوري، تخلّى كثيرٌ من السوريين، الذين كانوا سابقًا مُوالين للأسد، عن دعمه ورفضوا الدفاع عن نظامه. وكان هؤلاء السوريون غاضبين من رَفضِ الأسد الفُرَص التي كانت من الممكن أن تُخفِّفَ من عُزلةِ بلادهم وتُحسِّن اقتصادها.
اليوم، يبدو أنَّ بوتين في روسيا يُسلُكُ الطريقَ ذاته، مُغضِبًا شعبه بطريقةٍ مُماثلة. فمنذُ تنصيبه في 20 كانون الثاني (يناير) 2025، سعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى التفاوُض مع روسيا وأوكرانيا لوَضعِ حَدٍّ للحربِ الدموية التي تشنُّها روسيا ضد جارتها الغربية. وبصفته قائد أقوى دولة في العالم، فإنَّ سَعيَ ترامب إلى إنهاءِ هذا الصراع وإنقاذِ الأرواح أمرٌ منطقي ومُبرَّر. ولقد تحدّثَ ترامب مباشرةً مع بوتين، كما انخرطَ كبارُ مسؤولي إدارته في ديبلوماسية مكّوكية منذ كانون الثاني (يناير) 2025، وعقدوا اجتماعاتٍ مع المسؤولين الروس والأوكرانيين لمحاولة التوصُّل إلى إنهاءِ الحرب.
على الرُغمِ من أنَّ الحكومةَ الأوكرانية أظهرت استعدادًا لتقديمِ تنازُلاتٍ من أجلِ وقفِ إطلاقِ النار وإنهاءِ القتال، فإنَّ بوتين واصلَ تقديمَ مطالب مُتَطَرِّفة إلى كييف والولايات المتحدة، واستمرَّ في شنِّ هجماتٍ وحشية على السكان المدنيين والبنية التحتية في أوكرانيا. وبحلول أواخر آذار (مارس) الماضي، أعربَ الرئيس الأميركي علنًا عن إحباطه المتزايد من سلوك بوتين، مُشيرًا إلى أنَّ صبره مع تعنُّتِ الكرملين بدأ يَنفُد.
والأسبوع الماضي بعد لقائه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في الفاتيكان، خلال اجتماعٍ خاص، وَصَفَ ترامب اللقاء بأنه “مُثمرٌ للغاية”، مُشيرًا إلى أنه ناقشَ مع زيلينسكي إمكانية التوصُّل إلى وقف إطلاق نار غير مشروط وسلام دائم. كما أعربَ عن استيائه من الهجمات الصاروخية الروسية الأخيرة على المدنيين في كييف، وهدّدَ بفرضِ عقوباتٍ جديدة على روسيا، بما في ذلك عقوبات مصرفية أو ثانوية. وقال إنَّ بوتين غيرُ راغبٍ في وَقفِ الحرب.
رَدُّ بوتين على جهود ترامب لم يَكُن غير مُفيد فحسب، بل عَدَّه كثيرون مُهينًا لترامب، الذي عرض حوافز كبيرة على الكرملين، وحاول إنهاء حرب أودت بحياة مئات الآلاف من الروس والأوكرانيين، وأضعفت الاقتصاد الروسي بشدة، وعمَّقت عزلة موسكو الديبلوماسية أكثر مما كانت عليه قبل غزو أوكرانيا.
نُشِرَ التقرير الأصلي لصحيفة “واشنطن بوست” للقراء في روسيا بتاريخ 9 كانون الأول (ديسمبر) 2024 عبر صحيفةٍ روسية على الإنترنت. وكان هذا تطوّرًا لافتًا، نظرًا إلى أنَّ الحكومة الروسية تُسيطرُ بعناية على جميع وسائل الإعلام داخل البلاد وتُخضِعها للرقابة، مما يشير إلى أنَّ الكرملين ربما رأى قيمةً في إيصالِ رسالةٍ إلى القراء الروس حول ما حدث عندما رَفَضَ الأسد استغلالَ الفُرَص لإنهاءِ العزلة الاقتصادية والديبلوماسية.
هل من المُمكن أنَّ مَن هُم حولَ بوتين كانوا يبعثون له برسالةٍ مُبطَّنة بأنهم، مثل نظرائهم السوريين، لن يستجيبوا جيدًا إذا أضاعَ بوتين أيَّ فرصةٍ يُقدّمها له فريق إدارة ترامب المقبلة لإنهاء العزلة؟
عندما يلتقي المفاوضون الأميركيون مع نظرائهم الروس لمناقشة وقف إطلاق النار، فمن المؤكّد أنَّ شخصًا ما من الجانب الأميركي يُذكِّرُ الروس بأنَّ رفضَ بوتين اتخاذ الخطوات اللازمة لإنهاء الحرب يؤدّي إلى استمرار المعاناة الاقتصادية التي يعيشها كثيرٌ من الروس منذ أن قرَّر بوتين غزو أوكرانيا للمرة الأولى في آذار (مارس) 2014، والتي تفاقمت بشكلٍ كبير بعد توسيعه نطاق الحرب في شباط (فبراير) 2022.
إذا أضاعَ بوتين جهود الرئيس ترامب للتوصُّل إلى وقفٍ لإطلاق النار، فإنه يُخاطرُ بزيادة المشكلات الداخلية والخارجية التي تواجه الدولة الروسية ومواطنيها بشكلٍ كبير. لذلك يحاول المسؤولون الروس المُقرَّبون من بوتين أن يُشَجِّعوه على إعادةِ قراءة تقرير “واشنطن بوست” والتفكير جيدًا في العواقب المترتّبة على استمرارِ رفضه اتخاذ الخطوات اللازمة لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
هذا الأسبوع قرّرَ بوتين توجيهَ رسالةٍ إلى ترامب بأنه “الشرطي الجيد”، وليس كما يقول ترامب إنه يرفضُ وقف الحرب، فأعلن وقفًا لإطلاق النار لمدة ثلاثة أيام، بمناسبة ذكرى انتصار الاتحاد السوفياتي على ألمانيا النازية وسقوط برلين (نهاية الحرب في أوروبا)، وتمتدُّ الهدنة من الثامن حتى الحادي عشر من أيار (مايو) الجاري، وحمّل أوكرانيا مسؤولية خرق هذه الهدنة، مُتَّهمًا إياها بأنها “الشرطي السيّئ”. وعلى ترامب أن يُقرِّر.
- هدى الحسيني هي صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، تعملُ في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية. عملت في صحفٍ ومجلّات عدة منها: “الأنوار” في بيروت، و”النهار العربي والدولي” و”الوطن العربي” في باريس ، و”الحوادث” و”الصياد” في لندن. غطّت حربَ المجاهدين في أفغانستان، والثورة الإيرانية، والحرب الليبية-التشادية، وعملية “الفالاشا” في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الأولى. حاورت زعماءَ دول عربية وأجنبية عديدين بينهم الإمام روح الله الخميني (الذي رافقته في الطائرة التي أعادته من باريس إلى طهران) والملك الحسن الثاني والرئيس صدام حسين والرئيس ياسر عرفات والرئيس الأوغندي عيدي أمين...
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.