حينَ لا يَستَطيعُ الجيشُ اللبناني أن يَتَقَدَّمَ … ولا “المقاومة” أن تعود

البروفِسور بيار الخوري*

نقفُ في عيد الجيش، الذي يُصادِفُ اليوم، (الأول من آب/أغسطس)، أمامَ لحظةٍ مفصلية في تاريخ لبنان الحديث: لحظةُ عبورٍ بين نظامَين أمنِيَين. الأوّل، ارتكزَ لثلاثةِ عقودٍ على تقاطُعٍ بين شرعيةِ الدولة وسلاحِ “المقاومة الإسلامية”. تقاطُعٌ لم يكن يومًا غير مضطرب، لكنه صمدَ بفِعلِ معادلاتٍ إقليمية، وتوافُقٍ داخلي، وميزانِ قوى كان يميلُ لصالح “محور المُمانعة” الذي تقوده طهران في المشرق ولبنان. أما النظامُ الأمني الجديد، والذي لم يُولَد بعد، لا صياغةَ له، ولا توافُقَ عليه، لكنه باتَ ضرورةً وجودية في ظلِّ الانهيارات المتزامنة على المستوى الإقليمي والداخلي.

غيابُ هذا النظام البديل لا يُعوّضه الزمن. فالفراغُ، حين يَتّسِعُ، لا يبقى مجرّدَ مساحةٍ بين نموذَجَين، بل يتحوّلُ إلى فجوةٍ جاذبة للفوضى. إِمّا أن يُملأ بالسرعةِ المُمكِنة من خلالِ تسويةٍ وطنيةٍ شاملة تُعيدُ إنتاجَ التفاهُمِ حولَ وظيفةِ الأمن والسلاح في الدولة، وإِمّا أن يُستَغَلَّ من قبل قوى خارجية تبحثُ عن موطِئِ قدمٍ في بلدٍ متروك، أو، وهو الأخطر، أن ينفجرَ من الداخل نتيجةَ غيابِ التوازن، وانعدام الثقة، وتضارُب التمثيل وانحلال الدولة.

في هذا السياق، تُصبِحُ إشكاليةُ السلاحِ أكثر استعصاءً. فالتباطُؤ في حَسمِ مسألةِ حصريةِ القوة بيد الدولة، في ظلِّ الانهيارِ الشامل الذي تُعانيه المؤسّسات، لم يَعُد ترفًا سياسيًا. إنَّ إرجاءَ الحلِّ يُراكم المخاطر، ويجعلُ من الفوضى احتمالًا واقعيًا، لا مجرّدَ سيناريو. لكن في المقابل، فإنَّ أيَّ ضغطٍ مباشر أو مُتسرِّعٍ يضعُ “حزب الله” في الزاوية، سيكون له الأثر المدمّر ذاته، وربما أسرع. نحن أمامَ مُعادلةٍ حسّاسة: التأخيرُ مُدمِّر، والتسرُّع مُدمِّر. والخروجُ منها يتطلّبُ مُقارَبةً دقيقةً تُوازِنُ بينَ الحاجة إلى استعادةِ احتكارِ الدولة للسلاح، والحاجة المُوازِية إلى تجنّبِ تفجيرِ الاستقرار.

الرهانُ على الجيش اللبناني كمؤسّسةٍ بديلة هو في جوهره منطقي، لكنه في العُمقِ مُحاطٌ بتعقيداتٍ جمّة. فالجيشُ، الذي بقي حتى الآن مظلّةً نسبيةً للوحدة الوطنية، لا يُمكِنُ أن يُزَجَّ به في مواجهةٍ سياسية، إذا ما تَحَوّلَ إلى الأداة التنفيذية لسحب سلاح “حزب الله” من دونِ توافُقٍ طائفيٍّ شامل. في أوساطٍ شيعيّةٍ واسعة، لا يزالُ السلاح يُنظَرُ إليه كضمانةِ وجود، لا مجرَّدَ ورقةِ تفاوُض. أيُّ خطوةٍ أحاديةٍ لتوسيع صلاحيات الجيش بدون توافُقٍ سياسي وطني مُسبَق، ستُقرأ على أنها عمليةُ إقصاءٍ مُقنّعة، وقد تتحوّلُ سريعًا إلى نقطةِ اشتباكٍ مجتمعي طائفي، لا عسكريًّا فقط.

وهنا تبرزُ مُعضِلةُ الهوية: ما هو الجيش الذي نريده؟ هل هو جيشُ مُواجَهة في إطارِ عقيدةٍ دفاعيةٍ وطنية شاملة؟ أم جيشٌ لضبطِ الحدود ومحاربة الإرهاب؟ أم قوّةُ تدخُّلٍ داخلي لحماية الاستقرار؟ من دونِ إجابة دقيقة، لا يُمكِنُ بناءُ هيكلٍ وظيفي واضح، ولا يمكنُ أيضًا تأمينُ ما يلزَمُ له من تسليح وتمويل وتدريب.

لكن حتى لو وُجِدَت الرؤية، فإنَّ العقبةَ الاقتصادية تقفُ حجرَ عثرة هائلًا. الدولة مُنهارة، والمُجتمع مُنهَك، والجيشُ يُعاني أصلًا من استنزافٍ في موارده البشرية والمالية. محاولةُ إعطائه دورًا أكبر من قدرته بدونِ رافعةٍ اقتصادية واضحة، لن تكونَ سوى وصفةٍ لفشلٍ جديد، يُضافُ إلى سجلِّ الدولةِ اللبنانية المُتهالك، وربما يُفقد المؤسّسة الوطنية الوحيدة المتبقّية التي ما زال الناس يثقون ويؤمنون بها.

في هذا الوقت، لا يقفُ الداخل وحده أمامَ مُعضِلة الانتقال. فكلُّما اقترب لبنان من إعادةِ بناءِ منظومةٍ أمنية جديدة، دخلت قوى خارجية لتُعيد خلط الأوراق. بعضها يريد تقليص نفوذ “حزب الله” بدون أن يسمحَ بتقوية وتعزيز الجيش، كي يبقى لبنان هزيلًا وتابعًا. وبعضها يفضّل تركَ الوضع على حاله، كأرضِ تسوياتٍ مفتوحة، بدلًا من دولةٍ مُكتملةِ العناصر. السؤال الأساس هنا: كيفَ يُمكِنُ للبنان أن يفرضَ توازُنه الداخلي الأمني من دون أن يُفرَضَ عليه من الخارج؟ هل يمكنُ صياغةُ معادلةِ أمانٍ لبنانية، تنبع من الحاجة إلى الاستقرار والشرعية، لا من إملاءاتٍ أو مصالح دولية مُتضاربة؟

هنا تدخُلُ مقاربةُ السلطة التنفيذية الجديدة، رئاسة الجمهورية والحكومة. قد يبدو أداءُ العهدِ بطيئًا في مُقاربةِ ملفّي السلاح والأمن، لكن هذا البطء ليس ناتجًا عن تردُّدٍ أو غيابِ رؤية، بل عن استيعابٍ عميقٍ لحجمِ المخاطر المُحيطة بالمرحلة الانتقالية. فالسلطة التنفيذية تُدرِكُ أنَّ أيَّ تحرُّكٍ متسرّعٍ نحو تفكيكِ الثُنائية، بدون تهيئةِ البيئةِ السياسية والمجتمعية، قد يفجّرُ التوازنَ المُضطرب ويضعُ الجيش في مواجهةٍ لا طاقة له بها.

لهذا، فإنَّ وتيرةَ العملِ تسيرُ ضمنَ منطقِ “الإخماد البارد”، لا التصعيد ولا التراخي. فهناكَ مساران مُتوازيان يُداران بدقة: الأول هو احتواءُ حساسيات البيئة الشيعية بدونِ استفزاز، والثاني هو إعادةُ صياغةٍ غير مباشرة لفكرة الدولة كمَرجعيةٍ أمنية وحيدة. وهي مُقاربةٌ تقومُ على امتصاصِ الضغوط، وتدويرِ الزوايا، وتَركِ باب التفاهُم مفتوحًا من دون تقديمِ تنازلاتٍ جوهرية.

 

البطءُ في هذا الإطار، ليسَ علامةَ ضُعف، بل تفادٍ للفوضى، وضبطُ مسارِ الانتقال الأمني من مرحلةِ السلاح المُزدَوِج إلى مرحلةِ الاحتكارِ الشرعي المُنَظِّم للقوة، بدون خسارةِ التماسُكِ الوطني أو وحدة الجيش أو استقرار البلد.

الحقيقةُ أنَّ الاستعدادَ لما بعد الثُنائية لا يعني فقط تفكيكَ السلاحِ أو استيعابه، بل يتطلّبُ أوّلًا إعادةُ تعريف مفهوم القوة الشرعية. الاتفاقُ الذي لا لبسَ فيه على احتكارِ العنف، ما هو سقفه؟ ما هي شروطهُ؟ مَن يُراقبهُ؟ ومَن يُمَوِّلهُ؟ إنها أسئلةٌ تأسيسية لنظامٍ لبنانيٍّ جديد، لا يُمكن تأجيل الإجابة عنها أكثر.

وحتى نصل إلى هذا النظام، نحنُ بحاجةٍ إلى مرحلةٍ انتقاليةٍ واقعية، لا تجميلية: أمنيّة، سياسيّة ومجتمعيّة، تعترفُ بأنَّ ما بعدَ الثنائية لا يُولَدُ بمرسومٍ ولا بإعلانِ نوايا. إنه يُولَدُ من تفاهُمٍ بارد، لكنه صادق، من توازُنٍ بين الهواجس والمصالح، من القدرةِ على تقديمِ ضماناتٍ مُتبادَلة، ومن مشروعٍ وطني يُقنِعُ الجميع بأنه لا يُقصي أحدًا ولا يُسلّحُ أحدًا ضد أحد.

هي ليست مهمّة سهلة. لكنها المهمّة الوحيدة المُمكنة. لأنَّ البديلَ منها، هو انتحارٌ جماعي على مذبحِ الانهيارِ المستمر والمصالح الخارجية.

Exit mobile version