مايكل يونغ*
يُصادِفُ الرابع من آب (أغسطس) الذكرى الخامسة لانفجارِ مرفَإِ بيروت الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص، وهو أحد أكبر الانفجارات غير النووية على الإطلاق. ولا تزالُ عائلات الضحايا تنتظر العدالة. في وقتٍ سابق من هذا العام، استأنف القاضي طارق البيطار، المُكَلَّف بالتحقيق في المأساة، تحقيقه الذي عُلِّقَ بعدَ تدخُّلٍ سياسي مُتَكرِّرٍ لعرقلته.
أدّى انتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية في لبنان في كانون الثاني (يناير)، وما أعقبه من تعيين نوّاف سلام رئيسًا للوزراء، إلى آمالٍ كبيرة في أن تُكلّلَ جهودُ البيطار بالنجاح. وربما ذلك قد يتحقّق، لا سيما وأنَّ القاضي أظهر مثابرة وشجاعة كبيرتين في المضي قدمًا في مهمته، إلّا أنَّ العقبات لا تزال هائلة.
ما يصبُّ في مصلحة البيطار هو أنَّ الرئيس سلام، القاضي السابق الذي كان رئيسًا لمحكمة العدل الدولية، قد التزمَ بالدفعِ قدمًا بخطةٍ لاستقلال القضاء. كما سعى العماد عون إلى تصوير نفسه كمُصلِح. ولكن من المؤكد تقريبًا أنَّ السياسةَ سوف تؤدّي مرةً أخرى إلى تعقيدِ الأمور.
لقد وسّعَ البيطار دائرةَ المسؤولية في تحقيقه، ما أثارَ حفيظةَ العديد من أعضاء الطبقة السياسية اللبنانية. كان مرفأ بيروت دارًا مُتعدّدة الأدوار، حيث عَيّنت مختلف الفصائل السياسية في البلاد أتباعها في مناصب النفوذ. باستدعائه سياسيين ورجال أمن لمعرفة المسؤول عن السماح بتخزين نترات الأمونيوم التي تسببت في الانفجار في المرفَإِ، أثار القاضي قلقًا وردودَ فعلٍ من جميع الأطياف السياسية.
في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، رَفعَ “حزب الله” وحركة “أمل” المتحالفة معه وتيرةَ الاحتجاجات بشكلٍ مُثيرٍ للقلق. نظَّمَ أنصارهما مظاهرةً ضد القاضي البيطار أمامَ قصر العدل، مرورًا بحي عين الرمانة المسيحي. في طريقهم، دخل عدد من المتظاهرين الحي، وهم يهتفون بشعاراتٍ طائفية، مما أثار ردَّ فعلٍ من شباب المنطقة الذين قتلوا متظاهرًا واحدًا على الأقل.
لم يَكُن قرارُ دخولِ عين الرمانة مُصادفة. كانت الغالبية العظمى من ضحايا الانفجار من المسيحيين. باقتحامِ منطقةٍ ذات غالبية مسيحية وترديد شعارات شيعية، أرادَ المتظاهرون إظهارَ أنَّ استمرارَ تحقيق بيطار قد يؤدّي إلى صراعٍ طائفي.
بعدَ إطلاقِ النار على المتظاهرين، انسحب “حزب الله” و”أمل” مع أسلحتهما، حيث كان من شأن ذلك أن يؤدّي إلى صدامٍ طائفي مسلّح. لكن في اللحظة المناسبة، تدخّل الجيش وأطلق النار على المتظاهرين المسلّحين، فقتل عددًا منهم وأوقف بعضهم.
خلف الكواليس، أبلغ الجيش المُقرَّبين منه، وهو أمرٌ منطقي، أنه تجنّبَ حربًا أهلية جديدة، مع أنه لم يُقرّ علنًا بمسؤوليته عن إطلاق النار على المتظاهرين. كان قائد الجيش آنذاك العماد جوزيف عون، رئيس الجمهورية الحالي.
لذلك، بين عون، الذي أظهر حسمًا كبيرًا في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، وسلام، الذي يدعم استقلال القضاء، قد لا يكون لدى البيطار ما يخشاه. ومع ذلك، يُرجّح أن يواجه القاضي العقبات نفسها التي واجهها في عهد رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي إذا قرر البيطار اعتقال كبار السياسيين. علاوةً على ذلك، لا يمكننا تجاهل أنَّ لرئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة حسابات سياسية خاصة بهما.
على سبيل المثال، بينما يحتفظ عون بقدرٍ كبيرٍ من الاحترام، فقد سعى أيضًا إلى الحفاظ على علاقةٍ جيدة مع رئيس مجلس النواب، نبيه بري، ومع “حزب الله”. وهذا منطقي عمليًا، لأنَّ كليهما لا يزال يتمتع بسلطةِ عرقلة العديد من القرارات في البلاد. كما إن رئيس الجمهورية حريص، في ظلِّ الضغوطِ الدولية، على التوصّلِ إلى اتفاقٍ سلمي مع “حزب الله” بشأن سلاحه، ولذلك يريد تجنُّبَ أيِّ شيءٍ من شأنه أن يُعيقَ ذلك.
يبدو أيضًا أنَّ الرئيس عون يرغبُ في جلبِ مجموعةٍ من المؤيّدين إلى البرلمان في انتخابات العام المقبل. العديد من مرشحيه المحتملين معروفون، وقد طُردوا من التيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل. سيحتاجُ معظمهم إلى أصوات شيعية لإعادة انتخابهم في دوائرهم، وتحديدًا بعبدا وجبيل وحتى المتن، حيث توجد كتل تصويتية شيعية قوية.
هل سيُعرِّضُ عون هذا الدعم للخطر إذا كان ذلك يعني دعم قرار البيطار باستدعاء سياسيين أو شخصيات أمنية مقرَّبة من بري و”حزب الله” للاستجواب؟ بالنظر إلى طموحاته الانتخابية، ومركزية بري و”حزب الله” في أهدافه الأخرى، فإنَّ الأمر ليس مؤكّدًا.
قد يكون من السابق لأوانه التنبؤ، على الرُغم من وجود تقارير تفيد بأنَّ البيطار يرغب في إصدار لوائح اتهام في الذكرى السنوية الخامسة. ولكن حتى لو صدرت لوائح اتهام، فكيفَ سيكونُ ردُّ فعلِ الطبقة السياسية؟ يُشبه انفجارُ المرفَإِ رواية أغاثا كريستي “جريمة في قطار الشرق السريع”، حيث أنَّ الإهمالَ والفسادَ اللذين أدَّيا إلى وقوعه امتدّا عبر المشهد السياسي، بحيثُ كان الجميع مشاركين في الجريمة.
يمكننا أن نكونَ على يقين من أنه بمجرّد أن تُهدّدَ لائحة الاتهام سلطة القيادة السياسية اللبنانية، سيحاولون جاهدين تحييد التحقيق. قد لا يتمكّنون من إيقاف البيطار، وسيكون من الحماقة محاولة ذلك في هذه المرحلة، لكنهم قد يحاولون إيجاد كبش فداء وحصر الاتهامات في مثل هذه الشخصيات، قبل إغلاق الملف.
البطاقة الغامضة هنا هو البيطار نفسه. لقد أظهر نزاهةً عاليةً في عمله، رُغمَ المخاطر الحقيقية التي واجهها. من غير المرجح أن يوافق على إخفاء الحقيقة. لكن، قد يفعل ذلك العديد من رؤسائه. عائلات الضحايا ترغب في تحقيق العدالة، وهذا حقها، لكن لبنان بلدٌ غابت فيه العدالة منذ عقود.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.