هل يُطرَحُ مُستقبلُ الحرس الثوري ودوره في مفاوضات أميركا مع إيران؟

تَطرَحُ هذه المقالة صعوبةَ نجاحِ تَحويلِ إيران إلى دولةٍ “طبيعية” في المنطقة من دونِ مُقارَبَةِ مَوقع الحرس الثوري ووظيفته في الدولة. فقد تحوّلَ الحرس خلال السنوات الأربعين الماضية إلى قوةٍ عسكرية وسياسية واقتصادية لا يُستهانُ بها تستفيدُ من نظام العقوبات لتصنع اقتصادًا مُوازيًا وتَستفيدُ من العزلة الدولية للدولة الإيرانية لتحكم سيطرتها على معظم مؤسّسات الدولة الأمنية والعسكرية.

الجنرال قاسم سليماني: باغتياله ضعفت أذرع إيران في المنطقة وفقدت بوصلتها.

ملاك جعفر عباس*

فيما تَغوصُ إيران-الدولة، مُمَثَّلةً بوزيرِ الخارجية عبّاس عراقجي، في المفاوضات التقنية على تفاصيل البرنامج النووي الإيراني الهادفة من الجانب الأميركي إلى مَنعِ إيران من امتلاكِ سلاحٍ نووي (لا تمتلكه بعد) ومن الجانب الإيراني إلى رَفعِ العقوبات، تترقّبُ إيران- الثورة، مُمثّلةً بالحرس الثوري الإسلامي وأذرعه ووكلائه، نتائجَ هذه المفاوضات، كاظمةً الغيظ مُجبَرةً لا بطلة بفعلِ توجيهات المرشد الأعلى علي الخامنئي.

وقد شكّلت ثُنائيةُ الدولة والثورة طابعًا فريدًا للحُكمِ في إيران منذ الثورة الإسلامية في العام 1979 حيثُ اتّخَذَ الحرسُ الثوري، الذي يُعتَبَرُ الخامنئي مؤسّسه الفعلي، مَوقِعًا مُتعاظِمًا في هيكليةِ الحُكمِ المُعقَّدة هذه، فتحوَّلَ إلى الرافعة الأساسية التي حمت الخامنئي وارسَت دعائمَ حُكمِهِ بعد أن تولّى منصبَ المُرشد الأعلى خلفًا للإمام روح الله الخُميني، ولم يَكُن يتمتَّعُ حينها بقاعدةٍ شعبية أو سياسية كبيرة. وفي المادة 150 من الدستور الإيراني، يُعتَبَرُ الحرس الثوري الإسلامي حاميًا للثورة وإنجازاتها ويعملُ إلى جانب القوات العسكرية الأخرى وفقًا لأحكامِ القانون وقواعد التعاون الأخوي والتنسيق في ما بينها. مهمّته الأساسية الدفاع عن المرشد الأعلى، فهو يتبع له مباشرةً ولا يتلقّى أوامره من قيادة الجيش، وتتفرّعُ هذه المهمة إلى اعتقال واحتجاز مَن يعتبره الحرس تهديدًا للجمهورية الإسلامية، وتتمدّدُ خارجَ الحدود من خلال دَعمِ المجموعات والدول المسلمة “المُضطهَدة”، أي أنه يُشكّلُ الأداةَ الفعلية لتصديرِ الثورة.

البداية وتطوُّر الدور

عند وصول الخميني إلى الحُكمِ كان التشكُّكُ في نيّاتِ وميولِ قادة الجيش وعناصره سَيِّد الموقف، وقد أوكِلت مهمة “تطهير” الجيش من العناصر المُوالية للشاه محمد رضا بهلوي وتدريب عناصر الحرس العقائديين إلى مصطفى شمران الذي أسّسَ بعد ذلك حركة “أمل” في لبنان. وللحرس هياكل مُشابهة وموازية للجيش من قواتٍ برية وجوية وبحرية، ويستحوذ “فيلق القدس” التابع لها على قوّات النخبة فيها. وقد أُسِّسَ “فيلق القدس” في العام 1988، وعاش فترته الذهبية تحت قيادة الجنرال قاسم سليماني وشخصيته الاستثنائية ومهاراته في التخطيط الاستراتيجي والتكتيكي. فتمكّنَ سليماني من تأسيسِ واستقطابِ مجموعاتٍ مُسلَّحة مؤيّدة له (وليس لإيران في بعض الحالات) على امتداد العالم العربي والإسلامي ك”حزب الله” في لبنان، وحركة “أنصار الله” (حركة الحوثي) في اليمن، ومنظمة “بدر” و”كتائب حزب الله” و”عصائب اهل الحق” و”كتائب سيد الشهداء” في العراق، كما تمكّن من تجاوز الهوّة العقائدية مع الإسلام السياسي السنّي ناسجًا علاقاتٍ عابرة للتشدُّد مع حركتَي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتَين، وجماعة “الإخوان المسلمين” في الأردن، وتنظيم “القاعدة” على اختلاف فروعه. وقد شكّلت هذه الجماعات خطَّ الدفاع الأول عن إيران ومصالحها في المنطقة، وأتاحت استقلاليةُ عَملِ الفيلق ومنهجيته تَركَ مسافةِ أمانٍ نسبي تُمَكّنُ إيران-الدولة من التبرُّؤ من افعال هذه المنظمات كما حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

لعبت ظروفُ الحرب العراقية-الإيرانية دورًا مفصليًا في نموِّ الحرس ودخوله في الحياة السياسية والدورة الاقتصادية. ففي العام 1982 كان عديد الحرس يقارب 55 ألف عنصر تضخّمَ في خمس سنوات فقط إلى ما يفوق ال450 ألفًا. صحيحٌ أنَّ الجيش العراقي كان مُتفوِّقًا على الجيش الإيراني من حيث العدد والتجهيزات والتسليح، إلّا أنَّ إيران أدركت مُبكِرًا أنَّ الحربَ التقليدية ليست لصالحها فراهنت على أسلوب حرب العصابات الذي تلقته النواة الأساسية للحرس الثوري في معسكرات التدريب في لبنان، وتمكّنت من دمج عمل الجيش التقليدي مع “الباسيج” والحرس مُتَحَمِّلةً خسائر بشرية مهولة لكنها كانت فعّالة في إرهاق ذخيرة الجيش العراقي في البر والبحر والجو. وتقول الباحثة ألما خيشافارز في كتابها ” الحرس الثوري الإيراني، تعريف العقيدة العسكرية الإيرانية” (The Iranian Revolutionary Guard Corps: Defining Iran’s Military Doctrine) إنَّ إيران خسرت الحرب ضد العراق لكنها استفادت من بعض النجاحات لوضع إطار استراتيجيتها العسكرية القائمة على الدفاع الهجين (Hybrid defence) والتي يشكل الحرس الثوري و”فيلق القدس” والوكلاء أعمدتها الأساسية.

وفي مرحلة إعادة إعمار ما دمّرته الحرب، سمح الرئيس أكبر هاشمي رفسنجاني للحرس الدخول في مشاريع البناء والترميم، ونقلَ له مُلكيةَ بعض الأبنية والمصانع ليتمكّن الجهاز من تمويل نفسه، فأسّس الحرس جمعياتٍ خيرية شكّلت مظلّات لشركاتٍ في قطاعاتِ الزراعة والهندسة والمقاولات والصناعة والنقل تُشرِفُ عليها مجموعةَ “خاتم الأنبياء” مُستفيدةً من عقودٍ مُلَزَّمَة بدون إجراء أي مناقصات، بحسب خيشافارز. وتُشرفُ مجموعةُ “خاتم الأنبياء” على مشاريع البنى التحتية لبرنامج الصواريخ الباليستية والبرنامج النووي وتتربّعُ على إمبراطورية مالية تفوق قيمتها 12 مليار دولار، كما يمتلك الحرس شبكةً من مئات الشركات والمؤسّسات تَخدُمُ جميعها الهدف نفسه: التهرُّب من العقوبات وتحويل موارد الدولة إلى ميزانية الحرس. وقد تحوّلَ الحرس إلى قوة اقتصادية ظلّت تتعاظم رُغمَ كلِّ محاولات رفسنجاني ومن بعده خاتمي لتحجيمها. فالتصاقُ المصالح بين الحرس والخامنئي، ووحدة الخطاب المُتشدّد عقائديًا و”المنتصر لقضية الفقراء والمُستَضعَفين” والمُعادي للغرب وسياساته الاقتصادية حمى الحرس من كلِّ محاولات تقليم الأظافر التي حاول الرئيسان القيام بها لتعويم الاقتصاد الإيراني وفتح المجال أمام الاستثمارات الخارجية. وقد شكّلَت فترة حُكمِ محمود أحمدي نجاد العصر الذهبي للحرس حيث توسّع نفوذه العسكري والأمني والمالي والاقتصادي ليحتل أهم المواقع في المؤسّسة الأمنية ويتحوّلَ إلى إمبراطوريةٍ مالية تُساوي مليارات الدولارات. وتقول خشافارز أنَّ الحرسَ أبدع في الالتفاف على العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية على إيران، فمن خلال الشركات الوهمية وقدرته على التلاعب بأوراق الشحن وشهادات الاستيراد وتجنيد العملاء خارج البلاد لتأمين سلاسل التوريد والإمداد نجح الحرس في خلقِ شبكةٍ من العلاقات شديدة التعقيد والتمدّد لم تتمكّن أجهزةُ الرقابة الدولية من الاقتراب من حلّها ولو من بعيد، رُغمَ كلِّ العقوبات، أمّنَت له مداخيل ضخمة. حتى إن إدارة حسن روحاني كانت تهدفُ من خلال السعي إلى توقيع الاتفاق النووي في العام 2015 إلى رفع العقوبات الدولية عن إيران لتعود الشركات إلى العمل من أجل تخفيف قبضة الحرس على الاقتصاد. وقد حارب الحرس هذا المنحى من خلال القبض على رجال الأعمال ومندوبي الشركات الأجانب بتهمة التجسّس ما سبّبَ نفورًا من المستثمرين الأجانب من السوق الإيرانية. واضطرَّ روحاني إلى ضمِّ مجموعة “خاتم الأنبياء” إلى الشركات المرفوع عنها العقوبات بعدما كان ألغى عقدين بقيمة 27 مليار دولار إثر التوقيع على الاتفاق وبعد أن خاض معركته الانتخابية الثانية تحت شعار محاربة النفوذ الاقتصادي للحرس.

الدخول إلى المجال السيبراني

وكما الحرب العراقية الإيرانية، شكّلَ الهجوم السيبراني الذي شنته إسرائيل على إيران بواسطة فيروس “ستاكسنت”، الذي ضرب أكثر من ألف جهاز طرد مركزي في مفاعل “ناتانز” وأخرجها من الخدمة في العام 2010، نقطةَ تحوُّلٍ في برنامج الحرب السيبرانية للحرس الثوري الذي ردّ بعد سنتين بعملية “أبابيل” التي طالت عددًا من البنوك في الولايات المتحدة والعالم وقبلها في 2012 حين ضربت هجمات سيبرانية شركة “أرامكو” السعودية و”راس غاز” القطرية. وطوّرَ الحرس من إمكاناته السيبرانية واستخدمها في الرقابة الداخلية على المعارضين للنظام، وضبط السردية بين مؤيديه وفي التجنيد، وشنَّ هجماتٍ سيبرانية على أعدائه لتقويض قدراتهم وابتزازهم ماليًا.

وفي 2018 انتهجت إدارة دونالد ترامب (الأولى) سياسة “الضغط الأقصى” على إيران بعد انسحابها من اتفاقية العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، حيث أعاد ترامب فرض عقوبات أقسى على النظام الإيراني في العام 2019 واضعًا الحرس الثوري على قائمة المنظمات الإرهابية، مُصَنِّفًا أي شركة تتعامل مع الحرس على أنها “تموّلُ الإرهاب”. وقد خلّفت العقوبات الأخيرة أزمة اقتصادية خانقة تدهور معها سعر “التومان” الإيراني إلى أكثر من 83 ألف مقابل الدولار، وأثّرَ ذلك بشكلٍ غير مسبوق على القدرة الشرائية للمواطن ما يُنذِرُ بانفجارٍ اجتماعي يُهدّدُ النظام المترنّح تحت وطأة الضربات المتتالية التي تلقاها في الإقليم منذ الحرب التي شنتها إسرائيل على “ساحاته” إثر هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

واليوم يجلس ترامب إلى الطاولة ليمنع إيران من امتلاكِ سلاحٍ نووي، موعودًا بصفقاتٍ استثمارية بتريليونات الدولارات مقابل رفع العقوبات، وليس بين أوراق التفاوض ما صنع مجد إيران في السنوات الأربعين الماضية وقدرتها الحقيقية على الردع وتهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها: الحرس الثوري الإسلامي. فمن دون فتح النقاش على مستقبل الحرس وتركيبته وحجمه واقتصاده لا معنى لأن تكون إيران غير مسلحة نوويًا بالنسبة إلى كثيرٍ من دول المنطقة. فقد نسج الحرس الثوري خيوطه في قلب المؤسّسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية الإيرانية وصار اللاعب الأقوى في أيِّ معادلة مقبلة من خلال الرابط الوثيق الذي يجمعه بالمرشد الأعلى الحالي علي الخامنئي وخليفته المحتمل نجله مجتبى. ومن هنا، لا بُدَّ أن نفهمَ ما الهدف النهائي لترامب من هذه المفاوضات؟ فإذا كان الهدف منع إيران من امتلاك سلاح نووي (وإنَّ شملَ هذا الهدف منع ايران من تطوير الصواريخ المناسبة لتحميل الرؤوس النووية ايضًا) فالاتفاق عليه ممكن عند تذليل العقبات التقنية التي تعكف الوفود على دراستها الآن. أما إذا كان الهدف تغيير وظيفة النظام الإيراني في عموم الإقليم وتحويل إيران الى دولة ملتزمة بصلح “وستفاليا”، فهنا لا بدَّ وأن تفكّرَ إدارة ترامب في طرح دور وحجم الحرس الثوري على الطاولة، ولن تقبل إيران مناقشة هذا الامر إن لم يُطرَح ضمن صفقةٍ أكبر توصِلُ المنطقة برمتها بما فيها إيران إلى حالة السلام الابراهيمي الشامل تنكفئ بموجبها كل دول الإقليم وليس فقط ايران إلى داخل حدودها.

Exit mobile version