“حزبُ الله” ومُعضِلَةُ الخُروجِ من عُنقِ الزُجاجة

إنَّ المعطيات التي يكشفها أداءُ الحزب السياسي في الأسابيع الأخيرة يكشفُ عن أزمةٍ عميقة تتعلّقُ بقدرةِ القيادة الحالية على اتخاذ قرارٍ بحجم الإنخراط في مسارِ تسليم السلاح وإنهاء العسكرة، ناتجٍ عن عوامل عدة، أوُّلها ضعف القيادة السياسية وشرعيتها الشعبية-القتالية أمام جمهورها المُعَبَّأ بأدبيات الانتصار وقدسية السلاح.

الشيخ نعيم قاسم: شرعيته الشعبية ما زالت ضعيفة ليقرّر مسألة تسليم السلاح.

ملاك جعفر عبّاس*

اعتادَ اللبنانيون، على مدى عقود، نَمطَ الانضباطِ الذي اتبعه “حزب الله” وجمهوره في التعاطي مع الشؤون السياسية. فقد التزمَ الحزب، ومعه قاعدته الشعبية، بقرارات قيادته التي وإن احتكرت القرارَين السياسي والعسكري، إلّا أنها نجحت إلى حدٍّ بعيد في نسجِ تحالفاتٍ منحت خياراته طابعًا وطنيًا عابرًا للطوائف — أو هكذا كانت تُوصَفُ في حينه. وقد أسهَمَ هذا النهج في الحفاظ على قدرٍ من الاستقرار، ولو كان هشًّا، ووقى لبنان انفجاراتٍ كبرى في أكثر من محطة. غير أنَّ الحزب، الذي تحمّل كلفة تلك الخيارات سياسيًا واقتصاديًا، وَجَدَ نفسه اليوم أمامَ خسارةٍ جسيمة نتيجةَ حربِ الإسناد وتبعاتها المُدمّرة، في وقتٍ يبدو أنَّ أيًّا من حلفائه، بمن فيهم حركة “أمل”، لم يعد قادرًا على مشاركته هذا العبء.

اليوم يبدو الحزب في حالةٍ من التخبُّطِ نتيجةَ التدميرِ المنهجي الذي مارسته إسرائيل في حربِ الخريف الماضي بحقِّ قياداته وقواعده ومقدراته، ونتيجةَ حملةِ الضغط الأقصى التي تضع لبنان برمّته على مفترق طرق، أحدها يحملُ وعدًا بعودة الاستثمارات وإعادة الإعمار من دونِ ضمانات، والآخر يقودُ البلاد إلى التدمير الحتمي. وهنا تقفُ قيادةُ “حزب الله” بين الإدراك العميق لتغيُّرِ موازين القوى وأدواتِ الصراع ما يُحتّمُ اتخاذ قرارات مؤلمة وغير شعبية لا تستسيغها بيئته، وبين عدم القدرة على ترجمةِ هذا الإدراك إلى قرار. فقيادةُ الحزب تتحدّثُ عن انفتاحها على الحديث عن مصير السلاح ضمن استراتيجية دفاعية تضمن استفادة الجيش اللبناني منه في أيِّ صراعٍ مستقبلي مع إسرائيل أو أي تهديد من الحدود الشرقية، فيما تصرُّ على ضرورةِ تطبيق إسرائيل لبنود اتفاق وقف إطلاق النار من خلال انسحابها من النقاط الخمس، ووقف القصف والاغتيالات والانتهاكات اليومية لنص القرار قبل البحث في هذه الآلية.

كما يصرُّ الحزب على عدمِ وَضعِ خطّةٍ زمنية لهذا المسار على اعتبارِ أنَّ هذا الأمرُ سيبدو وكأنه إذعانٌ لدفتر الشروط الأميركي واستسلامٌ تام ليس مضطرًا أن يُقدّمهُ في هذه المرحلة لو توفّرت الإرادة السياسية القادرة على انتزاعِ التزامِ الراعيَين الأميركي والفرنسي للاتفاق بالضغط على إسرائيل لتنفيذ التزاماتها أوّلًا. ويقفُ هذا الطرحُ قاصرًا عن تعريف أوراق القوة لدى الجانب اللبناني على طاولة المفاوضات هذه وسط اجماع دولي ليس فقط على انتهاء دور “حزب الله” العسكري، لا بل على إنهاءِ فكرة حمل السلاح خارج إطار الدولة في دول الإقليم قاطبةً، خصوصًا تلك الميليشيات المُمَوَّلة والمُسَلَّحة من إيران. كما يقفُ الطرحُ قاصرًا عن قراءةِ الزخم الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول (سبتمبر) المقبل، والذي يفتح اشتباكًا أوروبيًا مع إسرائيل على الملف الأساسي والأهم في تاريخ الشرق الأوسط، والذي تبدو فيه مسألة سلاح “حزب الله” تفصيلًا مُزعجًا قد لا ترغب هذه الدول في إضافته إلى لائحة مشاكلها مع إسرائيل.

ويحاول الحزبُ أيضًا التسويق لفكرة أنَّ سلاحه مُفيدٌ للبنان وللاعبين الإقليميين المُتَوَجِّسين من تغوُّلِ جماعة أحمد الشرع “غير المنضبطين” على الأقليات الدينية في المنطقة، ويرسلُ الرسائل في أكثر من اتجاه علّهُ يصلُ إلى تفاهُمٍ ما حول إعادة تعريف وظيفة هذا السلاح في ظلِّ اتضاح عدم فاعليته في مواجهة إسرائيل. إلّا أنَّ هذا الطرح يقفُ قاصرًا أيضًا عن فَهمِ عُمقِ الالتزامِ الدولي بسوريا الجديدة التي يمثّلها الشرع، والتي لن يغامرَ أحدٌ، بمن فيهم إسرائيل التي تفاوضه في باكو، بالمساس به ليس لأنه شخصية استثنائية، بل لأنَّ سقوطه أو غيابه قد يفجّرُ الإقليمَ برمَّته.

وقد يجادلُ البعضُ أنَّ التعبيرَ الأدق لتَوصيفِ أداءِ “حزب الله” في مسألة تسليم السلاح هو عدم الرغبة وليس القدرة، نظرًا لأنَّ هناكَ دوائرَ في إيران لا تزالُ تعتبرُ أنَّ مشروعها الإقليمي لم ينتهِ، وأنَّ المجالَ لا يزالُ مفتوحًا، وإن بشكلٍ أضيَق، للحفاظ على ما تبقّى من المحور بانتظارِ تغيُّرِ المعادلة الإقليمية بعد رحيل دونالد ترامب من البيت الأبيض، وأن حالة عدم الاستقرار التي تعيشها سوريا واستعار صراع اللاعبين الإقليميين تخلقُ فرصًا لإعادة توظيف السلاح تحت عناوين أخرى، أو تخلقُ مجالًا لتفاهُماتٍ بين الأعداء يحكمها تقاطعُ مصالح مرحلي.

إلّا أنَّ المعطيات التي يكشفها أداءُ الحزب السياسي في الأسابيع الأخيرة يكشفُ عن أزمةٍ أعمق تتعلّقُ بقدرةِ القيادة الحالية على اتخاذ قرارٍ بحجم الإنخراط في مسارِ تسليم السلاح وإنهاء العسكرة، ناتجٍ عن عوامل عدة، أوُّلها ضعف القيادة السياسية وشرعيتها الشعبية-القتالية أمام جمهورها المُعَبَّأ بأدبيات الانتصار وقدسية السلاح، كما وضعف هذه القيادة في ضبط التصريحات التي تخرج على لسان مَن يتحدّثون باسم الحزب وبيئته، ولا يعبّرون بالضرورة عن طبيعة النقاشات الدائرة في الغرف المغلقة، والتي تَبَيَّنَ في كلِّ الاستحقاقات السابقة أنها أكثر ليونة وبراغماتية مما يخرج في الاعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي. وتعكس الأزمة الحالية أيضًا المأزقَ العميق في إعادة صياغةِ دورٍ سياسي داخلي بحت للحزب لا امتداداتٍ خارجية له ولا مهمة مقدسة، تترتب عليه ورشة داخلية كبرى تُعيدُ هيكلة مؤسّسات الحزب وترشيقها، وتسريح عدد كبير من أصحاب المخصّصات والرواتب، فضلًا عن تفكيكِ هيكليةٍ داخلية معقّدة كانت قائمة على اندماجٍ كاملٍ بين العسكري، والسياسي، والاجتماعي، والثقافي. وهذا ليس بالأمر السهل إذ أنه سيعني في مكانٍ ما خسارة قاعدة عقائدية مُتشدّدة قد تُشكّلُ حالةً انشقاقية عن الحزب، كما وإنها تُهدّدُ الآمالَ الانتخابية المعقودة على فكرة الاستفتاء على مستقبل الحزب والسلاح.

أما الأزمة الأخطر فتتجلّى في استحالةِ فكِّ الارتباطِ العقائدي من جهةٍ واحدة بين الحزب ومرجعيته الدينية الإيرانية، التي ستكونُ المُتحكِّم الدائم في قراراته المصيرية مهما تعهّدَ بالحفاظ على وحدة لبنان والتزم بدستوره، و”طائفه” وسلمه الأهلي وتعدُّديته. وما يُعقّدُ مهمة القيادة أكثر هو تعمُّق الهوة السياسية في المشهد اللبناني مع توسُّعِ قاعدة أحزاب اليمين التقليدي وأقصى اليمين المُتشدّد أكثر في طروحاته، والتي تساهم إلى حدٍّ كبير في إذكاءِ المخاوف داخل الحزب وبيئته، وتُرجّحُ كفّةَ الجناح الأكثر تشدُّدًا في صفوف الحزب، على اعتبارِ أنَّ أيَّ تنازُلٍ الآن سيعني انكشافًا تامًا يُعرِّي الحزب والبيئة من أيِّ درعٍ يحميهم في معركةٍ يعتبرونها وجودية ضد الآخر اليميني المتشدد مسيحيًا كان أم مسلمًا سنّيًا منتشيًا بصعود أحمد الشرع في سوريا ولبنان.

يحتاجُ الحزبُ في هذه المرحلة إلى تبريد خطابه الإعلامي، وهذا صعبٌ نتيجة الضغط الكبير الذي يتعرّضُ له لبنان من الخارج، وحالة الغليان الداخلي التي قد تصل إلى الانفجارِ الكبير إن لم يتم تنفيس الاحتقان في مخرجٍ سحريٍّ ما. كما يحتاج إلى إطلاق حملة تغيير رأي عام هادئة ومُتدرِّجة تُعيدُ تصويبَ خطابه السياسي وتوقُّعات بيئته، وهو ما بدأ بالفعل من خلال الإضاءة على ما يُعتَقَدُ أنها وصية الأمين العام السابق السيد حسن نصر الله، والتي يُرادُ من خلال التسويق لها في هذه المرحلة بالذات توصيل رسالة لجمهور الحزب بالدرجة الأولى أنَّ “وصيةَ السيد لكم هي الانخراط في الدولة وإعلاء أهمية السلم الأهلي على الحرب وعدم الاستقواء بالسلاح في الداخل”. وفي هذه الرسالة محاولةٌ للاستدارة من المسار الذي كرّسه مشهد التشييع المهيب للسيد والذي رفع شعار “إنا على العهد” والذي اعتُبِرَ حينها أنه التزامٌ لا رجعةَ فيه بحمل السلاح ليبدو أنَّ عهدَ السيد، كما أراده هو، يترجم في حتمية مراجعة الدور والأدوات لتكون الدولة هي الكنف النهائي لكل أبنائها.

يقول البعض لو كان السيد على قيد الحياة لاستطاعَ أن يُقنعَ الشيعة ومن بعدهم إيران باتخاذ قرار تسليم السلاح برمشة عين، ولاستطاع أن يجدَ مخرجًا للأزمة لا غالب ولا مغلوب فيه لما كان له من مكانة وقدرة على الاقناع وجرأة في اتخاذ القرارات، لكنه ليس هنا الآن والجميع عالقٌ في عنق الزجاجة لا قدرةَ لهم على العودة إلى الحرب وأوزارها ولا جرأة تدفعهم للخطو باتجاه السلام اللبناني- اللبناني أوّلًا قبل السلام مع إسرائيل.

Exit mobile version