… ويَخْلُقون في كُفْر الدَمار عبادة

هنري زغيب*

ملأَتْ صورٌ من الأَحد الماضي صفحاتٍ أُولى من الصحف، لـمؤْمنين يحتفلون بأَحد الفصح في جناحيه الغربي والشرقي.  ولكان طبيعيًّا كلُّ ما صدر، لو انه مَــرَّ في حالات طبيعية. لكن صُوَرًا صدرَت في الإِعلام، مكتوبِه والمرئيّ، هزَّتْني كما لا بُدَّ هزَّت كلَّ مَن شاهدها: إنها صُوَر مُؤْمنين في جنوب لبنان، جنوبنا الغالي، يُصَلُّون في بقايا كنيسة، وسْط دمارٍ ما زال كفْرُهُ خانقًا بحجارته وحُطامِهِ ورُكامِهِ، وأَخشابٍ كانت نوافذَ وأَبوابًا فتبعثرت جهنَّمًا من كابوس. تمكَّن الكاهن بينها من ارتجال مذبح وشموع وبيت قربان، ليحتفل بين الدمار بقيامة مَن “قام من بين الأَموات، وَوَطِئَ الموتَ بالموت، وعلَّق الأَرض على المياه”…

قلَّما رأَى الناسُ مؤْمنين يتشبَّثون بإِيمانهم في المكان، وإِن كان المكان خرابًا لا يشبه الصلاة. لكن الإيمان لا يحتاج مكانًا بل مكانُه في الداخل، في القلب، في الوجدان، في إِغماضة العينين على عمق ابتهالٍ إِلى مَن دحرج الحجر وقام في اليوم الثالث. وحين نقَلَ كلامَه مؤَرِّخُه متى في الآية السادسة من إِصحاحه السادس، قال بِاسمه: “… متى شئْتَ أَن تصلِّي، فَادخُلْ مَخدعك، وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ”.

ولكن يا متى: ماذا لو لم يعُد مخدع، ولا عاد باب فيه، ولا شبرٌ لجُثْوَة صلاة؟

ماذا يحصل؟ فلْيَتَشَبَّه المؤْمنون بجنوبيي لبنان: يدخلون الهيكل الخراب، يقيمون فيه صلاتهم، وربُّهم الذي في الخفاء يستجيب، لأَنه يرى ماذا فعل الوحشُ ابنُ صهيون بأقدس الأحجار في جنوب لبنان.

فيا مؤْمني العالم: تشبَّهوا بجنوبيي لبنان… تعلَّموا منهم أَن الإِيمان ليس محصورًا بما في السماء وحسْب، بل بما على الأرض بَنَوه حجرًا حجرًا، ومع كل حجر نفحةُ صلاة، فلن يقوى عليهم الوحش ابنُ صهيون، لأَنهم تحدَّوا خرابه، وارتجلُوا من كسور الباقي في كنيستهم معبدًا في داخلهم للصلاة وقوفًا لغياب المقاعد، وإِنصاتًا إِلى المحتفل بالصلاة أَمام طاولة جعلها مذبحًا لوليمة الله، فكسر الخبز وليمةً للجسد، ورشف الخمر دمًا للذي سال الدم من خاصرته ليغمر بها خاصرة العالم.

يا مؤْمني العالم: تشبَّهوا جميعًا بجنوبيي لبنان: منزرعون في أَرضهم ولو بدون بيوتهم المهدومة، متجذِّرون في ترابهم كأَيِّ أَرزة ثابتة في جذورها على قمم لبنان، منفتحون على العالم كأَغصان أَرزتهم المنفلشة المشْرفة على قمم العالَم. يقصفهم العدو التاريخي فيواجهونه بتاريخهم الضالع في القِدَم والقيم.

يا مؤْمني العالم: جنوبيُّو لبنان مرآةٌ لشعب لبنان، الطالعِ من ينابيع الحضارة فلا تهزُّه عاصفة، والمتشبِّثِ بكل شبر من أرضه لا يتخلَّى عنها ولو بدمه. إنه الشعب الذي أُريدَ له أَن يرحل فلم يرحل. أُريدَ له أَن يموت فانتفض على جلاديه. أُريدَ له أَن يركع لمحتل، لمنتدب، لغاصب، لأَي غريب، فخلَع عنه الخوف والذل والرضوخ، وانتفض أَقوى من الرياح، وظل في أَرضه: لا شبرَ ناقصًا منها، ورأَى خراب الكنيسة فدخلها وصلَّى بين الخراب، مؤْمنًا بأَن قبره لن يكون، مؤْمنًا بأَن الحجر على قبره لن يدوم، مؤْمنًا بأَن أَكفانه مُوَقتةٌ لن تلفَّه إِلى التراب، مؤْمنًا بأَنه لبناني ابنُ وطن غير عادي، مؤْمنًا بأَنه من بين خراب الكنيسة المهدَّمة يضرع إِلى ربه فيتسجيبُ ربُّه. وها هو يقتلع من خاصرته طعنةَ الرمح، وينزع عن شفتيه إِسفنجة الخل، ويصرخ بأَقوى من عويل أَنبياء التوراة، ويدحرجُ الحجر عن صدره اللبناني صباح اليوم الثالث، فيشهدُ القيامتَين: صعودَ ربه إِلى السماء، وصعودَ وطنه إِلى فرح القيامة.

Exit mobile version