هنري زغيب*
كنَّا قبل أَيامٍ، في مؤَسسة شارل قرم (بيروت) نحضر المؤْتمر الصحافي للإِعلان عن إِطلاق “جائزة مي الريحاني”. وكان العَلَمُ العالَميُّ الدكتور فيليب سالم يخطُب فينا، فَضَجَّ عاليًا في مسمعي قولُه في خطابه: “لم تَكُن عظَمةُ لبنانَ يومًا في كيانه السياسيّ، بل كانت – ولا تزال – في كيانه الحضاريّ، هذه الحضارة المميَّزة في الشرق والمميَّزة في العالم، هذه الحضارة التي جعَلَتْ من لبنان وطنَ الرسالة”.
شدَّني هذا الكلام إِلى عبارة قريبةٍ من قول الدكتور فيليب سالم، أَورَدَها سنة 1942 الأَديب اللبناني عُمَر فاخوري في كتابه “الحقيقة اللبنانية”، جاء فيها: “لعلَّ أَكرَمَ ما يُصدِّرهُ لبنانُ إِلى العالم: أَبناؤُه السُّمْرُ الميامِينُ في نواحي الأَرض الأَربع، بُناةُ المدُن، المثقَّفون طَبْعًا وتَطَبُّعًا، المحافظون في غير تَزَمُّت، المجدِّدون من غير تعَسُّف، ناشرو الأَبجدية قديمًا، وحَضَنَةُ العربية حديثًا، حَمَلةُ رسالتِهِ الثقافيةِ إِلى العالم”.
ها نحن إِذًا أَمام حقيقةٍ أَتمنَّاها تتجلَّى واضحةً أَمام جيلنا الجديد من شبَّاننا وصبايانا، وهي: عظمةُ لبنان الوطن، مقابل هشاشةِ لبنان السياسيّ وَتَخَبُّطُ سياسيين حكَموه منذ عقودٍ سحيقة، ولم يَبْنُوا دولةً للمستقبل بل اتَّخذوا السُلْطة حظيرةً على قياس أَبنائهم وأَحفادهم.
هؤُلاء السياسيُّون يصُحُّ فيهم غضَبُ جبران قبل مئة وسنَتَيْن – في كتابه “البدائع والطرائف” (الصادر في القاهرة سنة 1923 – أَي سنةَ صدورِ “النبي” في نيويورك) – يومَ صرَخَ هائجًا ضدَّ أَهل السُلطة: “لكُم لبنانكُم ولي لبناني. لكم لبنانكم ومُعضِلاتُه وما فيه من الأَغراض والـمَنازع… لبنانُكم عُقْدةٌ سياسيةٌ تحاولُ حلَّها الأَيام، ومشكلةٌ دُوَلية تتقاذفها الليالي… لبنانُكم حكومةٌ ذاتُ رؤُوسٍ لا عِداد لها، ومربَّعاتُ شطرنج ومرافئُ وبريدٌ وتجارة، وموظَّفون وعمَّال ومديرون وَوُفودٌ ولجان، وطوائفُ وأَحزاب، وخُطَبٌ ومحاضراتٌ ومناقشات، وكَذِبٌ يحتجبُ وراء نقابٍ من الذكاء اللبناني، وشرائعُ وبنودٌ على أَوراقٍ، وعقودٌ في دفاتر… لبنانُكُم عجوزٌ قابضٌ على لحيته، قاطبٌ ما بين عينيه، لا يفكِّر إِلا بِذاته، ينفصل آنًا عن سوريا ويتِّصل بها آونةً، ثم يحتال على طَرَفَيه ليكونَ بين معقودٍ ومحلول. أَمَّا لبناني فلا يتَّصل ولا ينفصل، ولا يتفَوَّق ولا يتصاغر... لكُم لبنانُكم وأَبناؤُه، فهَل بينكُم من يمثِّل العزْمَ في صخور لبنان؟ أَو النُبْلَ في ارتفاعه؟ أَو العذوبةَ في مائه؟ أَو العطرَ في هوائه؟ هل بينكم من يتجرَّأُ أَن يقول: إِذا متُّ تركْتُ وطني أَفضلَ قليلًا ممَّا وجدتُهُ عندما وُلدتُ؟ وهل بينكُم من يتجرَّأُ أَن يقول: كانت حياتي قطرةَ دمٍ في عُرُوق لبنان، أَو دمعةً بين أَجفانه، أَو ابتسامةً على ثغره… هؤُلاءِ هُم أَبناءُ لبنانِكم، فما أَكبرَهُم في عيونكُم، وما أَصغرَهُم في عيني! وما عسى أَن يبقى من لبنانكُم وأَبناءِ لبنانكُم بعد مئَة سنة، وأَنتم لا تَتْركُون للغَد سوى الدعوى والتلْفيق والبلادة؟ أَتَتَوهَّمون أَنَّ الحياة تسْتُر جسدَها العاري بالخِرَق البالية؟ أَقول لكم: إِنَّ نَصْبةَ زيتونٍ يغْرِسُها قرويٌّ في سفح لبنان لأَبقى من جميع أَعمالكُم ومآتيكُم، ومحراثًا خشبيًّا تَجرُّهُ العجول في مُنعطفات لبنان لأَشرفُ وأَنبلُ من أَمانيكم ومطامحكم، وأُغنيةَ جامعةِ البُقول بين هِضَاب لبنان لأَطولُ عمرًا من كلِّ ما يقولُهُ أَضخمُ ثَرثار بينكم… لكُم لبنانُكم وأَبناءُ لبنانِكُم، فاقتَنِعوا به وبهم إِن استطعتُم الاقتناعَ بالفقاقيع الفارغة”.
وها نحن اليوم، بعد مئةٍ وسنتَين من صرخة جبران، أَمام لبنان الوطن وهو الحقيقة الخالدة، مقابلَ لبنان الدولة والسلطة: وهو ضبابٌ أَسودُ خسِعٌ هُلاميٌّ مُعَرَّضٌ للتَبَعثُر عند أَوَّل هَبَّة ريح.
وهو هذا ما يعيدني إِلى عبارة الدكتور فيليب سالم أَعلاه: “لم تكُن عظَمةُ لبنانَ يومًا في كيانه السياسيّ، بل كانت – ولا تزال – في كيانه الحضاري”.
وأَراني، ختامًا، أَتوَجَّهُ إِلى أَبناء جيلِنا الجديد، مُقيمِه والـمُهاجر: فلْتَعُوا أَنَّ لبنانَ الحضارة والتاريخ والفَرادة هو بين أَيديكم اليوم وبعد بضعة أَشهر. ففي أَيار (مايو) المقبل، عاقِبوا بصُندوقة الاقتراع كلَّ سياسيٍّ ترَوْنَه لا يستحقُّ الشرفَ الأَعلى: أَن يكون في السُلطة والحُكْم، لأَنه سيهتمُّ بنسلهِ في السُلطة والحُكْم، ولن يبني لكُم دولةً مستقبليَّةً ساطعة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib