البابا فرانسيس ولاهوت التحرير

يبدو أن الصراع بين لاهوت التحرير والفاتيكان قد حله التجسيد الكاريزماتي لكنيسة الفقراء في شخص البابا فرانسيس، ولكن أيضًا من خلال تعديلات في لاهوتات جهات فاعلة مختلفة. 

الدكتور سعود المولى*

شكّلت الخلافات والمعارك حول القضايا اللاهوتية بين لاهوتيي التحرير في أميركا اللاتينية والفاتيكان أحد الصراعات الرئيسة داخل الكنيسة في القرن العشرين. حاول الفاتيكان مكافحة نشر مواقف وأفكار لاهوت أميركا اللاتينية من خلال تدابير من قبيل “الإخطارات” العامة من مجمع عقيدة الإيمان (CDF)، والرقابة على الكتب في المعاهد اللاهوتية، وتجنُّب اختيار لاهوتيي التحرير عند ترقية الكهنة إلى المناصب العليا مثل الأسقفية. وبحجة انحرافهم المزعوم عن العقيدة الكاثوليكية، سعى الفاتيكان من خلال مجمع عقيدة الإيمان إلى تصحيح الأخطاء اللاهوتية المزعومة للاهوتيي التحرير، مثل غوستافو غوتييريز، وليوناردو بوف، وجون سوبرينو، وفرض ما اعتبره افتقارهم إلى طاعة التعاليم الرسمية للكنيسة الكاثوليكية.

لكن بعد انتخاب الأرجنتيني “خورخي ماريو بيرغوليو” (Jorge Mario Bergoglio) في العام 2013، ثارت الأسئلة حول علاقته بالحركة الكنسية العالمية الشهيرة التي تسببت في العديد من الخلافات في الكنيسة، خصوصًا خلال الحرب الباردة عندما كان الكثيرون في حركة لاهوت التحرير يتحالفون مع اليسار السياسي في أميركا اللاتينية.

في الأرجنتين، كان بيرغوليو معروفًا بأنه معارض قوي للاهوت التحرير بوصفه المقيم اليسوعي الإقليمي، خلال السبعينيات. لكن بعد شهر واحد فقط من توليه البابوية، قال مسؤولون في الفاتيكان إن البابا فرانسيس قرر رفع الحظر عن عملية تطويب رئيس أساقفة السلفادور أوسكار روميرو Oscar Romero ، الذي كان يحتفى به باعتباره قديس لاهوت التحرير منذ اغتياله في العام 1980.

علاوة على ذلك، في أيلول (سبتمبر) 2013، شاعت أخبارٌ بأنَّ البابا التقى على انفراد (وليس في جدوله الرسمي) مع ما يسمى والد لاهوت التحرير، البيروفي غوستافو غوتييريز. كان غوتيريز في إيطاليا من أجل إطلاق الطبعة الإيطالية من الكتاب الذي شارك في كتابته مع رئيس  مجمع عقيدة الإيمان (من 2012 حتى 2017)، الكاردينال غيرهارد لودفيغ مولر.

بدا الأمر دراميًا وغطّى عناوين الأخبار في وسائل الإعلام الدولية. كما خلص كاتب السيرة الذاتية بول فالي: “بعد ثلاثة عقود من العداء من الباباوات المحافظين مثل يوحنا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر، كان هذا تحوُّلًا غير عادي”. لقد احتضن عدو الحركة السابق شخصياتها الأساسية وجعل من الفاتيكان نفسه حليفًا لها. وعندما أعلن ليوناردو بوف، الذي كان مجمع عقيدة الإيمان قد أسكته سابقًا، بحماس أنَّ البابا فرانسيس اتصل به ليطلب منه موادًا لكتابة منشوره العام لسنة 2015 “Laudato Si”، تعزز الانطباع بأنَّ البابا الأرجنتيني قد تصالح مع لاهوت التحرير. ولا عجب أنَّ بعض أشرس المحافظين من جماعة أسلاف فرانسيس اتَّهَموا البابا بخيانة جبهة المعارضة للشيوعية التي خطها أسلافه وأنه يقوم بإعادة تأهيل لاهوت التحرير “الماركسي”. وبكلمات بوف، “فرانسيس واحدٌ منّا. لقد جعل لاهوت التحرير ملكية مشتركة للكنيسة، وقام علاوة على ذلك بتوسيعها”.

كيف وصلَ ذلك المقيم اليسوعي الإقليمي في الأرجنتين الذي كان يومًا ما شديد المحافظة، إلى المصالحة مع لاهوت التحرير؟ والأهم من ذلك، مع أيٍّ من مختلف لاهوتات التحرير التي ظهرت منذ ستينيات القرن الماضي في المسيحية في أميركا اللاتينية جاء فرانسيس يتصالح؟ أحد التفسيرات الرئيسة يكمن في السياق التاريخي لكنيسة أميركا اللاتينية بعد سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية. فقد اختلف صدى أفكار لاهوت التحرير السياسي وإمكانية استقبالها، مثل تحرير الفقراء، إلى حد كبير في سياق ما بعد الحرب الباردة الذي أمّنت فيه الديموقراطيات في أميركا اللاتينية حرية التعبير، ولم يَعُد الانضمام إلى الجماعات اليسارية خيارًا مقبولًا. لم تعد مطالب لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية ذات أهمية سياسية متفجّرة أو مدعاة للفضيحة داخل وخارج الكنيسة الكاثوليكية كما في السابق. عندما لم يعد العالم الجيوسياسي ثُنائي القطب، حلَّ محل المعارضة الإيديولوجية بين القطبين الرأسمالية والشيوعية، تحدي الرأسمالية النيوليبرالية المهيمنة. ومن ثم، فإنَّ إدانة العولمة النيوليبرالية كان أكثر سهولة بوصفها سببًا للتفتّت الثقافي أو الظلم الاقتصادي من دون التأكيد على نوعٍ ما من الاشتراكية كبديلٍ منها عندما بدا هذا الخيار أقل قابلية للحياة.

في هذا الوضع الجديد، تطوَّرَ لاهوت التحرير بأفكارٍ جديدة ومضامين جديدة. لقد أدى سياق ما بعد الحرب الباردة إلى إزاحة بعض موضوعات لاهوت التحرير الأكثر إثارةً للجدل وجلب قوى أخرى إلى ساحة المواجهة. خلال التسعينيات، كان لاهوت التحرير تطوَّرَ بطريقتين مُبتكرَتَين أثّرتا في اللاهوت الكاثوليكي في أميركا اللاتينية بمعنى أوسع: فكان التفكير اللاهوتي في الحوار الميداني مع قضايا الاقتصاد والبيئة. قام لاهوتيو التحرير، مثل “فرانز هينكلاميرت”  (Franz Hinkelammert)، “هوغو أسمان” (Hugo Assmann)، و”جونغ مو سونغ” (Jung Mo Sung)، و”خوليو دي سانتا آنا” (Julio de Santa Ana) بتحليل النظرية الاقتصادية النيوليبرالية ضمن الإطار اللاهوتي وأدى بهم ذلك إلى انتقاد ما أسموه “عبادة السوق”.

كانت العلوم الاجتماعية ذات أهمية كبيرة في لاهوت التحرير منذ أيام ظهور نظرية التبعية. ولذلك، فإنَّ موضوعات التعامل مع البيئة وبعض منظورات العلوم الطبيعية والتي برزت في كتابات ليوناردو بوف منذ العام 1995 كانت شيئًا جديدًا في لاهوت التحرير. وبينما كان بوف قبل سقوط جدار برلين أحد أكثر الأصوات تفاؤلًا بين لاهوتيي التحرير حول قيمة الشيوعية، لم يَعُد هناك من مدح لبعض جوانب “الاشتراكية الواقعية القائمة” في كتابه عن البيئة. وحلَّ محل الدعوة إلى التحوّل الاشتراكي أو الثورة في المجتمع، نقد المنطق الاستغلالي السائد للحداثة برمتها، سواء في رأسماليتها الليبرالية أو في نموذجها الاشتراكي الماركسي.

في العام 2004، نشر غوستافو غوتييريز تأملاته الأخيرة حول لاهوت التحرير في كتابٍ يحتوي على نصوص له وللكاردينال غيرهارد لودفيغ مولر. كان مولر معروفًا بأنه عالم لاهوت محافظ، حتى وفق معايير مجمع الكرادلة. والأكثر من ذلك أنَّ البابا بنديكتوس السادس عشر عينه محافظًا لمجمع العقيدة في الإيمان في العام 2012. وكان البابا بالطبع هو الكاردينال ذاته الذي كان في الماضي رمزًا لمعارضة الفاتيكان لاهوت التحرير.  عندما نقارن عمل غوتييريز في العام 2004 وما بعده، مع عمله خلال السنوات السابقة منذ مؤتمر الأساقفة في بويبلا في العام 1979، فإنَّ الاختلافات الرئيسة بين الفترتَين تصبح واضحة.

أوّلًا، لم تعد “الاشتراكية” أو “الثورة” مهمة يجب متابعتها أو قضية نتعاطف معها، في نص غوتييريز في العام 2004. ولم يرد هنا أي ذكر للثورة الكوبية 1959 أو ثورة 1979 في نيكاراغوا، كما إنَّ غوتييريز لم يجد أنَّ الأمثلة الأخلاقية لإرنستو “تشي” غيفارا والأب كاميلو توريس اللذين حملا السلاح ضد القمع تستحق الذكر.

ثانيًا، على الرُغم من استمرار التركيز على المهمّشين والفقراء، إلّا أنَّ التعبيرَ عن ذلك يكون بمصطلحات لا تحتوي على الدلالات الماركسية السابقة، مثل “البروليتاريا”.

ثالثًا، غياب مصطلحات مثل “الظالم” و”المهيمن”. لقد اختفت الأوصاف والإدانات السابقة لاستراتيجيات هؤلاء الظالمين المضطهدين، من لاهوت غوتييريز لعام 2004. وبعبارة أخرى، فقد حل محل الصراع الطبقي الذي بدا أنَّ نصوص غوتييريز من السبعينيات تفترضه وتلتزم به، دعوة للتضامن وحب الفقير. إنَّ التركيز السابق على الأسباب الصراعية الطبقية للفقر والحاجة الملحة للانحياز إلى طبقة اجتماعية معينة حل محلها التحذير من المبالغة في البُعد الصراعي للمجتمعات على حساب المحبة المسيحية الشاملة: “إنَّ الحقائق الاجتماعية الصراعية المتناقضة لا يمكن أن تجعلنا ننسى متطلبات الحب الشامل الذي لا يعترف بحدود الطبقة الاجتماعية، أو العرق، أو الجنس”. علاوة على ذلك فإنَّ التركيز السابق على البُعد السياسي الضروري للمحبة المسيحية في مجتمعات القهر والاستغلال حلَّ محله الوعي بحدود النشاط السياسي: “إن تعاليم الإنجيل تتجاوز المشروع السياسي لبناء مجتمع مختلف”. يجد غوتييريز أيضًا أنه من الضروري التأكيد على أنَّ “الحديث عن الفهم العلمي للكون الاجتماعي لا يمكن اعتباره شيئًا محددًا”.

لم يعد ثمة تأليب للطبقات الشعبية ضد الطبقات المهيمنة، ولا كنيسة الناس ضد المؤسسة، وأصبح غوتييريز هنا متناغمًا مع دعوة  الاستماع بتواضع إلى السلطات القائمة في الكنيسة. إنه يجسّد التحوُّل من شخص مبتكر وواثق من نفسه، وربما من لاهوت هرطوقي مشبع بالماركسية ، إلى شخص أكثر اعتدالًا وأرثوذكسية.

على هذه الخلفية كان دمج الاهتمامات الرئيسة للاهوت التحرير في خلاصات أعمال الاجتماع العام لمجمع أساقفة أميركا اللاتينية المنعقد في “أباريسيدا” (Aparecida) في العام 2007، حيث ترأس خورخي ماريو بيرغوليو بصفته رئيس أساقفة بوينس آيرس،  لجنة صياغة الخلاصات النهائية. في تناقض صارخ مع الاجتماع العام الأخير لمجمع أساقفة أميركا اللاتينية الذي انعقد في “سانتو دومينغو” في العام 1992، فقد حصل التعبير عن استقلالية كنيسة أميركا اللاتينية في اجتماع العام 2007 في أباريسيدا من دون أن يبذل الفاتيكان الجهد نفسه للسيطرة على الأساقفة وعلى مخرجات الاجتماع. تحت قيادة بيرغوليو  كانت لدى أساقفة أميركا اللاتينية الشجاعة لتصحيح أو تعديل ملاحظات البابا بنديكتوس السادس عشر المثيرة للجدل في كلمته الافتتاحية. وكان البابا بنديكتوس أكّدَ أنَّ “التبشير بيسوع وإنجيله لم يفترضا في أيِّ لحظة الاغتراب عن الثقافات ما قبل الكولومبية، كما إنَّ ذلك لم يكن فرضًا لثقافة أجنبية”. أثار هذا الأمر الجدل وردود الفعل من قادة الدول مثل هوغو تشافيز في فنزويلا. لكن المهم كان تأكيد البابا بنديكتوس السادس عشر الواضح على خيار الانحياز للفقراء وعلى ترسيخ هذا الموضوع في المقطع نفسه: “… إن الخيار التفضيلي لصالح الفقراء متضمن ضمنيًا في الإيمان الكريستولوجي بذلك الإله الذي افتقر لأجلنا، بحيث يغنينا بفقره”(في هذا إشارة إلى ما ورد في الرسالة الثانية إلى أهل قورنثوس : “فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح إنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره”).

وعلى العكس مما كان يتوقعه أو يخشاه الكثيرون، أعاد أساقفة أميركا اللاتينية في “أباريسيدا” التأكيد على الاهتمامات المركزية للاهوت التحرير: أعادوا الاعتبار للمقولة القديمة: “أُنظر- أُحكُم-إعمل” (See-Judge-Act) التي اعتمدتها مؤتمرات ميديلين وبويبلا (والمنسوبة أصلًا إلى القديس أوغسطين)، من أجل التأكيد على الخيار التفضيلي لـصالح الفقراء، وأعادوا التأكيد على أهمية جماعات الكنيسة في القاعدة (CEBs)، وأكدوا جوهر قضية لاهوت التحرير في التحرر المتكامل (تحويل الأشخاص وتغيير البنيات في المجتمع، في آن). وأكثر من ذلك، أنَّ مجمع “أباريسيدا” كسر الصمت البليغ في وثائق  سانتو دومينغو 1992 عن الشهداء الذين لم يكن قد أعلنت بعد قداستهم ولكنهم كانوا يُعتَبَرون قديسين في نظر كنيسة أميركا اللاتينية. المثال الأساسي لهذا هو الشهيد كان بالطبع شخصية جسدت بالنسبة للكثيرين راديكالية لاهوت التحرير: إنه رئيس الأساقفة أوسكار روميرو (1917- 1980). مهد آباء “أباريسيدا”، تحت قيادة بيرغوليو، بوصفه رئيسًا للجنة صياغة الوثيقة النهائية ، الطريق للاعتراف الرسمي مستقبلًا بقداسة روميرو وشهداء أميركا اللاتينية الآخرين. هذه الجهود التي بذلت للتوصل إلى توافق بين مختلف اهتمامات ولاهوتات أساقفة أميركا اللاتينية، كانت استعدادات لطرح البُعد الأميركي اللاتيني لما أصبح يُعرف باسم “تأثير فرانسيس” – من دون أن يكون أيٌّ من الأساقفة توقع أن رئيس الأساقفة الذي برز كقائد لهم في أباريسيدا سيكون بعد ست سنوات أول بابا أميركي لاتيني في التاريخ.

لقد وُصف البابا فرانسيس على نحوٍ مناسب بأنه رجلٌ “يتواصل بشكلٍ فعّال بالمبادرات المعبّرة كما بالكلمات”. وبسبب هذه المبادرات أشاد اللاهوتي التحريري ليوناردو بوف بالبابا فرانسيس باعتباره شخصًا يجسّد لاهوت التحرير، بمعنى أنَّ البابا يتصرف بطريقة تحريرية تجاه الفقراء. ومع أنَّ كتاب بوف عن البابا فرانسيس يخلو من التحليلات لخطاب البابا، إلّا أنَّ بوف يُبدي انبهارًا بمظهر البابا وأفعاله: “البابا الجديد فرانسيس يأتي من خارج الإطار الأوروبي القديم للعالم المسيحي، الغارق في التقاليد، والقصور، والنظارات الأميرية، وصراعات السلطة الداخلية. هو يتميز ببساطة وواقعية ووضوح المبادرات والأعمال التي تقدّر الحس السليم للحياة. فرانسيس يكسر كل البروتوكولات ويُظهر أن القوة هي دائمًا قناع، حتى عندما يُفترض أن تكون هذه القوة ذات أصل إلهي”.

كما أشاد عددٌ من كبار منظري لاهوت التحرير مثل “إرنستو كاردينال” (Ernesto Cardenal) و”بيدرو تريغو” (Pedro Trigo) بالبابا فرانسيس. كان تريغو واحدًا من أولئك الذين امتدحوا البابا الأرجنتيني بعباراتٍ تُذكّرُ بسِيَرِ القديسين، مثل الادعاء بأنَّ “البابا فرانسيس هو تجسيدٌ للمجمع (يقصد فاتيكان 2) من دون منازع… لأنه… يتمتع بشخصية كاريزمية كبيرة لدرجة أنه يخلق عنصرة”.

سوف يفسر البابا فرانسيس هذا الانحياز لخيار الفقراء من خلال أفعال رمزية مثل رفض العيش في القصر البابوي، وغسل أقدام السجناء يوم خميس العهد (أو خميس الغُسْل ويعرف أيضاً بالخميس المقدس أو خميس الأسرار خلال عيد الفصح) أو التخطيط لزيارات بابوية إلى الأماكن المرتبطة بالتهميش الاجتماعي (جزيرة لامبيدوزا في إيطاليا أو سيوداد خواريز في المكسيك). ومع ذلك، فإنَّ اهتمام البابا فرانسيس بالفقراء أو إعلامه الناجح عن كنيسة الفقراء هذه، يصعب تفسيره بتأثير لاهوت التحرير. بل بالأحرى أنَّ هذا يعبّر عن كيف يمكن أن يتبنّى “الخيار التفضيلي للفقراء” أتباع ومعارضو لاهوت التحرير على حد سواء حيث يمكن تفسير معناه بطرق متعددة، تتراوح من العمل الخيري المسيحي التقليدي إلى العمل السياسي اليساري الحديث. علاوة على ذلك، فإنَّ رؤية البابا فرانسيس وتنظيم الكنيسة للفقراء يمكن أن تكون كذلك تعبيرًا عن تقليد كاثوليكي واسع في الاهتمام بالفقراء، كان التعبير عنها في رسائل وإرشادات بابوية رسمية مثل “Mater et magistra” (الكنيسة هي الأم والمعلم) (1961) أو  “Evangelii Nuntiandi” (التبشير بالإنجيل في العالم المعاصر) (1975). وكان البابا فرانسيس أعرب عن إعجابه بالنص الأخير قائلًا إنه “أعظم وثيقة رعوية ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني”. إنَّ رسالة التبشير بالإنجيل للعام 1975 هي أيضًا وثيقة يُحذّرُ فيها البابا بولس السادس من إساءة الاستخدام المُسَيَّسة أو الإيديولوجية للمسيحية ولفكرة الخلاص المتمثلة في “التحرير” ، ولكن من دون النبرة العدائية أو الجدلية التي استخدمها البابا يوحنا بولس الثاني في اجتماع بويبلا في العام 1979.

لم يكن خورخي ماريو بيرغوليو صريحًا جدًا أو واضحًا كثيرًا في وجهة نظره حول لاهوت التحرير. وهو أيّدَ، بوصفه رئيس أساقفة، انتقادات الأستاذ الأوروغوياني “غوزمان كاريكيري ليكور” (Guzmán Carriquiry Lecour) (1944-) الموجهة ضد لاهوت التحرير والقائلة إنه في بعض الأحيان إيديولوجي وعنيف للغاية بحيث لا تستطيع الكنيسة الكاثوليكية تحمّله. في مقدمته لكتاب كاريكيري ليكور (Una apuesta por América Latina) في العام 2005، يعرب رئيس أساقفة بوينس آيرس عن تعاطفه مع الرؤية الموجودة في الكتاب بخصوص وجود ثقافة أصيلة في أميركا اللاتينية تتميز بكون التبشير المسيحي تهدده إيديولوجيات غريبة على هذه الثقافة. يشرح كاريكيري ليكور هذا الأمر بمزيدٍ من التفصيل في الكتاب وينتقد لاهوت التحرير باعتباره لاهوتًا علمانيًا يفرض على الكنيسة إيديولوجيات غير مرغوب فيها. وجهة النظر العامة إلى حد ما حول لاهوت التحرير تنسجم بشكل جيد مع التصريحات التي أدلى بها بيرغوليو في العام 2010 في مقابلة مع فرانشيسكا أمبروجيتي وسيرجيو روبن. يؤكد بيرغوليو في هذه المقابلة أنَّ بعض لاهوتيي التحرير قد ساروا بعيدًا في الطريق الخطَإِ. وأنَّ هَمَّ الانشغال بالفقراء الذي شوهد في ستينيات القرن العشرين قد وفر أرضًا خصبة لأيِّ إيديولوجية للانسلال. ومع ذلك، فإنَّ خطرَ التسلُّل الإيديولوجي هذا الذي تجلى في أخطاء لاهوتيي التحرير هذه اختفى تدريجًا مع تطور الوعي حول ثراء التديُّن الشعبي في أميركا اللاتينية. علاوة على ذلك، يؤكد بيرغوليو في المقابلة أنَّ هناك الآلاف من الفاعلين الرعويين، من الكهنة كما من العلمانيين أيضًا، الذين التزموا بخيار الفقراء بالطريقة التي أرادتها الكنيسة الكاثوليكية. كما حرص رئيس الأساقفة الأرجنتيني آنذاك على التأكيد على أنه لا ينبغي أن تنخرطَ الكنيسة في السياسات الحزبية أو المنحازة، وإنما المباح هو الانخراط في السياسات واسعة النطاق والتي تنشأ أصلًا من الوصايا العشر والإنجيل.

ومع ذلك، وبصفته البابا لاحقًا، فقد أعرب بيرغوليو عن آراء قليلة حول لاهوت التحرير. فهو لم يتصرّف، مثل سلفه (بنديكتوس)، كمثقف يشتبك بشكل علني مع أفكار نظرية أو مع محاورين أكاديميين. إنما هو كزعيم عالمي كاثوليكي، عمل أكثر ككاهن منه كأستاذ. لذلك فإنَّ منهجه رعوي وليس عقائديًا. وعندما سُئل عن رأيه في لاهوت التحرير بصفته بابا أجاب بيرغوليو بطريقة تشير إلى أنه يريد التهرب من الجدل في هذا الشأن:

دومينيك وولتون: هل تعتقد أن انتشار عدم المساواة في سياق العولمة يعطي دفعة للاهوت التحرير؟

البابا فرانسيس: أفضل ألا أتحدث عن لاهوت التحرير في السبعينيات، لأن هذا كان أمرًا خاصًا بأميركا اللاتينية…”.

والحال أنَّ كونَ لاهوت التحرير خاص بمنطقة ما وينتمي إلى الماضي ليس سببًا مُقنعًا لعدم الرغبة في التفكُّر حوله. وعندما سئل البابا فرانسيس مرة أخرى عن لاهوت التحرير في المقابلة نفسها، اقتصر جوابه على القول بأنَّ “لاهوت التحرير له جانب مُتحيّز ، بالمعنى الجيد، ولكن أيضًا بالمعنى السيئ”. ثم قام البابا مرة أخرى بتقييم التفسير الماركسي للاهوت التحرير بأنه سيّئ. لكن المثير للاهتمام أنه يشير إلى أنه كانت هناك مفاهيم مختلفة للاهوت التحرير “بعد الحركة الفرنسية في أيار/مايو 1968″، مما يترك انطباعًا بأنَّ وجود دوافع أو ميول لتفسير لاهوت التحرير بالمصطلحات الماركسية أمرٌ يأتي من خارج أميركا اللاتينية. وعلى غرار الانطباع الذي خلقته مقدمته لكتاب لوكور 2005، فإن جواب البابا يعني وكأن هذا التفسير الماركسي هو نتيجة لاختراق إيديولوجية غريبة عن كنيسة أميركا اللاتينية. وهكذا فإنَّ ما هو مضمر هنا هو الإيمان الأصيل لأميركا اللاتينية ضد الإيديولوجية غير الأصيلة الآتية من أوروبا. وعلى الرُغم من أنَّ البابا لا يقول ذلك صراحة، إلّا أنَّ المنطق المتضمّن في فكرته يبدو وكأن هناك مجالًا للاهوتٍ تحرّري أصيل مُطَهَّر من التلوُّث الماركسي. وقد رأينا في حالة غوستافو غوتييريز كيف صار عليه لاهوته التحريري المُطَهَّر في العام 2004 مقارنةً بمقالته في العام 1978. لقد أصبح نوعًا من نسخة معقّمة منه، تستحق التقدير من أحد الأعمدة المحافظة في مجمع الكرادلة، غيرهارد لودفيغ مولر، الرجل الذي كان من المقرر أن يعينه البابا بنديكتوس السادس عشر في العام 2012 ، باعتباره المؤتمن على صحة العقيدة الكاثوليكية الرسمية، رئيسًا لمجمع عقيدة الإيمان. إنَّ علاقة البابا فرانسيس بغوتييريز تشير، من بين لفتات أخرى، إلى سياسة البابا الكنسية الأرجنتينية تجاه حركة لاهوت التحرير.

في العام 1998، قامت مجموعة من اليسوعيين الأرجنتينيين المقرّبين من البابا الراحل بنشر مختارات من المقالات تحمل وجهات نظر لاهوتية وأخلاقية حول اقتصاد السوق والليبرالية الجديدة. وكان من بين المحررين “خوان كارلوس سكانوني” (Juan Carlos Scannone) الملقب بـ”لاهوتي الشعب”. ومن الجدير بالذكر أنَّ مفهومَ عبادة السوق الذي يحمله البابا فرنسيس لا يظهر في الكتاب المذكور، لكنه يظهر فعليًا في مدرسة لاهوت التحرير في التسعينيات.

حملت أعمال علماء لاهوت التحرير المذكورين من هذه المدرسة، تحليلًا لاهوتيًا مبتكرًا للمنطق المتأصّل في اقتصاد السوق والقائم على مبدَإِ عدم التدخّل.  لم تأخذ وثيقة “أباريسيدا” اللاهوتية لعام 2007 بهذا التحليل، ولكن يبدو أنه ترك بصماته على تأكيد البابا فرانسيس على التعليم الاجتماعي الكاثوليكي. إنَّ وجهة نظر البابا فرانسيس حول عملية جعل السوق إلهًا مطلقًا والذي يقتل بالمعنى الحرفي للكلمة، تشبه المنطق التضحوي لعبادة السوق الوثنية الذي اكتشفته مدرسة لاهوت التحرير في التسعينيات. وبالتالي، فإنَّ الجانب التنديدي بالسوق الذي حمله لاهوت التحرير كان جذابًا للبابا المستعد للتنديد بالظلم الاقتصادي من دون تبنّي نموذجٍ ملموس كبديلٍ منه. يتخذ البابا فرانسيس خطوة أبعد في تفسيره للتعليم الاجتماعي في الكنيسة من خلال رسالته العامة “كن مُسبَّحًا” (Laudato Si) لعام 2015.  في هذا النص، تمتد النبرة الاستنكارية للآثار السلبية للاقتصاد السوقي إلى موضوع علم البيئة. إنها وثيقة مبنية على الخطة المنهجية: “أُنظر- أُحكُم-إعمل” . هذا إضافة إلى أن الارتباط الوثيق بين قضية الفقراء وحماية البيئة الذي يذكرنا بعقيدة لاهوت التحرير ذات التوجه البيئي في تسعينيات القرن العشرين، يشكل عنصرًا أساسيًا في المحاججة. وعلاوة على ذلك، فليس من قبيل المصادفة أن نسمع في الفقرة 49 من الوثيقة إشارة إلى كتاب ليوناردو بوف بعنوان “علم البيئة: صرخة الأرض، صرخة الفقراء” الصادر في العام 1995: ” يتعين علينا اليوم أن ندرك أن النهج البيئي الحقيقي يصبح دائمًا نهجًا اجتماعيًا؛ ويجب أن يدمج مسائل العدالة في المناقشات حول البيئة، حتى نتمكن من سماع صرخة الأرض وصرخة الفقراء”.

التحول إلى قضية البيئة في اللاهوت الكاثوليكي، والذي أدى إلى إنتاج رسالة “Laudato Si”، حدث في اجتماع “أباريسيدا”. ومع ذلك، فإنَّ التحوّل في اللاهوت الكاثوليكي في أميركا اللاتينية في ما يتعلق بالبيئة كان حدث في الواقع في لاهوت التحرير منذ التسعينيات. ومن المرجح جدًا أنه كان هناك أساقفة مؤثرون حاضرون في اجتماع الأساقفة لعام 2007 في “أباريسيدا” على دراية باللاهوت البيئي في لاهوت التحرير عند البرازيليَين ليوناردو بوف وإيفون جبارة. وفي حين يبدو أنَّ المخاوف البيئية كان لها تأثير دائم على التعاليم الكاثوليكية الرسمية في أميركا اللاتينية، فقد وقع إهمال النسوية التحريرية التي عبرت عنها إيفون جبارة، لا بل مقاومتها بنشاط من قبل أساقفة أميركا اللاتينية وعلى رأسهم البابا فرانسيس.

يبدو أن الصراع بين لاهوت التحرير والفاتيكان قد حله التجسيد الكاريزماتي لكنيسة الفقراء في شخص البابا فرانسيس، ولكن أيضًا من خلال تعديلات في لاهوتات جهات فاعلة مختلفة.  في عصر ما بعد الحرب الباردة، واجه خورخي ماريو بيرغوليو الواقع الرهيب للفقر وهيمنة الرأسمالية في عالمٍ لم تعد فيه الشيوعية تشكل تهديدًا ولم تعد فيه الماركسية جذابة للمثقفين في الكنيسة. في ضوء التقييم النقدي لبعض عناصر لاهوت التحرير، يبدو البابا فرانسيس كشخصية مصالحة بين مجموعات معارضة سابقًا داخل الكاثوليكية في أميركا اللاتينية أكثر منه ثائرًا تغييريًا. إن سياق ما بعد الحرب الباردة يجعل مقاربته للاهوت التحرير أقل إثارة للجدل ويجعل تأكيده التحرري على المعاداة الكاثوليكية التقليدية للرأسمالية أكثر قابلية للفهم، وخصوصًا عندما يربطها بتدهور البيئة. ومن خلال العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام وبعض الأعمال غير النقدية إلى حد ما، اكتسب البابا فرانسيس سمعة باعتباره مصلحًا جذريًا وحتى بابا ثوريًا. لكن البابا فرانسيس لا يدعو إلى أي نوع من الثورات السياسية التي حث عليها بعض علماء اللاهوت التحريري (وحتى شاركوا فيها) في الستينيات والسبعينيات.  والخطاب اللاهوتي للبابا هو في الغالب إدانة للوضع الراهن الاقتصادي والسياسي من دون أي تبن لبديل ثوري.  ويُقارن البعض أحيانًا البابا فرانسيس بالبابا يوحنا الثالث والعشرين، استنادًا إلى الكاريزما الدافئة والإنسانية والتوجه الرعوي لكليهما. لكن ثبت أن قرار البابا يوحنا الثالث والعشرين بعقد مجمع وإعلان أنه سيكون مجمعًا للتحديث وليس لإدانة الحداثة، كان قرارًا تاريخيًا فاق بآثاره كل ما سبقه وما تلاه، إذ لم يحصل بعده أي مراجعة مجمعية شاملة بالعمق والشمول الذي كانه فاتيكان 2.

Exit mobile version