أمّا وقد استَيقَظَت الصين!

الدكتور فيكتور الزمتر*

ما زالَت أسواقُ العالمِ تنشدُ الإستقرارَ، جرّاء حرب التعريفات الجُمركية، التي استهلَّ بها الرئيس دونالد ترامب ولايتَه الثانية، وإن كانت ارتدادات هذه الحرب غير المسبوقة تُنبِىءُ بأنَّ فُرَقاءَها على قاب قوسين أو أدنى من وضع بعضِ الماء في كؤوسهم، تجنُّبًا لانهيار قواعد التبادل التجاري العالمي، بما لا يوفِّرُ تاجرًا أو مُصنِّعًا أو مُستوردًا.

لقد كِيلت الإتهاماتُ للرئيس الأميركي، ورُشِقَ بأقذع النعوت والأوصاف الجارحة، بدون التبحُّر الموضوعي كِفايةً بدوافع تمرُّدِه على قائمة  التعريفات الجُمركية، التي كانت تتحكَّمُ بالتبادلات التجارية بين الولايات المُتحدة وباقي دول العالم، الصديقة منها والمُنافِسة.

ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ على إعادة واشنطن النَّظر في تلك التعريفات، حتى أبدت الدول المعنية بها استعدادَها للوصول إلى أرضيةٍ مُشتركةٍ أكثر إنصافًا للجميع. وفي ذلك إقرارٌ بأنَّ خضَّةَ التعريفات كانت مبنيةً على وقائع لم تكن مُنصفةً بحقِّ الإقتصاد الأميركي، ما اقتضى إحداثَ هزَّةٍ لإعادة الأُمور إلى توازُنها، بدليل تعليق الإدارة الأميركية تطبيق التعريفات المُستجدَّة لمُدَّة تسعين يومًا، إفساحًا بالمجال أمام الإتفاق على قواسم مشتركة، مع استثناء الصين، كونها الجهة الرئيسة المُستهدَفة بالحرب التجارية.

إلى ذلك، أشَّرت انتفاضةُ واشنطن الجُمرُكية إلى شعورها بأنَّ هيمنةَ اقتصادها أضحت مُهدَّدةً بخطر إزاحتها عن الزعامة الاقتصادية العالمية. وما استهدافُ الصين الرئيسي، منذ أكثر من عقدين، سوى قرينة على توجُّس الولايات المُتحدة من حلول الصين محلّها، على عرش اقتصادات العالم.

مُنذُ عُقودٍ، والولايات المُتحدة تنامُ على حرير ريادتها، في مجالات المال والصناعة والتجارة والدفاع … حتى غدت أكثرَ دُوَل العالم تقدُّمًا وثراءً وقُوَّةً ونفوذًا، تُفتي فتُطاعُ، تُخطِّطُ فيتبعُها ركبٌ غفيرٌ من الأتباع .. بدون تساؤُلٍ! ومع تفكُّك الإتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، انتهى عالمُ القُطبين وخلت لواشنطن زعامة العالم بلا مُنازعٍ. إلّا أنَّ ذلك لم يُسكرها طويلًا، بل خطَّط استراتيجيُّوها لإدامة تلك الزعامة، أقلُّه لنصف قرنٍ مقبلٍ، تاركةً روسيا الإتحادية، وريثة الإتحاد السوفياتي، غارقةً في لملمة شتاتها وتدبير وحدتها الداخلية وإنعاش اقتصادها المُنهار .. وبدون أنْ تغُضَّ الطرف عن الإتحاد الأوروبي المُنتفض على وضعية القارة العجوز، ولا على القُمقم الصيني الآخذ بالإختلاج، بعدما أصبحت الصينُ مصنعَ العالم ومُصدِّرَه الرائد، بفضل استناد ظهرها إلى وحدةٍ قوميَّةٍ صلبةٍ، بعكس دُوَل الغرب القلقة من بُنياتِ مجتمعيّاتها المُهاجرةٍ والمُهدِّدة لهيويّاتها القومية.

من هنا، وضعَ عُتاةُ “الدولة العميقة” الأميركية، من وكالات الإستخبارات والمُجمَّع الصناعي العسكري وسوق المال (Wall Street) وشبكة الدفاع والأمن القومي (Pentagon) ومجالس الفكر (Think Tanks) … الخُططَ لإبقاء قيادة العالم طوع إرادة العم سام.

فبعد تحييد الإتحاد السوفياتي، كان المُفكِّرُ زبغنيو بريجنسكي أوضحَ مَن أناط اللِّثام عن خطَّة بلوغ المُراد الأميركي الأبعد باحتواء كلٍّ من الصعود الأوروبي والياباني والصيني تحديدًا، من خلال دعوته إلى تقسيم أوراسيا، درءًا للتكامُل الروسي-الأوروبي الآخذ بالنموّ، لا سيَّما التكامُل الروسي-الألماني، دينامو الإقتصاد الأوروبي، عبر إمداد أوروبا بالغاز والطاقة، بواسطة ستة أنابيب لنقل الغاز بين روسيا وأوروبا، وأبرزها خطّا “نورد ستريم 1″ (Nord Stream 1) و”نورد ستريم 2” (Nord Stream 2) بين روسيا وألمانيا، إضافةً إلى العديد من المواد الأوَّلية الروسيَّة، مقابل العديد من المنتوجات الصناعية الأوروبية المُتقدِّمة تكنولوجيًّا. وما حادثةُ تفجير هذا الخط في بحر البلطيق، في 27 أيلول (سبتمبر) 2022، سوى قرينة فاقعة على العزم على ضرب التكامُل الإقتصادي بين شطرَي أوراسيا.

ولا يُمكنُ تبريرُ انعطافة سياسة الإدارة الأميركية الحالية بشأن الحرب الأوكرانية بغير العزم الوطيد على شقّ التحالف الروسي-الصيني المُتعاظم، للإستفراد بالصين الصاعدة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وعسكريًّا. وهنا، قد تجدرُ الإضاءةُ على مسؤولية الغرب عامةً، والولايات المُتحدة تحديدًا، بالتغافُل عن هجرة رؤوس الأموال الغربية إلى بلدان الشرق الأقصى، حيث الأيدي العاملة الرخيصة، ما أقفلَ العديد من المصالح الأميركية الصناعية وشرَّدَ ملايين العُمال ورجال الإختصاص. فرأسُ المال إنَّما يبغي الربحَ السريع، غير مُبالٍ إن كانت سُبُل كسبه لا تأخذ بالإعتبار مصالحَ الوطن العُليا!

مقابلَ تلكَ الهجرة، شهدَ الغربُ، وبخاصَّةٍ الولايات المُتحدة، نُزوحَ الأدمغة الآسيوية، للإكتناز العلمي بأحدث ما بلغته الجامعاتُ الأميركيةُ الموصوفةُ  بريادتها، من خبراتٍ في مجالات التكنولوجيا والتقدُّم الصناعي وعالم الإقتصاد والمال .. ونقلها إلى الشرق الأقصى.

ولعلَّ ما تقدَّمَ أعلاه يُضيءُ بعضَ الشيء على سياسة المُواجهة التي يقودُها الرئيس ترامب بذكاء وخبرة صاحب الباعٍ الطويلٍ في مجال التفاوض والمُساومة، دفاعًا عن مصالح بلاده الحيوية. فالرئيسُ الأميركيُّ الحالي يُقاربُ السياسة مُتسلِّحًا بخلفية رجل الأعمال الناجح، الساعي إلى إعادة الأَلَق لأميركا، بعد اتهامه “الدولة العميقة” بمسؤوليتها عن تراجع مكانة وعظمة أميركا.

وفي هذا السياق، يجدُرُ التذكير بأنَّ الولايات المُتحدة لم تُوفِّر وسيلةً لتطويق الصين بالأحلاف العسكرية، مُطمئنَّةً إلى التنافس الهندي-الصيني على زعامة آسيا. ولم يقتصر الأمرُ على الشأن العسكري، بل تعدّاه إلى المُجابهة التجارية، حيث رعت واشنطن مشروعَ “الممر الإقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا”، الذي أُفصحَ عنه خلال قمَّة “مجموعة العشرين”، في نيودلهي في العام 2023، ردّاً على “مُبادرة الحزام والطريق”، التي أطلقتها الصين في العام 2013، لربط البرّ الصيني بمئة واثنين وخمسين دولة ومنظمة دولية، من آسيا إلى أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، مرورًا بالشرق الأوسط، لتشجيع الإستثمارات، من خلال تطوير البنى التحتية في تلك الدول.

على كلِّ حال، تَحفَلُ مُتونُ التاريخ بشواهد لا تُحصى على محدودية أعمار الأُمبراطوريات، بين نشوءٍ وأُفولٍ، كأقدارٍ حتميَّةٍ لا مفرَّ منها. على هذا القياس، من الحكمة مقاربةُ الكباش الأميركي-الصيني، بدون القفز على استنتاج النهاية الحاسمة، على اعتبار أنَّ الولايات المُتحدة ما تزال تُمسكُ بعناصر الزعامة العالمية، استنادًا إلى اقتصادها الأقوى عالميًا وإلى  تعامُل غالبية دول العالم بعملتها الوطنية، فضلًا عن تفوُّقها التكنولوجي والعسكري … بينما لا تزالُ الصين ناشئةً في طور الصعود المضطرد. فالصينُ، التي تكادُ تبيعُ ولا تشتري، تعتبرُ حضارتَها هي الوحيدةَ الأصيلةَ تحت الشمس، وتتحصَّنُ بحسٍّ قوميٍّ صلبٍ، ما دفع الفيلسوف الفرنسي “فولتير” (1694-1778) إلى اعتبار الصينيين “فوق سائر شعوب الأرض، بسبب ثباتهم على قوانينهم وتقاليدهم ولُغتهم، مُنذ آلاف السنين”.

يُنسَبُ لنابوليون بونابرت، بدون تأكيدٍ أو توثيقٍ، قولُه: “عندما ستستيقظُ الصين، سيرتجفُ العالمُ”. وبعد ما يزيدُ على قرنين من الزمان، يتحقَّقُ هذا التوقُّعُ الرؤيوي، من دون أنْ يرتجفَ العالمُ، طالما يتمدَّدُ النفوذُ الصيني بقوَّة التبادُل التجاري، لا بحدِّ السيف المُتسلِّط!

فَلِمَ التخوُّفُ من دولةٍ تتوق إلى موقعٍ مُحترمٍ لأُمَّتها تحت الشمس، بعد تشرذمٍ وفقرٍ وتسلُّطٍ واستعمارٍ …؟

أفلا يجبُ أنَّ تكونَ الصين مثالاً يُحتذى، لشعوبٍ وأُممٍ، كالشعوب العربية، آنَ لها أن تنتفض على تمزُّق وحدتها ومعاناتها المُهينة المُزمنة، لتقتطعَ مكانةً كريمةً تليقُ بمهبط رُسُلِها وأنبيائها؟

إنَّها معركةُ الإعتداد بالنفس، لا إمعانًا بنهج الخضوع والخنوع، انعتاقًا من مبدَإِ “أنا أو لا أحد”، وتحرُّرًا من تسلُّط القوي على الضعيف وتحكُّم الغني بالفقير!

Exit mobile version