لبنان: خمسون عامًا من الاضطرابات والحروب

الدكتور سعود المولى*

الحرب التي اندلعت في لبنان في 13 نيسان (أبريل) 1975، أي منذ 50 عامًا، هي حربٌ أهلية كما هي حربٌ غير أهلية… هي حربنا نحن بأيدينا وبسلاحنا، وهي حربُ الآخرين على أرضنا بسلاحهم وأموالهم ومنظماتهم… هي حربُ امتدّت على مدى 50 عامًا، وليس صحيحًا أنها حربُ السنتين 1975-1976 فقط، وليس صحيحًا أنها انتهت باتفاق الطائف 1989، أو الدستور الجديد…

وأنا مثل غيري من أبناء جيلي شهدتُ وعشتُ هذه الحرب بكلِّ تفاصيلها ومحطّاتها… لذلك أستعيدُ ذكرياتها ولا أدّعي أو أزعم أننا تعلّمنا شيئًا، أو أنَّ مَن جاء بعدنا تعلّم شيئًا… أو أنَّ هذا التعلُّم مُفيدٌ بحيث يقينا من عثرات الزمان وغدرات المكان…

فأمرنا كان ولا يزال مرهونًا بموازين قوى خارجية وبشروطٍ وظروفٍ داخلية لا ناقة لنا بها ولا جَمَل…

فتعالوا نقرأ بعض سيرة ودروس هذه الحرب أو الحروب التي أنهكت الجسد والروح.

حرب السنتين 1975-1976: كانت صراعًا حول شرعية الوجود الفلسطيني المُسَلَّح في لبنان غلب عليها طابع الصراع بين القوات الفلسطينية-اللبنانية المشتركة (من الجانب اللبناني كانت ذات طابع يساري إسلامي) وقوات الأحزاب اللبنانية المسيحية (الجبهة اللبنانية ثم القوات اللبنانية)… انتهت بالغزو والاحتلال السوري في 6 حزيران (يونيو) 1976 والذي تحوّل بعد مؤتمرَي القمة العربية في الرياض (16 تشرين الاول/أكتوبر) 1976) ثم القاهرة (25 تشرين الأول/أكتوبر 1976)، إلى قوّات ردعٍ عربية سرعان ما سيطرت عليها سوريا ثم أخرجتها نهائيًا.

1976-1982: حروب الصراع بين القوات المشتركة الفلسطينية-اللبنانية وإسرائيل في الجنوب، وشهدت عشرات الاعتداءات والمعارك الكبيرة ناهيك عن حربي غزو واجتياح في آذار (مارس) 1978 وحزيران (يونيو) 1982.

1977-1990: حروب الصراع التي خاضتها القوى اللبنانية المسيحية والقوى الفلسطينية واليسارية اللبنانية ضد الاحتلال السوري الأسدي، كلٌّ من جانب ، بدءًا من العام 1977، للدفاع عن وجودها:

1982-1990: حروب القوى اللبنانية كافة ضد بعضها البعض للإمساك بالورقة اللبنانية:

1990-2005: حرب فرض اتفاق الطائف 1989 والدستور الجديد 1990 وما تلاها من فرض الوصاية السورية الكاملة وبدعم أميركي-عربي حتى العام 2005. وقد تميّزت هذه المرحلة بمعارضة مسيحية ووطنية واضحة وواسعة لهذه السيطرة بلغت ذروتها في حركة 14 آذار 2005.

2005-2024: منذ اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005  وإلى اغتيال السيد حسن نصرالله في 27 أيلول (سبتمبر) 2024 واتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024. تميزت هذه المرحلة بسيطرة “حزب الله” وحلفائه على الوضع اللبناني بعد انسحاب القوات السورية في 27 نيسان (أبريل) 2005.

في الخلاصة أنه لا يمكن قراءة مجريات الحروب التي طالت ولم تنته فصولها بعد حتى اليوم، إلّا من خلال فهم مدى تشابك المتغيّرات والتأثيرات الدولية (الصراع الروسي-الأميركي أولًا، ثم الدور الفرنسي- وغيره- من جهة أخرى) والإقليمية (إسرائيل وسوريا أوّلًا، وتأثير التدخّلات المصرية والسعودية ثانيًا ثم الليبية والعراقية والجزائرية-وغيرها- أخيرًا) وتمفصلها وتراكبها مع الظرف المحلي الخاص والاستثنائي (النظام السياسي الطائفي اللبناني وما ولّده من صنوف الغبن والحرمان والتهميش، وما أوجده من معادلات غلبة في الداخل من جهة، واستقواء بالخارج من جهة أخرى) ، وما خلّفه ذلك من توازنات داخلية-خارجية تمفصلت حول معادلتي الحرمان والمشاركة الإسلامية من جهة، وعقدة الخوف المسيحي على المصير من جهة أخرى، ما قاد الى الحرب الأهلية.

تراكم مع هذا الوضع الخاص جملة من العوامل التاريخية انضافت إلى ما سبق لتشكل مجتمعة السمة العامة لمرحلة طويلة من تاريخ لبنان المعاصر:

  1. الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين (1917-1948) وما نتج عنه من عدوان إسرائيلي يومي على أرض وشعب لبنان (منذ العام 1948 وحتى حرب 2023-2024، مرورًا بالعدوان على مطار بيروت في 18 كانون الاول (ديسمبر) 1968، والعديد من الاجتياحات والغزوات والاحتلالات تفاوتت حجمًا وزمنًا: 1972-1978-1982-1993-1996-1998 وصولًا إلى تموز (يوليو) 2006 ثم حرب 2023-2024… إلخ).
  2. ولادة حركات ممانعة ومقاومة كان الجنوب أرضها وميدانها وخصوصًا منذ دخول قوات الثورة الفلسطينية وسيطرتها على الجنوب (1970) ثم تشكيل أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) 1974- 1975، ثم المقاومة الإسلامية (حزب الله) 1982.
  3. تصاعد حركات الاحتجاج الشعبي والمطالبات الاجتماعية في كل القطاعات وعلى امتداد كل لبنان منذ العام 1965 وخصوصًا بعد العام 1970.

وكانت الحرب هي الحاضنة لنشوء ما أسماه الزميل المرحوم سليم نصر “نظام حرب” اقتصادي اجتماعي، ظهر خلال حرب السنتين، واستمر بعدها وتطور حتى صار مستدامًا. وكان لذلك أبلغ الأثر على عموم الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي لاحقًا. وكان من أهم نتائج نظام الحرب المستدام هذا، على الصعيد السياسي والثقافي، أنه ساهم في تشكل وبلورة هويات جماعاتية خصوصية كانت لها استراتيجياتها للوصول إلى السلطة أو للاستمرار فيها وبالتالي كانت وقود ديمومة الحرب.

خاتمة: تعالوا نسأل أنفسنا

هل انتهت عقلية الحرب الأهلية وممارسات الحرب الأهلية؟

هل انتهى التكفير والتخوين؟

هل انتهى الإصطفاف الطائفي والمذهبي؟

هل انتهى الشعور بالغلبة والإستقواء بالخارج؟

هل انتهى الشعور بالغبن والإستنجاد بالخارج؟

هل تحققت المشاركة الفعلية والتوازن الفعلي بين جميع مكوّنات هذا الكيان؟

هل تحقق التوازن في العلاقات الخارجية (لا ممرًا للإستعمار ولا مقرًا له، لا شوكة في خاصرة سوريا ولا تابعًا لها)؟

هل وصلنا إلى فهم واحد موحَّد حول العروبة الحضارية الجامعة وحول اللبنانية العربية المنفتحة وحول التسامح والتضامن وحول قبول الآخر والإعتراف به آخر مختلفًا؟

هل تحققت المصالحة الوطنية الحقيقية الشاملة للجميع من دون إستئثار أو نبذ أو إلغاء أو إستعلاء أو تشبيح ومن دون صهر أو تطابق أو تماهي أو فرض أو قهر؟

هل حققنا الشراكة الحقيقية، لا بلقلقة اللسان، وإنما بالاعتراف للآخر بحقوقه الكاملة، وبخصوصياته كلها، ضمن إطار الوطن الواحد والديموقراطية البرلمانية؟

هل اعترفنا أنَّ الغلبة الحقيقية هي في تغليب الحق والعدل ولو على النفس أو ذي قربى، وأن التوازن الحقيقي هو في تحقيق العدالة والكرامة والمساواة للجميع وبين الجميع، وعلى أساس النزاهة والكفاءة والشفافية والرقابة والمحاسبة؟

هل شاركنا كل من موقعه في بناء دولة وطنية ديموقراطية حقيقية: دولة لا تكون غائبة عن الوعي ولا مغيَّبة عن الحضور، دولة لا تكون ضائعة ما بين تركة ثقيلة وتصفية حسابات وما بين تسيب وتردد وفساد كارثي… دولة تحقق الإنماء المتوازن الذي نتحدث عنه منذ العام 1943… دولة تحقق الفصل الفعلي للسلطات والتوازن بينها… دولة تنهض بالجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي والخدمات الأساسية للمواطن من ماء وكهرباء وتعليم وطبابة وعمل…؟

هل قمنا بممارسة نقد ذاتي حقيقي ومراجعة فكرية عميقة، لتجديد الحياة السياسية وتجديد الثقافة السياسية وتجديد النخب السياسية، مراجعة لا تصادر تاريخ الآخرين ومشاعرهم، ولا تتعامل مع الآخر تعامل المنتصر مع مهزوم أو تعامل وطني مع عميل، بحيث يكون واجب الآخر تقديم الإعتذار والتوبة في حين ننتفخ نحن غرورًا وزهوًا حاملين مفاتيح الجنة وموزعين صكوك الوطنية؟.

في ذكرى 13 نيسان (أبريل) تعالوا إلى كلمةٍ سواء.

Exit mobile version