خارِطَةُ طَريقٍ للتعافي الاقتصادي لما بَعدَ الصراعِ في الشرق الأوسط

جهاد أزعور*

تُشكّلُ إعادةُ بناءِ الاقتصادات بعد الصراع تحدّيًا هائلًا، لا سيما في الشرق الأوسط، حيث خلّفت عقودٌ من الحرب ندوبًا دائمة على الهياكل الاقتصادية والمجتمعات. وفي ظلِّ مشهدٍ سياسيّ مُتَحَوِّل، برزت فرصةٌ شديدة الأهمية لدَعمِ التعافي بعد الصراع. ستكونُ المساعدة المالية الدولية حاسمة، لكن يبقى السؤال المحوري: كيف يُمكِنُ لجهودِ إعادةِ الإعمار وتطبيقِ السياسات أن تُحقّقَ أداءً اقتصاديًا مُستدامًا وتُحَسِّنَ حياةَ الناس؟ إنّ التكلفة الباهظة للتقاعُس لا تزيد فقط من خطر العودة إلى حالة عدم الاستقرار، بل تُقَوِّضُ أيضًا ثقةَ الجهاتِ المَعنية الدولية والإقليمية. فالتعافي الحقيقي يتطلّبُ أكثر من مجرّد حِقَنٍ مالية قصيرة الأجل؛ فهو يتطلّبُ نهجًا شاملًا يُركّزُ على إعادةِ بناءِ المؤسّسات، وتنفيذ إصلاحات طويلة الأجل، وتعزيز المرونة الاقتصادية.

إنّ الدمارَ الاقتصادي الناجم عن الصراعِ هائلٌ، لكنَّ عواقبَهُ الاجتماعية أشدُّ وطأةً. فاعتبارًا من أواخر العام 2023، شكّلَ الشرقُ الأوسط موطنًا لأكثر من 40% من سكان العالم النازحين قسرًا – وهو تذكيرٌ صارخٌ بالتكلفة البشرية للصراع. كما أدّت الحربُ إلى تآكُلِ رأس المال البشري: ففي العديد من مناطق الصراع في المنطقة، انخفضَ معدّلُ الالتحاق بالمدارس الابتدائية بنسبةٍ تصلُ إلى 30%، وانخفضَ متوسّط ​​العمر المُتَوَقَّع بمقدار عقد من الزمن في المناطق الأكثر تضرُّرًا. وانهارت أنظمة الرعاية الصحية الهشّة، التي تُعاني أصلًا من ضغوطٍ شديدة، في ظلِّ صراعٍ طويل الأمد، مما أدّى إلى استمرار الانتكاسات التي تطالُ الأجيال وتُعيقُ الانتعاشَ الاقتصادي والنموَّ المستقبلي. وقد تفاقَمَ الفقر المُدقِع وانعدام الأمن الغذائي، ما أثّرَ في شرائح كبيرة من السكان المحلّيين.

كما أدّت الصراعات في المنطقة إلى تسريعِ تدهور البنية التحتية المادية والمؤسّسية، مما فاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. فقد تكبّدَ اليمن خسائر في البنية التحتية تجاوزت 20 مليار دولار، أي ما يقرب من نصف ناتج البلاد المحلي الإجمالي قبل الحرب. وكلّفت الحرب الأهلية في سوريا البلاد أكثر من 130 مليار دولار من رأس المال المادي المفقود – أي ما يعادل 230% من ناتجها المحلي الإجمالي قبل الحرب؛ وانخفض نصيبُ الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمقدار الثلثين منذ اندلاع الحرب. وتُظهِرُ دراسةٌ حديثة لصندوق النقد الدولي أنَّ نصيبَ الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الشرق الأوسط ينخفض ​​بمعدل 2% عن مستواه قبل الحرب في السنة الأولى من القتال، مع خسائر تراكُمية تتجاوز 13% على مدى العقد التالي. وحتى بعدَ عَقدٍ من انتهاءِ الأعمال العدائية، لا يزال نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان التي تشهد صراعات في المنطقة أقل بنسبة 10% على الأقل عن مستواه قبل الحرب. وتمتدُّ الآثار السلبية إلى ما وراء مناطق الصراع – حيث تشهد البلدان المجاورة تداعيات اقتصادية غير مباشرة، إذ ينخفضُ ​​نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 6% عن مستواه بعد 10 سنين.

وفقًا لبحث جديد لصندوق النقد الدولي، فإنَّ كلَّ دولار يُستَثمَرُ في مَنعِ الصراعات -من خلال جهود السياسات الرامية إلى تعزيز استقرار الاقتصاد الكُلّي والنمو، وتقوية المؤسّسات، ودعم تنمية المجتمعات المحلية- يُمكِنُ أن يُوفِّرَ ما بين 26 و103 دولارات من التكاليف المُحتَمَلة المُرتبطة بالصراع، بما في ذلك الاحتياجات الإنسانية وخسائر الإنتاج بعد الحرب.

ومع عودة الاستقرار تدريجًا إلى أجزاءٍ من المنطقة، تبرزُ إمكانية التعافي الاقتصادي. فقد شكّل لبنان حكومةً جديدة. وتعمل الإدارة الانتقالية في سوريا، بعد تشكيل حكومة جديدة، على استعادة الخدمات الأساسية. أما اليمن، فرُغمَ التحدّيات المستمرة، يُحرِزُ تقدّمًا في بعض الإصلاحات. ومع ذلك، لا يزال الصراع يُثقل كاهل اقتصادات ليبيا والسودان والضفة الغربية وغزة.

لتحقيقِ انتعاشٍ مُستدامٍ طويل الأمد، من الضروري استعادة رأس المال البشري وتهيئة بيئة أعمال تُشجّعُ نموَّ القطاع الخاص. تمتلك معظم دول المنطقة جاليات مزدهرة ذات سجل حافل بالنجاحات في الخارج، مما يُتيحُ فرصةً قَيِّمة للاستفادة من خبراتها ومواردها المالية في التنمية المحلية.

جمعت مائدةٌ مستديرة رفيعة المستوى، عُقِدَت أخيرًا في مدينة العُلا في المملكة العربية السعودية، صانعي سياسات ورؤساء ومدراء مؤسّسات مالية وخبراء تنمية لمناقشة استراتيجياتٍ مُبتَكَرة لإعادةِ بناء اقتصادات الشرق الأوسط. وكان الإجماعُ واضحًا: المساعدات المالية وحدها لا تكفي. إنَّ إعادةَ بناء المؤسّسات بعُمق، والتنسيق الفعّال للسياسات، والاستثمار في التعافي والشمول أمورٌ أساسية. واقترح المشاركون إطارًا استراتيجيًا يُركّزُ على إجراءِ تقييماتٍ اقتصادية خاصة بكلِّ بلد، ووَضعِ برامج إعادة تأهيل اقتصادي مُصمَّمة خصيصًا، وتعبئة الأموال الدولية من خلال جهود إعادةِ إعمارٍ مُنَسَّقة. ومن شأنِ إنشاءِ مجموعةِ تنسيقٍ مُخصّصة بين المؤسّسات الإقليمية والدولية أن يُساعدَ على ضمان توافُقِ استراتيجيات التعافي ودعم الجهات المانحة.

يجب على المجتمع الدولي الإسراع في تطوير نهجه لدعم تعافي المنطقة بعد انتهاء الصراع. لإعادة البناء بفعالية، لا بدَّ من اتِّباعِ نهجٍ تعاوني خاص بكل بلد. وينبغي أن تُركّزَ جهودُ التعافي التي تبذلها الحكومات والمؤسّسات الدولية -بما فيها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووكالات الأمم المتحدة وصناديق التنمية الإقليمية- على ثلاثة مجالات أساسية.

أوّلًا، ستكونُ التقييماتُ الاقتصادية الشاملة حاسمةً لفَهم المدى الكامل للتحدّيات الاقتصادية في مرحلة ما بعد الصراع. لكلِّ بلدٍ ظروفه الفريدة. على سبيل المثال، ستحتاج سوريا إلى إعادة بناء مؤسّساتية واسعة النطاق، بينما يحتفظ لبنان، على الرُغم من أزمته الاقتصادية، ببعض المؤسّسات العاملة القادرة على دعم التعافي. يمكن لصندوق النقد الدولي تقديم إرشادات سياسية من خلال التعاون مع السلطات الوطنية لوَضعِ إطارٍ اقتصادي كُلّي مُتماسِك يتماشى مع احتياجاتِ إعادة الإعمار واستراتيجيات التعافي الفعّالة.

ثانيًا، تُعَدُّ معالجة نقاط الضعف المؤسّسية أمرًا أساسيًا لتحقيق التعافي المُستدام. ينبغي أن تُعطي الجهود المبكرة الأولوية لإصلاحات النظام المالي والنقدي والمصرفي لاستعادة الثقة والاستقرار. يمكن لصندوق النقد الدولي تقديم الدعم في مجال بناء القدرات المؤسّسية، واستعادة القدرة على إجراء العمليات المالية الأساسية، بما في ذلك صياغة الميزانية وتنفيذها، مع تصميم وتنفيذ الإصلاحات الحاسمة. تتضمّن هذه العملية تعزيزَ أُطُرِ الحَوكمة لاستيعاب وإدارة المساعدات الدولية بفعالية، وإصلاح المؤسسات النقدية لاستعادة المصداقية، مما يُمَكِّنُ من تعجيل التعافي الاقتصادي.

ثالثًا، يُعتَبَرُ حَشدُ المساعدة المالية أمرًا بالغ الأهمية. فالدعمُ المالي الكبير ضروريٌّ لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة وتمويل برامج الإصلاح الاقتصادي ومشاريع إعادة الإعمار. يمكن لصندوق النقد الدولي تقديم مساعدة مالية مُوَجَّهة من خلال برامج إقراض مُنَظَّمة جيدًا وتشجيع دعم المانحين. يُعدّ التنسيق بين الشركاء العالميين والإقليميين أمرًا بالغ الأهمية لمنع التشرذم. في بعض الحالات، قد يكون تخفيف أعباء الديون ضروريًا أيضًا لضمان قدرة الدول على إعادة البناء بدون زيادة أعبائها المالية. ويمكن لصندوق النقد الدولي تسهيل التنسيق العالمي لتعزيز مشاركة المانحين والتعاون عبر الحدود.

لا يقتصر التعافي بعد الصراع على حلولٍ قصيرة الأجل فحسب، بل يتطلّبُ إعادةَ بناءٍ مُستدامة وطويلة الأمد. لا يُمكِنُ تجاهل إلحاح العمل، إذ يجب على المجتمع الدولي أن يتحرّكَ بحزم، وأن يعملَ جنبًا إلى جنب مع سلطات الدول للاستثمار في مستقبلٍ تتمكّنُ فيه هذه الاقتصادات من تحقيق الاكتفاء الذاتي والرخاء والاستقرار الإقليمي. تواجه كل دولة في الشرق الأوسط تحدّيات فريدة تتطلّبُ استراتيجيات شاملة ومُصمَّمة خصيصًا لها. وتقع على عاتق سلطات الدول مسؤولية حاسمة في إعادة بناء اقتصاداتٍ أقوى تعودُ بالنفع على جميع المواطنين.

إن تكلفة التقاعس باهظة للغاية. ولن تتمكّنَ هذه الدول من الخروج من براثن الصراع والمضي قُدُمًا نحو مستقبلٍ أكثر إشراقًا وازدهارًا إلّا من خلال الالتزام المستمر.

Exit mobile version