الدكتور فيكتور الزمتر*
لا مُجافاةَ بالقول أنَّ حربَ التعريفات الجمركية، المُستَعرة حاليًّا بين إدارة الرئيس دونالد ترامب وغالبية دول العالم، الحليفةُ منها قبل المُنافِسة، قد أيقظت “آدم سميث” (١٧٢٣- ١٧٩٠)، الفيلسوف الأخلاقي وعالم الإقتصاد الإسكتلندي، والمُعتَبَر مؤسّس عِلم الإقتصاد، في القرن الثامن عشر.
من خلال مُؤلّفه “بحثٌ في طبيعة ثروة الأُمم وأسبابها”، والمعروف اختصارًا باسم “ثروة الأُمم”، اعتبرَ “سميث” أنَّ العملَ هو ثروةُ الأُمم، في تمايُزٍ جليٍّ عمّا اعتبرَه سابقوه بأنَّ ثروةَ الدول والأمبراطوريات تكمنُ في ما تختزنُه من ثرواتٍ طبيعيةٍ. لذلك، دعا إلى تعزيز المُبادرة الفردية والمُنافسة وحرية التجارة … تحقيقًا للثروة الواجب تسخيرها في خدمة رفاه الشعوب والأُمم، وذلك من مُنطلقٍ أخلاقيٍّ.
هذه المُقدِّمة تقودُنا إلى الحديث عن جدلية الإقتصاد والسياسة، واستطرادًا إلى السؤال عمَّن يقودُ الآخرَ: السياسةُ تقودُ الإقتصادَ أم العكس؟ وكي لا نُصاب بالإعياء بسبب عبثية الجواب، من الأفضل أنْ نُسَلِّمَ مع المُسَلِّمين المُختصّين بأنَّ الإقتصادَ والسياسةَ توأمان لا ينفصلان، وإن استقرَّ الرأيُ على اعتبار كلٍّ منهما عِلمًا بحدِّ ذاته، لا تتظهَّرُ مفاعيلُهما بغير تكامُلهما الوجوبي. ودلالةٌ على الترابُط الوثيق بين الإقتصاد والسياسة، أقلُّه منذ الثورة الصناعية، لا بأس من إسقاط مقياس أرسطو، بخصوص جدلية “الوجود بالقوَّة والوجود بالفعل”، على العلاقة الجدلية بين الإقتصاد والسياسة، من خلال القول بأنَّ الإقتصادَ يُمثِّلُ الربحَ بالقوَّة، بينما تُمثِّلُ السياسةُ، بإدارتها، الربحَ بالفعل.
إلّا أنَّ الحديثَ عن الإقتصاد لا يستوي، إن لم يُؤتَ على ذكر الشعار الشهير “دَعْهُ يعمل، دَعْهُ يمرُّ” (Laisser faire, laisser passer). وقد نَسَبَ بعضُ الإقتصاديين والمؤرِّخين هذا الشعار إلى الإقتصادي الفرنسي “جاك كلود ماري فنسنت دي غورناي” (Jacques Claude Marie Vincent de Gournay) (١٧١٢- ١٧٥٨)، الذي دعا إلى إزالة القيود المفروضة على تبادُل السلع والمنتوجات الصناعية في فرنسا. خُلاصةُ هذا المبدَإِ الإقتصادي تقومُ على ترك اقتصاد السوق يعملُ بدون تدخُّلِ الحكومة، رقابةً كانت أو عبر فرض تشريعاتٍ ضريبيةٍ تُنزلُ ضررًا بالإنتاج. باختصارٍ، قامت أفكارُ “آدم سميث” على اعتماد مبدَإِ حرّية السوق، في نقضٍ صريحٍ للمبدَإِ الداعي إلى تشجيع السياسة الحمائية.
ومع تشابُك العلاقات الإقتصادية، نتيجة إفرازات التقدُّم العلمي والمعلوماتي، من جرّاء الزيادة في تحاويل رؤوس الأموال وتعدُّد الشركات، المُتهافتة على زيادة الإنتاج، من خلال إطالة ساعات العمل وتشغيل الأولاد، اضطُرَّت الطبقةُ العاملةُ للنزول إلى الشوارع، مطالبةً بالأُجور العادلة وبتحسين ظروف العمل الآمن وبلَجمِ التُجار عن اللُّجوء إلى سياسة الإحتكار. وهذا ما فرضَ على الحكومات التدخُّلَ التشريعيَّ والضريبيَّ، إعادةً للتوازن بين العُمال وأرباب العمل، وُصولًا إلى الحماية من المُزاحمة الخارجية.
وبالرُّغم من أنَّ الولايات المُتحدةَ الأميركيةَ كانت، تاريخيًّا، سبَّاقةً في تبنّي مبدَإِ حريَّة السوق وعدم التدخُّل، إلّا أنَّ تطوُّرات الأوضاع الإقتصادية فرضت عليها التدخُّل، لكبح تجاوزات الشركات نُشدانًا للإستقرار الإجتماعي.
إنَّ سعيَ الإنسان إلى الثروة والسلطة أصيلٌ في النفس البشرية، نظرًا لما توفِّرُه السلطةُ من فُرَصٍ للإثراء، بقدر ما تُوفِّرُه الثروةُ من حظوظ الإرتقاء إلى السلطة، عبر المُصاهرات والروابط الإجتماعية بين السلطة والمال.
إلى ذلك، لم تغفلْ الدُوَلُ المُقتدِرَةُ، مُنذُ عقودٍ، عن فعالية السلاح الإقتصادي، التي أفرطت بإستعماله لأغراض الإخضاع والهيمنة، وإن أسفر عن تجويع الأطفال وحرمان المُعدمين من الدواء والإستشفاء.
ومع عودة الرئيس ترامب إلى الحكم، سارعَ إلى تدشين ولايته الثانية بمُفاجآتٍ صادمةٍ وقراراتٍ جذريَّةٍ، أحدثت انقلابًا على الستاتيكو الدولي القائم، وعلى القواسم، التي رست عليها العلاقاتُ الدوليةُ بُعيد الحرب العالمية الثانية.
لم تقتصر تلك المُفاجآت والقرارات على الشأن الأميركي في مُحيطه الجغرافي (كندا، قناة بنما وغرينلاند)، بل تُوِّجت بشنِّ حرب التعريفات الجمركية، التي لم تُوفِّر حليفًا أو خصمًا. هذه التوجُّهات بدت ظاهريًّا على أنَّها تُعيدُ التوازُنَ مع ما تفرضُه الدُوَل من ضرائب على الصادرات الأميركية، بقدر ما تستبطنُ من استهدافٍ لتوأمةِ الإقتصاد والسياسة، بما يُطلقُ يدَ السياسة الطُولى في قولبة الإقتصاد خدمةً للأهواء السياسية.
من نافل القول، إنَّ الإرتزاقَ ضرورةٌ أُولى لسدِّ حاجات الإنسان الوجودية. لذلك، لم تُوفِّر الجماعاتُ البشريةُ وسيلةً إلّا ولجأت إليها لتأمين قوت أمعائها الخاوية. فَلَكَمْ تصارعت القبائل البدائيةُ على الماء والكلأ، قبل أن تتفَّحَ شهيةُ الحواضر المجتمعية على التوسُّع، ما كلَّفَ الإنسانيةَ، وما زالَ يُكلِّفُها، بُرَكًا من الدموع والدماء، إشباعًا لجوعٍ مشروعٍ، أو إرواءً لغليل طامحٍ جامِحٍ!
وعليه، تبقى الأبصارُ شاخصة على ما ستُفضي إليه هذه الحرب الإقتصادية الشعواء، التي لن تتأخَّرَ طويلًا، ليس فقط على استقرار السوق وسلاسة سلاسل التوريد، بل على مصير العلاقات الدولية، المُتوجِّسة، مُنذ الأزل، من شعار “قطعُ الأعناق ولا قطعُ الأرزاق”!
- الدكتور فيكتور الزمتر هو كاتب وسفيرٌ لُبنانيٌّ مُتقاعدٌ.