لبنان: تَغييرُ الخطابِ السياسي قبلَ تَسليمِ السِلاح

الدكتور جورج صَدَقَه*

الهزيمةُ العسكرية لـ”حزب الله” أمام الجيش الإسرائيلي أدّت إلى انقلابٍ في الوضع الجيوسياسي في لبنان وفي منطقة الشرق الأوسط، وحملت  تغييرًا جذريًا في مواقف “حزب الله” سواء في قبوله الشروط الإسرائيلية المُذِلّة لوقفِ الحرب، أو في انكفائه عن واجهة الحياة السياسية بتكليفه الرئيس نبيه بري التفاوض باسمه، او قبوله بمبدَإِ تسليمِ السلاح جنوب الليطاني حيث راح الجيش اللبناني يتسلّمُ المواقع الواحد بعد الآخر. وحتى  مبدأ تسليم السلاح في كامل أرجاء الوطن لم يَعُد مرفوضًا بالمُطلَق كما كان سابقًا، بل وضعه الحزب تحت عنوان الاستراتيجية الدفاعية، حسب تصريحات أمينه العام الشيخ نعيم قاسم.

أمرٌ واحدٌ لم يَتَغَيَّر لدى “حزب الله” ومناصريه ألا وهو الخطاب السياسي، لا سيّما في وسائل الإعلام والتواصُل الاجتماعي المُرتَبِطة به، لا بل يشهدُ الخطابُ ارتفاعًا في النبرة وكأنّه للتعويضِ عن التراجُعِ الحاصِلِ على الأرض.

ففي مناسبة عيد الفطر في الأيام الماضية، وتعليقًا على الغارة الإسرائيلية على الضاحية،  تَميّزَ خطابُ الحزب كما تصريحات من مسؤولين فيه أو من مناصريه بسقفٍ عالٍ ونبرةٍ حادة تُوازي نبرةَ الحرب مع ما تحمله من رسائل تهديدٍ للداخل والخارج، ورسائل شدّ عصب للمناصرين.

ومن بعضِ ما وردَ في هذا الخطاب ما قاله النائب في “كتلة الوفاء للمقاومة” حسين الحاج حسن الذي دعا أهلَ المقاومة وبيئتها وشعبها إلى “الحفاظ على نقاطٍ أساسية: كلّما اشتدّت المحن يجبُ أن يتصلّبَ إيماننا ويقيننا وتزداد قناعتنا لأنَّ طريقنا هو الطريق الصحيح…”.

كذلك زميله في الكتلة النائب علي عمّار خلال زيارته موقع الاعتداء الإسرائيلي في الضاحية: “إنَّ اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا العدو هي لغة المقاومة والصمود… المقاومة لا تزال قائمة ومستمرّة”.

كما كلمة المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان: “إنَّ السلاحَ خطٌّ أحمر، واللعب بالنار يُهدّدُ مصيرَ لبنان”. وأضاف: “نريد دولة تدعم ناسها لا دولة تتعاون مع الخارج لخنقهم… لا دولة تدوس على رُكامِ شعبها وتصرُّ على تركهم بالعراء من أجل عين أميركا وأخواتها… نحن جماعة هيهات منّا الذلة ولا نصبر على المزيد من مشاريع الإذلال والإنهاك…”.

وردًّا على تصريح وزير الصناعة جو عيسى الخوري الذي اقترحَ أن تكون بيروت الكبرى منزوعةَ السلاح كخطوةٍ أوَّلية، علّق أحدُ الأتباع  الصحافي بيار أبي صعب:”خطابٌ انعزالي ساذجٌ واختزاليٌّ وغبيٌّ ومشبوه”.

إنها السردية التي يتبنّاها الخطاب العام لـ”حزب الله” وهي تُناقِضُ اتفاقَ وقفِ إطلاق النار وتطبيق القرار 1701 مع مُندَرَجاته الذي وافق عليه الحزب، وتتناقضُ مع خطاب القسم لرئيس الجمهورية العماد جوزيف عون الذي شارك الحزب في انتخابه، كما تتناقضُ مع بيان الحكومة التي يشارك فيها الحزب. إنه خطابٌ يُسهمُ في تأجيج التوتّر، ويُبقي البلد في أجواءِ الحرب، ويُوحي بأنَّ معركة الإسناد ما تزال مستمرّة بطريقةٍ أو بأخرى، ولو على حساب لبنان وشعبه وشعب المقاومة.

يُجمِعُ اللبنانيون منذ نشوء إسرائيل على أنَّها العدو رقم واحد، ووحشيتها ونواياها العدوانية والتوسُّعية ليست بحاجةٍ إلى أيِّ إثبات، لكنَّ هذا الخطاب في الواقع لا يَتَوَجَّهُ إلى إسرائيل. إنَّ هذا الخطاب الحربي التحريضي يتناقضُ مع الواقع السياسي والوطني. فكيف له أن يستمرَّ بالتهديدِ باللجوء إلى المقاومة في وقتٍ  يتعرّضُ لبنان يوميًا لاعتداءاتٍ إسرائيلية من دون أن تكونَ لديه القدرة على الرد؟ وكيفَ يطلب من سلطةٍ أن تحمي شعبها فيما هي سلطةٌ  مُتَحلّلة، وفيما قرار الدولة ما يزال مُصادَرًا، وفيما الدول الكبرى تُمارِسُ وصايةً مباشرة عليها؟

هذا الخطابُ بوضوحٍ يَتوَجّهُ بشكلٍ رئيس إلى اللاوعي الشعبي لبيئة المقاومة وذلك لأهدافٍ حزبيةٍ واضحة. غير أن هذا  الخطاب لهو أخطر من السلاح نفسه. فالسلاح قد لا يؤدّي الى حربٍ أنّى كانت كمّيته. لكن هذا الخطاب من شأنه أن يولّدَ حربًا ولو كانت كمّيته  بالحدّ الأدنى من السلاح الفردي. إنَّ هذا الخطاب من شأنه أن يُراكِمَ أجواءَ التوتّر والتصعيد وعدم الاستقرار. إنَّ خطاب التحريض والتخوين والكراهية المُستخدَم  يبدو كأنه دعوةٌ مفتوحة  لجمهوره للوقوف في وجهِ كلِّ الأطراف في الداخل بما فيهم الدولة من خلال تحميلهم مسؤولية الاعتداءات الإسرائيلية.

الخطورة في الأمر أنَّ الخطابَ هو في صلبِ آليةِ أيِّ نظامٍ سياسي. هو يحملُ الأُسُس التي يقوم عليها المجتمع. هو أساسٌ في بناء السلم الأهلي وإقرار سلطة القانون. وهو أساسٌ في تركيز الوحدة الوطنية وتعايُش المجموعات الوطنية. ولا يجب أن ننسى أنَّ الحربَ بدايتها كلمة، كما يقول علماء الفكر السياسي، فالمعارك تبدأ بالخطاب والتجييش والحثِّ على حملِ السلاح واتِّهامِ الآخر. إنَّ الخطابَ هو ألأداةُ الحربية الأولى قبل السلاح.

إنَّ الخطاب الحالي لـ”حزب الله” ومناصريه يعني رَفض النظام اللبناني بالمُطلَق، ورفض التعايُش مع المجموعات الأُخرى، ورفض مبدَإِ سيادة الدولة والقبول بسلطة الدستور والقوانين، وهو  في النهاية لا يخدم لا “حزب الله” ولا بيئته ولا الشعب اللبناني إذ أنه يؤسّسُ لمزيدٍ من الانهيارات والحروب المحلّية والخارجية  للسنوات المقبلة.

حانَ الوقتُ كي يُصارحُ “حزب الله” جمهوره بالمتغيّرات ويتعاطى السياسة بواقعية. حان الوقتُ لخطابٍ سياسي من نوعٍ آخر أعطى مثالًا عنه سامي الجميل في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية يقوم على “المصارحة والمصالحة”، وعلى النظر إلى حيث هي المصلحة العامة، مصلحة الشعب اللبناني بكل مكوّناته، يكفي هذا الشعب المسكين أنه ما زال منذ خمسين عامًا غارقًا في الحروب.

Exit mobile version