الدكتور داوود البلوشي*
تعود سلطنة عُمان إلى واجهة الاستهداف الإعلامي مجددًا بمقالاتٍ تفتقرُ إلى الدقّة والموضوعية، بدأتها أوّلًا في 7 آذار (مارس) مجلة “ناشيونال إنتِرِست” (National Interest) الأميركية، المدعومة من اللوبي الصهيوني “إيباك”، التي ادّعت بأنَّ “عُمان تدعم الحوثيين … ويجب محاسبتها”، وتبعها في 15 آذار (مارس) موقع مُنتدى الشرق الأوسط الصهيوني المعروف، الذي زعمَ بأنَّ “عُمان لا تزال الحلقة الأضعف في الحرب ضد الحوثيين”، وكان آخرها في 18 آذار (مارس) صحيفة “جيروزَلِم بوست” الإسرائيلية التي ادّعت بأنَّ “هناك دورًا خفيًّا لعُمان لتعزيز الحوثيين وتهديد أمن المنطقة والمصالح الأميركية”.
على الرغم من أن خبراء شؤون الشرق الأوسط اعتبروا هذه الحملة نوعًا من الضغط على مسقط للإنضمام إلى إتفاقات أبراهام التي جعلها الرئيس دونالد ترامب مع بنيامين نتنياهو عنوان المرحلة في المنطقة العربية، فإنَّ هذه المزاعم الواهية تُسيء لفهم طبيعة الدور العُماني الحيادي ولا تستندُ إلى أي منطقٍ سياسي أو تاريخي، ولا تنسجمُ مع طبيعة السياسة العُمانية التي ظلّت قائمة على الحياد والسلام واحترام سيادة الدول، والتي ظلت لعقود وما تزال مدرسةً في الحياد الإيجابي والوساطة لا في التحريض والانحياز.
إنَّ عُمان دولة ذات حضارة ضاربة في عمق التاريخ، وموقع استراتيجي جعل منها دائمًا معبرًا للتجارة وهمزة وصل بين الشعوب، لا ساحة صراعات. ومنذ تولّى السلطان الراحل قابوس بن سعيد الحكم، اتبعت السلطنة سياسةً خارجية ثابتة وواضحة للجميع تقومُ على الحياد والاحترام الكامل لسيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والعمل الدائم على رأب الصدع في المنطقة، وهو مبدأ ونهج تمَّ ترسيخهما، وتواصل القيادة الحالية بقيادة السلطان هيثم بن طارق السير عليه.
علاقة تاريخية راسخة مع الولايات المتحدة
ما يغفله أصحاب هذه الادعاءات أنَّ سلطنة عمان والولايات المتحدة تجمعهما واحدة من أقدم العلاقات الديبلوماسية في المنطقة، تمتد لأكثر من 180 عامًا، منذ توقيع أول اتفاقية صداقة وتجارة بين البلدين في العام 1833. ظلت هذه العلاقة قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ولم تكن يومًا علاقة قائمة على استغلال أو ممارسات تخريبية كما يحاول البعض تصويرها. عُمان حليف استراتيجي يُعتَمَدُ عليه، وظلَّ على الدوام طرفًا فاعلًا في استقرار المنطقة، وليس العكس.
وتأكيدًا على ما جاء سابقًا، والذي يبين أنَّ عُمان لا تمارس السياسة بـ”ازدواجية المعايير” كما حاول كتاب المقالات الثلاث تصويرها، بل تمارس الحياد البنّاء وكحليف استراتيجي يعتمد عليه، مكّنها من لعب أدوار الوساطة في أخطر الملفات الإقليمية والدولية. وليس أدلّ على ذلك من استضافة مسقط للمفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، في وقتٍ عزفت أغلب دول المنطقة عن هذا الدور. وهذا الدور لم يكن دفاعًا عن إيران كما يصوّر أحد المقالات الثلاث، بل من منطلق الحرص على نزع فتيل الصراعات خدمةً لأمن المنطقة واستقرارها.
موقف عُمان التاريخي من السلام مع مصر
كان لعُمان أيضًا دورٌ فاصل في لحظات تاريخية فارقة، أبرزها عندما وقفت السلطنة موقفًا مبدئيًا مستقلًا خلال أزمة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في “كامب ديفيد” أواخر السبعينيات. حينها، قاطعت معظم الدول العربية مصر، أما عُمان فقد رفضت القطيعة انطلاقًا من قناعة راسخة بأهمية ترسيخِ مبدَإِ السلام والحوار، وإدراكًا منها أنَّ عزلَ مصر لن يخدمَ القضايا العربية، بل سيزيد من تمزيق الصف العربي. لقد أثبتت الأيام صواب الرؤية العُمانية حينها، وهو النهج نفسه الذي تسير عليه السلطنة اليوم في كل الملفات.
الملف اليمني… وساطة لا انحياز
في ما يخصُّ اليمن، ظلت السلطنة على مسافة واحدة من جميع الأطراف، مدفوعةً بجغرافيتها والعلاقة التاريخة والروابط الاجتماعية والقبلية وحدودها الطويلة مع اليمن، وحرصها على أمن واستقرار هذا البلد الجار. وقد رفضت عُمان الانخراط في الحرب منذ بدايتها إيمانًا منها أنَّ الحرب لن تجرَّ إلّا المزيد من الدمار. سعت دائمًا إلى تقريب وجهات النظر بين الفرقاء اليمنيين، وفتحت أراضيها لمساعي الحوار، استجابةً لطلب المجتمع الدولي بما فيه الولايات المتحدة، لإيجادِ مخرجٍ للأزمة المُتفاقمة، وليس كما تُروَّجُ المقالات الثلاث بأنها ممرٌّ للتهريب أو منصّة دعمٍ لفصيلٍ ضد آخر.
أما اللقاءات التي جمعت ممثلين عن الحوثيين في مسقط فكانت بدعوةٍ دولية، وبعلمِ ومعرفة ورعاية أطراف كبرى من بينها واشنطن لفتح قنوات اتصال مع الحوثيين، وكانت تهدف إلى إيجادِ مخرجٍ وحلولٍ لوقف التصعيد في البحر الأحمر وتأمين الملاحة الدولية ووقف استهداف السفن التجارية، لا كما تحاول المقالات الثلاث تصويره من دعم أو تواطؤ.
موقف إنساني ثابت من القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي
أما بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فموقف عُمان كان وما زال واضحًا لا لبس فيه حيث تدعم السلطنة حل الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة، وترفض سياسات الاحتلال والتنكيل التي تمارسها إسرائيل ضد المدنيين العزَّل في غزة والضفة الغربية. وقد فتحت السلطنة سابقًا قناةً تجارية مع إسرائيل في إطار السعي إلى دفع عملية السلام، لكنها لم تتردد في إغلاق هذا المكتب حين تمادت إسرائيل في عدوانها على الفلسطينيين.
اليوم، ومع اتساع رقعة الجرائم الإسرائيلية بحقِّ الأبرياء في غزة، تقف سلطنة عُمان مع صوت الحق والإنسانية، داعيةً إلى وقف الحرب والمجازر، والعودة إلى طاولة الحوار والتفاوض. لقد أصبح واضحًا للعالم، وللشباب قبل الشيوخ، أنَّ لا أحدَ يُريدُ استمرار القتل والدمار باستخدام الأسلحة الفتاكة تحت ذرائع واهية كالقضاء على “حماس”. هل يُعقَل أن يكونَ استهدافُ النساء والأطفال وتدمير البيوت والبنى التحتية مُبرّرًا بحجة “محاربة الإرهاب”؟ العالم كله، ومنه الشارع الأميركي كما الإسرائيلي ذاته، بدأ يدرك حجم الكارثة والمأساة التي تُرتَكَبُ بحقِّ المدنيين الأبرياء. حتى المحاكم الدولية أكدت وقوع جرائم إبادة جماعية، والملايين حول العالم يطالبون بوقف هذا العبث فورًا، والعودة إلى صوت العقل والحوار، بدلًا من المضي في سياسات التهجير والحصار وتحويل المنطقة إلى مجرد مشروع استثمار سياحي على دماء البشر.
من ناحية أهرى، إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تضغطان لحمل السلطنة على الإنضمام إلى اتفاقات أبراهام فلدى عُمان شرط أساسي، وهو شرط كل العرب: إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، كما جاء في مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في بيروت في العام 2002.
لم تكن عُمان يومًا طرفًا في إشعال الحروب أو دعم الإرهاب كما يدّعي البعض، بل ظلت صوت الحكمة والعقل في عالمٍ بات ينقادُ نحو التطرُّف والمزايدات السياسية. ومهما حاولت بعض الأقلام المدفوعة تشويه الصورة، ستبقى عُمان على موقفها الإنساني والأخلاقي، تُنادي بالسلام والعدل والحوار، وترفض أن تُزَجَّ في أتون صراعات لا تخدم إلّا أجندات متطرِّفة، على حساب أمن واستقرار شعوب المنطقة.
- الدكتور داوود البلوشي هو محام ومستشار قانوني عُماني. حاصل على الدكتوراه في القانون من جامعةالسوربون. وهو أستاذ محاضر في جامعة السلطان قابوس في مسقط.