محمّد قوّاص*
لم تتردّد هيلاري كلينتون في التعبير عن شماتةٍ بفضيحةِ تسرُّبِ محادثاتٍ لأركان إدارة دونالد ترامب تتعلّقُ بخططِ العملية العسكرية في اليمن. كانت فضيحةٌ انفجرت في وجهها في العام 2015 عندما اكتُشِفَ أنها تستخدمُ بريدها الإلكتروني الخاص في مراسلاتها الرسمية بدل استخدام بريد وزارة الخارجية التي كانت ترأسها آنذاك. استغلَّ ترامب حينها أمر هذا “التسيُّب” وهذه “الخفّة” في التعامل مع أسرار الدولة أثناء الحملة الانتخابية ضدها في العام 2016، وهو أمرٌ اعتُبِرَ واحدًا من عوامل عطّلت حظوظها في الفوز ذلك العام.
جرى الأمرُ نفسه في بريطانيا في العام 2022، حين اضطرت وزيرة الداخلية في حكومة بوريس جونسون المحافظة، سويلا بريفرمان، إلى الاستقالة بسبب قيامها بإرسالِ مُستندٍ رسمي من بريدها الإلكتروني الشخصي. اعتُبِرَ الإثمُ انتهاكًا لقواعد حكومية، وأقرَّت بريفرمان أنها أخطأت وتتحمّل مسؤولية هذه “الخطيئة”. عادت الوزيرة البريطانية بعد أيام إلى تشكيلة حكومة جديدة، فيما غادرت كلينتون السياسة ومناصبها. ومع ذلك فشتّان بين زلّات ارتكبها وزراء في واشنطن ولندن، وفضيحة، باتت تُعرَفُ في واشنطن باسم “سيغنال غايت” (Signal Gate)، تتجاوزُ كواليس الإدارة لتطال حركة “عسكر أميركا” في العالم.
من سوءِ حظِّ ترامب وإدارته أنَّ مَن كشفَ الفضيحة هو رئيس تحرير مجلة “أتلانتيك”، جيفري غولدبيرغ. لا بل إنَّ الفضيحة أتته كاشفةً عن مفاتنها من دونِ أيِّ جهد. تمّت إضافة اسمه خطأً إلى مجموعةٍ على تطبيق “سيغنال” للتراسُل يتحادث داخلها كبار أركان إدارة ترامب، من نائب الرئيس إلى رؤساء وكالات الأمن، مرورًا بوزير الدفاع ومستشار الأمن القومي وموظفي البيت الأبيض. وحتى عندما اطّلعَ الصحافي المحظوظ على تفاصيل تَداوَلَتها الدردشات، لم يُصدّقها، وظلَّ يعتقدُ أنَّ في الأمرِ فخًّا وخدعة، حتى تطابقت المعلومات مع ساعة بدء الهجمات ضد الحوثيين في اليمن وتطابق التنفيد مع ما أفصح عنه خصوصًا وزير الدفاع بيت هيغسيث.
لا يُحبُّ ترامب غولدبيرغ. كان الأخير قريبًا من الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، إلى درجةٍ منحه حصريًا سلسلة مقابلات حوّلها غولدبيرغ إلى مقالته الشهيرة “عقيدة أوباما” نشرت في عدد “أتلانتيك” في نيسان (أبريل) 2016. ولا عجب أن لا يحظى كاتب “عقيدة” أوباما بودّ الرئيس الأميركي ال47. ولا عجب أن لا ينتهز غولدبيرغ فرصة قدرية لتفجير فضيحةٍ بوجه ترامب أين منها فضيحة هيلاري قبل 9 سنوات.
يُظهِرُ الحدث خفّة أركان الإدارة في دولة كبرى باللجوء إلى وسيلةٍ تجارية للتراسُل بشأنِ حربٍ تخوضها أميركا. وبغضِّ النظر عن إعلان ترامب أنه “لا يعلم”، فإنَّ لا أحدَ من رجال إدارته، لا سيما أولئك في الأمن والدفاع، وجدَ حرجًا من اللجوء إلى أدوات اتصال تستخدمها العامة، أو اعترض على عقد محادثات “رقمية” لا تدخل في توثيقات البنتاغون والبيت الأبيض ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وغيرها. وبدا أنَّ أميركا تشنّ الحروب، وتُدبّرُ سياساتها الخارجية، وربما تتآمر للايقاعِ بالخصوم في العالم، أو إطلاق تحوّلاتها الاستراتيجية الكبرى من خلال هذا النوع من منابر التفكير والتشاور.
لا تبدو الحادثة نافرة غريبة عن “ستايل” الإدارة. بدا أنها تقوم على مبدَإِ “الفرجة” المستمرّة. يحتل الرئيس الإعلام الأميركي. دائم الظهور. في المكتب البيضاوي. قبل الصعود إلى مروحيته، في استقبال ضيف. أو حتى محشورًا بالقرب من قمرة القيادة في الطائرة الرئاسية. وسواء في إعلانه عن تهجير سكان غزّة، أو إعلانه التراجع عن ذلك مثلًا، فإنَّ لبَّ الحدث هو الظهور واحتلال حيّز “الفرجة” العام.
ينسحب أمر هذا الـ”ستايل” على فريق ترامب. دائمو الثرثرة بصبيانية لافتة. السِّمة الأساسية لأركان الإدارة: التمتُّع بمواهب خطابة، وسلاسة في قذف الكلام، والتذكير الدائم والسوقي بمقولات الرئيس. اختار ترامب مذيعًا تلفزيونيًا ليقود وزارة الدفاع أفشى أسرار عملية اليمن مُدردشًا، ذلك أنَّ المطلوب أن يكون من يقود جيوش الدولة إعلاميًا محترفًا، يمتلك خبرةً في التعامل مع الكاميرا وتقنيات الكلام. فحتى مايك والتز، الذي اعترف بمسؤوليته عن هذا العبث، وهو مستشار الأمن القومي، وهو المنصب الذي طالما عُرِفَ عن صاحبه الاتزان والعمق وقلّة الكلام، يحتلُّ الشاشات مُستَوحيًا من دردشات “سيغنال” حجج أميركا في الدفاع عن أمنها القومي وسياساتها في العالم.
أعلمتنا الفضيحة أنَّ ترامب يحكم أميركا وحده. فحتى نائبه الذي كشفت الدردشات أنه متحفّظٌ على شنّ عملية في اليمن تخدم أوروبا التي يكرهها، لم يَكُن يعلم بالعملية. أعلمتنا أيضًا أنَّ للعملية أثمانًا سيكون على مصر وأوروبا أن تدفع أثمانها. أعلمتنا أيضًا وأيضًا أنه قد تكون “سيغنال” ربما وراء هندسة مشادة البيت الأبيض الشهيرة، بحيث توَلّت الدردشات إعداد سيناريو محاصرة الرئيس الأوكراني وعرض “فرجة” مُمتِعة أمام الجمهور الكبير.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).