إعادةُ إعمارِ لبنان مُجَمَّدة حتى إشعارٍ آخر!

لا يبدو أنَّ هناك أيَّ حلٍّ قريب في لبنان رُغم كل الجهود التي يبذلها الرئيس جوزيف عون وحكومته إلّا إذا حدثت معجزة ووافَقَ “حزب الله” على تسليم سلاحه والتحوُّل إلى حزبٍ سياسي كباقي الأحزاب في لبنان.

“حزب الله”: إذا لم يُسلّم سلاحه فلن تكون هناك إعادة بناء في الجنوب أو الضاحية أو البقاع.

النبطية – كانيكا غوبتا*

بعدَ أكثرِ من عامٍ على الغارات الجوية المُتبادَلة وأشهرٍ عدة من القتال الأكثر ضراوة، انتهت الحرب المدمّرة بين “حزب الله” وإسرائيل بوقف إطلاق النار في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2024. بالإضافة إلى مقتل أكثر من 4,000 شخص على الأقل وآلاف الجرحى خلال الصراع، تسبّب القتال في أضرارٍ تُقدَّرُ بنحو 6.8 مليارات دولار في المساكن والبنية التحتية. دُمّر أو تضرّر ما يقرب من 120 ألف منزل، ونزح ما يقرب من 900 ألف شخص في ذروةِ القتال في تشرين الثاني (نوفمبر). تواجه الحكومة اللبنانية المُشَكَّلة حديثًا الآن تحدّيًا فوريًا: إعادة توطين النازحين مع ضمانِ فعالية وشفافية عملية إعادة الإعمار وخلوِّها من الفساد.

زهير حسين جواد، مواطن لبناني-أميركي مزدوج الجنسية يبلغ من العمر 50 عامًا، غادر الولايات المتحدة في العام 2005 ليستقرَّ في النبطية، جنوب لبنان. بعد عام، عايش حرب 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، والتي كانت عنيفة، لكنها أقصر وأضيق نطاقًا. يقول إنَّ الدمار هذه المرة “هائلٌ جدًا لا يُضاهى”. ويتذكّر قائلًا: “لم يكن الأمر كذلك في العام 2006. في العام 2024، للأسف، تصاعدت الأمور إلى نقطة اللاعودة”.

بعدما كاد جواد أن يفقد منزله جرّاء الغارات الجوية الإسرائيلية خلال الصراع الأخير، انتقل مع عائلته إلى بيروت في أواخر أيلول (سبتمبر). ومثل كثيرين من اللبنانيين، أصبحت مُدَّخرات جواد التي جناها طوال العمر حبيسة النظام المصرفي المتعثّر في البلاد. وقد استخدم ما تبقّى لديه للعيش مع عائلته، منتظرًا انتهاء الحرب.

يقول جواد: “عُدنا يوم إعلان الهدنة، لكن منزلنا كان في حالة خراب”. ورُغم إصلاح المسكن، لا تزال أجزاءٌ منه مُلصقة بالبلاستيك والكرتون. وقد دُمِّر مبنى آخر مقابل في الشارع بالكامل.

بعد أكثر من ثلاثة أشهر على وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الذي أنهى القتال، لا تزال أجزاءٌ كبيرة من جنوب لبنان تحت الأنقاض. وبينما تعهّدَ “حزب الله” بتغطية تكاليف إعادة الإعمار، إلّا أنَّ عمليات إعادة الإعمار التي جرت كانت مُتقطّعة، ولم تكن عملية الحصول على التعويضات سَلِسة على الإطلاق.

عند سؤاله عمّا إذا كان تلقّى أيَّ مساعدة مالية لإصلاح منزله وأثاثه المفقود، قال جواد إنَّ مجموعةً من المسؤولين حضروا إلى منزله لمعاينة الأضرار وتدوين المعلومات اللازمة، من دون أن يُحَدِّدَ ما إذا كانوا من “حزب الله” أم من الحكومة. وأضاف: “سنرى إلى أين سيصل بنا ذلك”.

ذكر تقريرٌ حديث لصحيفة “فايننشال تايمز” أنَّ لجنة تقييم الأضرار التابعة لمؤسسة “جهاد البناء”، الذراع الإنشائية ل”حزب الله”، قد عاينت بالفعل أكثر من 270 ألف منزل. بمجرّد اكتمال تقييم الأضرار التي لحقت بالمنزل، يصبح سكانه مؤهَّلين للحصول على شيكات تعويضات ومدفوعات نقدية، والتي يتم توزيعها من خلال الفروع المحلية لمؤسسة “القرض الحسن”، الذراع المالية ل”حزب الله”. في كانون الأول (ديسمبر)، زعم الأمين العام ل”حزب الله”، الشيخ نعيم قاسم، أنَّ الحزبَ قدّمَ بالفعل أكثر من 50 مليون دولار كمساعدات تُغطّي 172 ألف أسرة نازحة، مع تخصيص ما مجموعه 77 مليون دولار لـ 233,500 أسرة مؤهَّلة. ولكن مع تقدير البنك الدولي لتكلفة إعادة الإعمار والتعافي في لبنان ب11 مليار دولار من بينها حوالي 6.4 مليارات دولار لإعادة إعمار قطاع الإسكان وحده، فإنَّ هذا المبلغ لا يُذكر.

يقول مختار حسن جابر، عضو المجلس البلدي في النبطية الذي يساعد السكان على الحصول على الوثائق اللازمة للمطالبة بتعويضات من “حزب الله”، إنَّ الحكومة لم تُقدّم سوى القليل من المساعدة. يقول: “تُوفّرُ المنظّمات غير الحكومية آلاتٍ لإزالة الأنقاض. إنَّ أفرادها يعملون في كلِّ حيٍّ لإزالة الأنقاض، حتى يتمكنوا من البدء بإعادة الإعمار لاحقًا”.

يتفهّم عماد سلامة، الأستاذ المشارك ورئيس قسم الدراسات السياسية والدولية في الجامعة اللبنانية الأميركية، الشكوك التي أعرب عنها جابر وآخرون تجاه الحكومة اللبنانية. لكنه يعتقد أنَّ هذه الادِّعاءات غالبًا ما يُبالَغُ فيها لتبرير السيطرة السياسية الطائفية على السكان المحليين. ويوضِّحُ قائلًا: “بعد حرب 2006، ملأ “حزب الله” الفراغ بقيادة جهود إعادة الإعمار، مُعَزِّزًا نفوذه. هذه المرة، مع محدودية الدعم الإيراني، ستكون لدى “حزب الله” موارد أقل لتجاوز الدولة”.

يعود تراجع الدعم المالي من طهران للحزب إلى مجموعةٍ من العوامل، منها الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها إيران، بالإضافة إلى الخسائر الكبيرة التي تكبّدتها في ما يتعلق باستثماراتها العسكرية التي استمرت عقودًا في لبنان وسوريا. كما إنَّ ضعفَ موقف “حزب الله”، والصعوبة التي ستواجهها إيران في إعادة تسليحه الآن بعد انقطاعِ الطريق البري عبر سوريا، قد يُقلّلان من قيمته الاستراتيجية لطهران.

سيُجبِرُ هذا الوضع “حزب الله” على الاعتماد بشكلٍ أكبر على الدولة اللبنانية في مساعدة إعادة الإعمار في الجنوب، أحد معاقله الرئيسة. ويضيف سلامة أنَّ هذا بدوره سيزيد من التنافس على الأموال، في وقتٍ لا يزال لبنان يعاني من أزمةٍ اقتصادية خانقة دخلت عامها السادس. ونتيجةً لذلك، تواجه الحكومة تحديات جسيمة في إعادة الإعمار، التي توقفت إلى حد كبير بسبب نقص التمويل.

في العام 2006، سارعت الجهات المانحة الدولية إلى مساعدة لبنان، لكن هذا لم يحدث هذه المرة. ووفقًا لداوود دَاوود، الزميل البارز في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات ومقرها واشنطن، فإنَّ تردّدَ المجتمع الدولي ينبعُ من مخاوف عدة. أولها، وخصوصًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هو وجود “حزب الله”، الذي صّنفته كلٌّ من واشنطن وبروكسل منظمة إرهابية.

ومن الأسباب الأخرى الفساد الراسخ والمستشري في لبنان، والذي يتغلغل في الطبقة السياسية والاقتصاد والقضاء. يوضح داوود: “يُعدّ لبنان من أكثر دول العالم فسادًا. وقد جرت مناقشات مع صندوق النقد الدولي، وربما دول أوروبية، بشأن حزمة مساعدات، لكن هذه الجهات تُطالب لبنان بمعالجة الفساد قبل تقديم الأموال”. ويضيف: ” القلق هو أن تؤدي المساعدات إلى استمرار الدورة الفاسدة نفسها”.

في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، تعهدت الدول المانحة بتقديم أكثر من 800 مليون دولار كمساعداتٍ إنسانية للبنان. ومع ذلك، وحتى تشرين الثاني (نوفمبر)، لم يُصرَف سوى 14% من هذه الأموال، وذلك عبر وكالات الأمم المتحدة، وليس من خلال الحكومة اللبنانية، وفقًا لتقريرٍ محلي.

يوضح سلامة، من الجامعة اللبنانية الأميركية، أنَّ استعداد المانحين سيعتمد على قدرة لبنان على تقديم خارطة طريق موثوقة لإصلاحات الحوكمة والاستقرار الأمني. ويشمل ذلك ضمان إشراف مؤسسات الدولة، وليس “حزب الله”، على إعادة الإعمار، وهو ما يعتقد داوود أنه يصبُّ في مصلحة “حزب الله” أيضًا.

“إنه بحاجة إلى مساعدات إعادة إعمار”، يوضح، في إشارة إلى “حزب الله”، “لأنه تكبّدَ خسائر فادحة”. لكن مع استمرار العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، والتي قد تُشدّدها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم يعد هناك أي بديل للتمويل الدولي.

وأضاف داوود: “صرّحَ قاسم أخيرًا في خطابٍ له أنَّ من مسؤولية الحكومة اللبنانية طلب المساعدة والدعوة إلى عقد مؤتمرات وتأمين التمويل”، ما يعني أنّ كلًا من “حزب الله” والحكومة اللبنانية يريدان الآن مرور المساعدات الدولية عبر القنوات الرسمية للدولة. وهذا من شأنه أن يسهل إعادة إعمار المناطق ذات الأغلبية الشيعية ويخفف الضغط عن “حزب الله” نفسه.

بعد سنواتٍ من الشلل السياسي بسبب التنافس الطائفي، حازت الحكومة اللبنانية الجديدة، بقيادة رئيس الوزراء القاضي نوّاف سلام، تصويت الثقة في البرلمان في أواخر شباط (فبراير)، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى أنَّ “حزب الله” لم يَعُد في وضعٍ يسمحُ له بعرقلتها. يواجه سلام وفريقه الآن تحديات ملحة، بما في ذلك الإصلاحات الاقتصادية وإعادة الإعمار بعد الحرب، بالإضافة إلى ضمان صمود وقف إطلاق النار مع إسرائيل.

نور الحمود، البالغة من العمر 30 عامًا، من أصل دمشقي وتعيش الآن في النبطية، فرّت عائدة إلى سوريا أثناء القتال. ومثل جواد، عادت إلى النبطية من دمشق بعد وقف إطلاق النار بفترة وجيزة لتجد شقتها في حالة خراب وجميع ممتلكاتها تقريبًا مدمَّرة. تعيش الآن في شقة مستأجرة في بيروت، حيث تُعيلُ أسرتها المكوَّنة من ستة أفراد بدخلٍ شهري قدره ألف دولار. وبينما تُخطط للبقاء في لبنان ريثما ترى كيف ستسير عملية الانتقال السياسي في سوريا بعد الأسد، فإنَّ مستقبلَ النبطية يُثير الكثير من الشكوك. وتُضيف: “نحن خائفون. هناك وقفٌ لإطلاق النار حاليًا، لكننا ما زلنا خائفين”.

يقول سلامة إنَّ وقف إطلاق النار لا يزال هشًا، ومن غير المرجح أن يستقرَّ في المدى القريب. لم يُبدِ “حزب الله” أيَّ استعدادٍ لنزع سلاحه أو الانسحاب كُلّيًا من الحدود، وهما شرطان من شروط وقف إطلاق النار. كما إنه من غير المرجح أن ينأى بنفسه عن إيران، ما يعني أنَّ التوترات ستظل مرتفعة.

مع ذلك، لا يتوقع داوود تصعيدًا خطيرًا في أيِّ وقتٍ قريب. ويوضح قائلًا: “لإسرائيل مشاكلها الخاصة مع سوريا وغزة. لا أعتقد أنَّ إدارة ترامب تريد استئناف الأعمال العدائية الكاملة في لبنان. كما لا أعتقد أنَّ الجمهور الإسرائيلي يريد ذلك”. ويضيف: “على الرُغم من المخاوف بشأن شروط وقف إطلاق النار والمخاوف الأمنية المستمرة، فإنَّ الكثيرين من الإسرائيليين يُحذّرون من المزيد من الصراع، خصوصًا مع وجود رئيس الوزراء [بنيامين] نتنياهو على رأس السلطة”.

مع ذلك، ووفقًا لسلامة، حتى لو لم يندلع المزيد من القتال، فإنَّ إعادة الإعمار على نطاقٍ واسع لا تزال غير مؤكّدة في ظل الأزمة الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي في لبنان.

وعلى الرُغم من أنَّ إعادة الإعمار يجب أن تكون على رأس أولويات الحكومة الجديدة، إلّا أنَّ داوود يؤكد أنَّ هذا سيعتمد بشكلٍ كبير على التمويل الخارجي الذي لا يزال متوقفًا حتى الآن. في هذه الأثناء، بينما يُكافح جواد لإعادة بناء حياته، يُساوره القلق بشأن تأثير هذا الغموض على أطفاله، وهو قلقٌ يُرجّح أن يستمر.

يقول: “إنه لأمرٌ مُفجع. سيحتاج هذا البلد إلى 15 عامًا على الأقل ليتعافى، هذا إذا كان هناك حلٌّ سياسي”.

ولا يبدو أنَّ هناك أيَّ حلٍّ قريب إلّا إذا حدثت معجزة ووافَقَ “حزب الله” على تسليم سلاحه والتحوُّل إلى حزبٍ سياسي كباقي الأحزاب في لبنان.

Exit mobile version