هل يَخدُم الحيادُ الصارِم سويسرا؟

قُدِّمت الشهادةُ التالية إلى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الولايات السويسري لجلسة استماع في 20 كانون الثاني (يناير) 2025، بشأن مبادرة الحياد السويسرية. وقد خضعت لتعديلات طفيفة لكي تكون صالحة للنشر.

كونستانس ستيلزنمولر*

أعضاء مجلس الولايات المحترمين،

الأساتذة المحترمين،

سيداتي وسادتي،

إسمي كونستانس ستيلزنمولر، وأنا مديرة مركز الولايات المتحدة وأوروبا في مؤسسة بروكينغز، وهي مؤسسة بحثية تأسّست في واشنطن في العام 1916؛ كما يُشَرّفني أن أشغلَ كرسي فريتز شتيرن للشؤون الألمانية فيها. ولكن بما أنني لا أريدُ أن أُثقِلَ عليكم بمعرفتي باللغة الفرنسية التي تعلّمتها في المدرسة الثانوية، فسأستمرُّ في التحدث باللغة الألمانية. أنتم مدعوون، بالطبع، لطرح أسئلتكم باللغة الفرنسية بعد كلمتي.

يُشرّفني جدًا أنكم دعوتموني هنا اليوم للإدلاء بشهادتي حول موضوع مبادرة الحياد. أنا مُدرِكة تمامًا -لا سيما وأن لديّ أقارب في زوريخ وجنيف- أنَّ على الألماني تَوَخّي الحذر الشديد عند تقديم المشورة للسويسريين في شؤون سويسرا. ولكن نظرًا لخبرةِ الزملاء السويسريين الأربعة في هذه الندوة، أفترضُ أنكم ترغبون في سماعِ رأيي حول الوضع الجيوستراتيجي العام، وخصوصًا الولايات المتحدة.

في الدقائق العشر المُخَصَّصة لي، سأُقدِّمُ أطروحات موجزة حول أربع قضايا: السياسة الأمنية، والجغرافيا الإقتصادية، والمرونة الديموقراطية، وأخيرًا، العواقب على أوروبا وسويسرا. ويسعدني التعمُّق أكثر في فترة المناقشة.

  1. 1. السياسة الأمنية

لم يتحقَّق الحلمُ الأوروبي باقتصادِ سوقٍ عالمية وديموقراطية شمولية، أو على الأقل تعدُّدية أقطابٍ في توازُنٍ مستقر. بل ما نراه هو: تنافُسًا نظاميًا وتشكيلَ تكتّلات، وتآكلَ الحدود بين الحرب والسلام، وتفكُّكَ النظام العالمي القائم على القواعد والمعايير والمؤسّسات المرتبطة به، وخطرَ هيمنةِ مبدَإِ القوة على الحقِّ عالميًا بشكلٍ متزايد. لقد كان الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا بمثابة تذكيرٍ مأساوي ومؤلم بهذا الواقع الجديد لما يقرب من ثلاث سنوات: مئات الآلاف من القتلى والجرحى، وملايين اللاجئين، وتدمير عشوائي، وأضرار في الممتلكات تصل إلى المليارات – ومُعتدٍ وحشي لن يتفاوضَ إلّا على حساب الإبادة الكاملة للسيادة الأوكرانية.

ويشنُّ المُعتدي نفسه حربًا هجينة تزدادُ وحشيةً في أوروبا بهدفِ تفريقِ الأوروبيين وشلِّ حركتهم السياسية. لا يستهدفُ فلاديمير بوتين أوكرانيا فحسب، بل يُحاولُ أيضًا استعادةَ دائرة نفوذه القديمة في أوروبا الشرقية – وربما أبعد من ذلك. كما إنَّ أجندة الهيمنة العالمية للصين ركّزت دائمًا على المشتريات الاستراتيجية للبنية التحتية المادية والرقمية في أوروبا. بالكاد يوجد محورٌ أو عقدة في الاقتصاد الأوروبي بدونِ مُكوّنٍ صيني.

نعلم أنَّ تفكيرَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن السياسة الأمنية مُتجذّرٌ في مفهوم القرن التاسع عشر للعبة الكبرى للهيمنة بين القوى الكبرى. وإدراكًا منه للدمار الذي أحدثته الحروب في العراق وأفغانستان في الوعي الأميركي، فإنه يريدُ إنهاءَ الحرب في أوكرانيا، وبالتالي إنهاء الدعم الأميركي الباهظ الثمن في أقرب وقتٍ مُمكن. إنه لا يُهدّدُ (حاليًا) بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنه يدعو إلى إنفاقٍ دفاعي أوروبي بنسبة 5%.

ولكن الآن، تُفتَحُ فجأةً لعبةٌ كبرى جديدة تمامًا في نصف الكرة الأرضية الأميركي وفي القطب الشمالي: يُصرُّ الرئيس الأميركي على أنَّ كندا وبنما وغرينلاند يجب أن تُضَمَّ إلى الولايات المتحدة. قيل إنَّ هذا الإعلان هو مجرّدُ تكتيكٍ ترهيبي لفتح الطريق أمام المفاوضات؛ يجب أن يُؤخذ ترامب على محمل الجد، ولكن ليس حرفيًا. إني غير متأكدة تمامًا. حتى لو كانت هذه مجرد بداية حقبة جديدة من الاستعمار التجاري، فإنها تُقوّضُ بالفعل النظام الأمني ​​الأوروبي ومبدأ حرمة الحدود، وتُجرِّدُ الغرب من شرعيته إزاء غزو روسيا لأوكرانيا.

  1. الجغرافيا الاقتصادية

هذا العصرُ الجديد من المنافسة النظامية في سياقِ الترابُط العالمي المُتَغيِّر ولكن المُتعمّق باستمرار يخلقُ أشكالًا جديدة من الحرب الاقتصادية. ونحنُ مشاركون في هذا: فرضت أوروبا، إلى جانب الولايات المتحدة، عقوباتٍ ذات أبعاد تاريخية على روسيا، بل وجمّدت احتياطيات البنك المركزي الروسي.

مع ذلك، علينا أن نعترفَ بأنَّ الغربَ يتّخذُ موقفًا دفاعيًا هنا، وخصوصًاً ضد الصين؛ فاقتصاداتنا الأوروبية تحديدًا تجدُ صعوبةً بالغة في مواجهة هذا الوضع. (ألمانيا مثالٌ تحذيري).

إنَّ التركيزَ المتزايد للسلطة على الفضاء الإلكتروني، والبنية التحتية الرقمية، ومنصّات الاتصالات العالمية (بما في ذلك في الفضاء الخارجي)، والعملات الرقمية –ومن الصحيح تمامًا وصف ذلك بالأوليغارشية، كما فعل الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في خطابه الوداعي– يُمثل تهديدًا جديدًا كليًا للمؤسّسات الوطنية وفوق الوطنية للحوكمة الاقتصادية. وهنا أيضًا، يحدث تآكل سريع للحدود.

لطالما عُرِفَ الرئيس الأميركي ال47 بتشدّده بالنسبة إلى الحمائية التجارية. لكنَّ ترامب يُعلن الآن أنه سيستخدم الإكراه الاقتصادي على نطاقٍ واسع: ليس فقط ضد المنافسين، بل أيضًا ضد الحلفاء مثلنا نحن الأوروبيين. ويبدو مُقتنعًا بأنه قادرٌ على استخدام الإكراه الاقتصادي -أو مجرّد التهديد به- لإعادة تشكيل العلاقات التجارية الثنائية بالكامل أو لتحقيق نتائج سياسية (مثل الحدّ من الهجرة). لن يكونَ ترامب قادرًا على عَكسِ اتجاه العولمة، لكنه سيفعل كل ما في وسعه لتحويل تكاليفها إلى الآخرين.

  1. المرونة الديموقراطية

في عصرٍ يَشهدُ انحلالَ الحدود، وفقدانَ السيطرة، والاضطرابات المستمرّة، يجب أن تُصبحَ الديموقراطيات أكثر مرونةً في جميع المجالات لتحافظ على قدرتها على الحَوكَمة والعمل. وستكون هذه إحدى أهم مهام التحوُّل والاستثمار في المستقبل. لكنني أودُّ التركيز هنا على جانبٍ جديدٍ ومُحَدَّد: إنَّ الهجمات على الديموقراطيات الغربية اليوم تستهدفُ أيضًا بشكلٍ خاص دستورنا الداخلي -نظامنا الديموقراطي- نفسه.

فصلُ السلطات، والتعدُّدية السياسية، وسيادة القانون، وحماية الحريات المدنية وحقوق الإنسان: كلها تُشكّلُ إرثَ عصر التنوير، وفي أوروبا، هناك درسُ الحربَين العالميتين. وهي الآن في خطر: من خلال الدعاية والتضليل والتخريب من الخارج، ولكن أيضًا من الأحزاب المحلّية المناهضة للنظام. وكثيرًا ما يعمل الاثنان جنبًا إلى جنب. ودور روسيا في هذا السياق معروف جيدًا؛ لكن الجديد هو أنَّ الهجمات تأتي الآن أيضًا من الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.

من المعروف أنَّ ترامب يُقدّر القادة الأقوياء والمستبدّين، ويلعبُ المحافظون الوطنيون الرجعيون دورًا مهمًّا بين مؤيديه من حركة “لنجعل أميركا عظيمة مجددًا”. إلّا أنَّ الجديد جذريًا هو التدخّل المباشر في السياسة الأوروبية: هجوم إيلون ماسك اللاذع على رئيس الوزراء البريطاني، ودعمه لزعيم حزب يميني متطرّف جُزئيًا في الحملة الانتخابية الألمانية. تكتسب هذه التدخلات أهمية خاصة في سياق صعود اليمين المتطرّف في أوروبا، وهو يمينٌ يسعى جاهدًا إلى تغييرِ ليس فقط الأنظمة المحلية، بل النظام الأوروبي نفسه، وعلاقاته الخارجية.

  1. العواقب على أوروبا… وسويسرا؟

باختصارِ، نجدُ أنفسنا في لحظةٍ حيث لا يتعرّضُ نظامُ السلام العالمي الذي نشأ في فترة ما بعد الحرب، إلى جانب أسُسه المعيارية، للتآكل فحسب، بل وربما يتم مراجعته بشكلٍ نشط ــ وليس فقط من جانب منافسي أو أعداء الغرب، ولكن من جانب القوّة التاريخية الضامنة لهذا النظام.

تُواجِهُ القارة الأوروبية، ذات العولمة المفرطة -وسويسرا في وسطها- تحدّيات يمكن وصفها، بدون مبالغة، بأنها بالغةُ الخطورة. مع ذلك، قررت الغالبية العظمى من الدول الأوروبية السعي إلى تحقيق الأمن والازدهار والتحوُّل الديموقراطي في المجتمعات السياسية القائمة على القيم والمصالح المشتركة (الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، ومنطقة اليورو). وعلى الرُغم من التوترات والاختلافات الواضحة داخل هذه المجموعات من الدول، فإنَّ عدوان روسيا وتهديدات ترامب بفَرضِ رسومٍ جمركية عقابية قد أدّيا إلى جهودٍ جديدة لتعزيز الردع والدفاع الأوروبيين – وحتى إلى مناقشات عضوية جديدة في الدول غير الأعضاء.

مع ذلك، اختارت سويسرا، عمدًا، مسارًا مختلفًا: التقارُب المرن والتعاون الانتقائي، ولكن من دون التخلّي عن مبدَإِ الحياد، ويبدو أنها نجحت في ذلك. إذا فهمتُ مبادرةَ الحياد بشكلٍ صحيح، فهي تُريدُ وَضعَ حَدٍّ لهذا النوع من التقارُب والتعاوُن إلى الأبد. لذا، وبالنظر إلى الوضع الجيوسياسي العام الذي وصفتُهُ للتو، يبدو من المبرّر التساؤل: كيف يُمكن لمثل هذا التعريف الصارم للحياد أن يُسهِمَ في الحفاظ على سيادة سويسرا وأمنها وازدهارها ودستورها الداخلي وحمايته؟

Exit mobile version