هل تَستَطيعُ إيران إنقاذَ نَفسِها؟

تُحاولُ الجمهورية الإسلامية إجراءَ إصلاحاتٍ داخلية ولو محدودة – لكي تتمكّن من الصمود أمام ضغوط واشنطن وحملة “الضغط الأقصى”، ولكن هل هذا سيكفي؟

وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي: أجهزة الاستخبارات الإيرانية كانت “على درايةٍ تامة” بالتهديد الأمني الوشيك ضد الأسد.

محمد آية الله طبّار*

خلال العام الفائت، واجهت إيران سلسلةً من الانتكاسات. ضربت إسرائيل كُلًّا من حركة “حماس” وتنظيم “حزب الله”، وَكيلَي طهران الإقليميين غير الحكوميين، وأضعفتهما بشكلٍ كبير. وانهارت حكومة الرئيس بشار الأسد في سوريا فجأةً وبشكلٍ مُذهل. في غضون ذلك، تُشير عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض إلى إحياءِ سياسات الضغط الأقصى التي أعاقت الاقتصاد الإيراني وعثّرته بدءًا من العام 2018. وقد دفعت هذه التحدّيات الوشيكة العديد من المسؤولين والمُحلِّلين الأميركيين إلى القول بأنَّ الجمهورية الإسلامية تُواجِهُ هزيمةً استراتيجية. وأشارَ الديبلوماسي الأميركي السابق والمُحلّل السياسي في الشؤون الدولية ريتشارد هاس، في مقالٍ له في مجلة “فورين أفّيرز” في كانون الثاني (يناير)، إلى أنَّ “إيران أضعف وأكثر عُرضةً للخطر مما كانت عليه منذ عقود، على الأرجح منذ حربها التي استمرّت عقدًا مع العراق أو حتى منذ ثورة 1979”. ووفقًا لهذا الرأي، فقد قدمت إيران لخصومها الفرصة المناسبة لاستهدافِ مُنشآتها النووية أو انتزاعِ تنازُلاتٍ كبيرة من أجلِ التوصُّل إلى اتفاقٍ نوويٍّ جديد.

مع ذلك، لا تَتَّفِقُ طهران مع الاعتقادِ السائد بأنَّ إيران أصبحت الآن أكثر عُرضةً للإكراه الأميركي أو الهجوم الإسرائيلي. تنظرُ الجمهورية الإسلامية إلى هذه التحدّيات الخارجية على أنها انتكاساتٌ مؤقتة، وليست علامات هزيمة. من وجهةِ نظرِ إيران، فإنَّ “حماس” و”حزب الله”، على الرُغمِ من هزيمتهما الساحقة، قد خرجا مُنتصِرَين في صراعهما غير المتكافئ ضد إسرائيل. لقد صمدا كتنظيمَين في حرب عصابات ضد جيشٍ تقليدي قوي مدعوم من الولايات المتحدة. والأهم من ذلك، أنَّ “حماس” احتفظت ببعضِ الشعبية على الأقل بين الفلسطينيين، ولا يزال “حزب الله” يتمتّع بدعمٍ كبير من الشيعة في لبنان. في اليمن، عزّزَ الحوثيون المتحالفون مع إيران دورهم كداعمٍ ثابت للقضية الفلسطينية وعضوٍ رئيس في ما يسمى ب”محور المقاومة” التابع لطهران من خلال مهاجمة إسرائيل وتعطيل الملاحة في البحر الأحمر.

مع ذلك، تُدركُ إيران أنَّ شبكةَ شركائها وعملائها ليست قوية اليوم كما كانت قبل هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وقد أثار سقوط الأسد غير المحبوب قلقها. نتيجةً لذلك، اتخذت خطواتٍ لتعزيز دعمها الداخلي من خلالِ تقديمِ تنازلاتٍ داخليةٍ محدودةٍ لشعبٍ سئم الحكم الاستبدادي الديني. خفّفَ النظام من تطبيق قواعد اللباس الإلزامي للنساء، وخفّف القيود على منصّات التواصل الاجتماعي، ما أتاحَ نقاشاتٍ انتقاديةً متزايدةً لسياسات الحكومة. وتأمل الجمهورية الإسلامية من خلال ذلك أن تُقلّلَ من خطر الاضطرابات الداخلية وأن تُعزّزَ وتكسَبَ ثقةَ الجمهور.

لكن لا ينبغي فَهمُ هذه التحوّلات الداخلية على أنها بوادرُ انفتاحٍ كبيرٍ على الغرب. في الواقع، يتمثّلُ هدفُ الإصلاحات الاجتماعية الإيرانية المدروسة (والقابلة للتراجع) في تعزيزِ الدعم الداخلي لمقاومة الضغوط الخارجية. وقد أشارَ ترامب إلى انفتاحٍ على المفاوضات مع طهران، لكنه أبدى أيضًا استعدادًا لمهاجمة البلاد. ومع تأييد الرأي العام لطهران، أو على الأقل معارضته الأقل، تأمل الحكومة أن تتمكّنَ من الصمود في وجهِ أيِّ شيءٍ يُخبِّئهُ لها الرئيس الأميركي.

تحذيرٌ من دمشق

قد تكون إسرائيل تحتفلُ بانتصارها العسكري على “حماس” و”حزب الله”. لكن إيران غير قلقة نسبيًا بشأن التنظيمَين. على الرُغمِ من الخسائر الفادحة التي تكبدّها كلٌّ منهما، تتوقع طهران أن تُعيدَ “حماس” و”حزب الله” بناء نفسيهما، مدعومَين بدعمٍ شعبي وكراهيةٍ لإسرائيل. بل إنها تتوقّعُ أن يُعزّزَ مقتلُ زعيم “حماس” يحيى السنوار وزعيم “حزب الله” السيد حسن نصر الله في ساحة المعركة الالتزامات الإيديولوجية للتنظيمين وأن يتردّدَ صداها لدى جمهورٍ متعاطِفٍ لسنواتٍ مقبلة.

لكن من الصعب على إيران تعويض سقوط الأسد. على الرُغمِ من الاعتراف على نطاقٍ واسع بعدم شعبية الرئيس السوري السابق، إلّا أنَّ التفكُّكَ السريع للجيش السوري فاجأ حتى القيادة الإيرانية – الراعي الرئيس للأسد. ووفقًا لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، فإنَّ أجهزة الاستخبارات في الجمهورية الإسلامية كانت “على درايةٍ تامة” بالتهديد الأمني ​​الوشيك ضد الأسد. مع ذلك، فوجئت طهران بالعجز التام للجيش السوري عن صَدِّ قوات المتمرّدين. يعزو المسؤولون الإيرانيون جُزئيًا تفكُّك جيش الأسد إلى “الحرب النفسية” التي شنّتها قوى خارجية، بما فيها إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة. لكن عراقجي ألقى أيضًا ببعضِ اللوم على تجاهُل الأسد للرأي العام. وزَعَمَ عراقجي أنَّ إيران نصحت الأسد “باستمرار” برَفعِ الروح المعنوية للجيش و”التفاعُل بشكلٍ أكبر مع الشعب، لأن ما يَضمنُ الحكومة في النهاية هو الشعب”. لكن الأسد، كما أشار عراقجي، قد فشل في كل ذلك.

أثارَ الانهيار المفاجئ للأزمة السورية قلقًا عامًا في إيران، حيث أدّى القمعُ والفسادُ المستمرّان إلى تفاقُمِ الخلاف بين الحكومة وشعبها (كما فعلت العلمانية). في كانون الثاني (يناير)، أقرّ عباس صالحي، وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني، علنًا بأنَّ طهران تُواجِهُ عجزًا حادًا في “رأس المال الاجتماعي”، مع تراجع ثقة الجمهور بالحكومة. وحذّر الرئيس السابق محمد خاتمي من أنَّ الجمهورية الإسلامية تُخاطر بـ”التخريب الذاتي” بتجاهلها الاستياء العام. وتَّتفِقُ النُخَبُ الإيرانية، على امتداد الطيف السياسي، بشكلٍ متزايد على الحاجة المُلحة إلى بناءِ مرونةٍ داخلية.

بناءً على ذلك، خفّفت الحكومة الإيرانية بعضَ قيودها. والجديرُ بالذكر أنه في كانون الأول (ديسمبر) 2024، أوقف المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني فعليًا تطبيقَ قانونٍ جديد مُثيرٍ للجدل بشأن الحجاب، كان من شأنه فرض عقوبات مالية وأحكام بالسجن وعقوبات أخرى، مثل حظر السفر، على النساء اللاتي يظهرن في الأماكن العامة بدون حجاب أو يُحكَمُ عليهن بارتداء ملابس “غير لائقة”. رُغمَ دعوات بعض المحافظين المتشدّدين لتطبيقٍ صارمٍ لقواعد اللباس في البلاد، وحملات القمع الحكومية المُوَجَّهة أحيانًا لتهدئة قاعدتها الدينية، أصبحَ بإمكان النساء الآن الظهور سافرات في الأماكن العامة من دون خوفٍ من انتقامٍ أو عقابٍ قاسٍ. والمتشددون بدورهم ليسوا مُتَّحدين تمامًا في معارضتهم: في 15 آذار (مارس)، أقرّ النائب المحافظ محمود نبويان بأنَّ المخاوفَ من “سَورَنَة” إيران هي الدافع وراء تعليق القانون، مُتَّفقًا على أنه يجب “تجاهله إذا كان يُقوّضُ النظام”.

يَعكُسُ هذا التطور اعترافًا ضمنيًا من الدولة بعدمِ شعبيةِ فَرضِ الحجاب، وأنه غير عملي، على الأقل في الوقت الحالي. كما يأتي بعد ثلاث سنوات على وفاة محسا أميني، البالغة من العمر 22 عامًا، أثناء احتجازها لدى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عقب اعتقالها لعدم ارتدائها الحجاب بشكل صحيح. وقد أثارت وفاة أميني احتجاجات شعبية حاشدة في العام 2022، أخمدتها إيران بعنف وقمع متواصل. وفي نهاية المطاف، سحبت الجمهورية الإسلامية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مؤقتًا من الشوارع لتخفيف حدّة التوترات. والآن، يبدو أن طهران مستعدة بشكلٍ مُتزايد لقبول تطبيق قوانين الحجاب بشكلٍ متساهل، شريطة ألّا يتفاقَمُ هذا التحوُّل إلى حركةٍ سياسيةٍ أوسع نطاقًا تتحدّى النظام نفسه.

بالإضافة إلى هذا التوقّف، تسعى الجمهورية الإسلامية إلى كَسبِ تأييدٍ شعبي من خلالِ السماحِ بمناقشات مُنفتِحة وصريحة نسبيًا على وسائل الإعلام المحلية. تستضيفُ منصّات التواصل الاجتماعي المُستَخدَمة في إيران الآن مجموعةً متنوّعة من المعلّقين، بما في ذلك أصوات مستقلّة ومعارضة، داخل البلاد وخارجها. وتواصلُ الحكومةُ الترويجَ بهدوءٍ لمنصّاتٍ مُرتَبطة بالدولة، وهناك الكثير من المدافعين المُستقلّين عن النظام. لكن النقاشات الإلكترونية حول قانون الحجاب، وانهيار الأسد، وقضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية أوسع، تتَّسِمُ بصراحةٍ وعُمقٍ مُفاجئين. ويصفُ بعض المعلِّقين القيادةَ صراحةً بأنها كارثةٌ على البلاد.

قد يبدو غريبًا للوهلة الأولى أن تسمحَ إيران للناس بسماعِ تعليقاتٍ مُعاديةٍ للنظام من أجلِ الاستقرار. لكن طهران تأملُ أن يُتيحَ لها فتحُ المجالِ الداخلي صمّامَ أمانٍ للإحباط العام، ويُقلّلُ من جاذبية وسائل الإعلام الدولية الفضائية مثل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) – التي تَنتَقدُ الجمهورية الإسلامية أكثر من الأصوات الإيرانية. وقد لجأ النظامُ إلى هذه الاستراتيجية في أوقاتٍ حرجة سابقة. ففي ذروة احتجاجات العام 2022، شجّعَ النظامُ شخصياتٍ كانت محظورةً سابقًا على الظهورِ على شاشات التلفزيون، على أمل أن تُحَوِّلَ انتقاداتهم السخطَ العام بعيدًا من الشارع. هذه المرة، تعتقد طهران أنَّ التدفُّقَ الحر نسبيًا للمعلومات، إذا أُديرَ بعناية، يُمكنُ أن يُعزِّزَ سردية النظام بشأن الأمن القومي في المدى الطويل.

إعادةُ ترتيبِ البيت

يأملُ قادةُ إيران أن تُهيئَ إدارةُ الاستقرارِ الداخلي من خلالِ إصلاحاتٍ جُزئية مناخًا مُلائمًا لنقاشٍ وطني حول قضايا السياسة الخارجية الرئيسة، مثل الأزمة النووية – وهو نقاشٌ يُعتَقَدُ أنه سيُفضي إلى الوحدة الوطنية. تُجمِعُ النُخَب، على الأقل، على أنَّ مثل هذا النقاش سيُعزّزُ موقفَ الحكومة التفاوضي في سعيها إلى التوصّلِ إلى اتفاقٍ مع الولايات المتحدة من شأنه أن يُعالجَ مخاوف واشنطن بشأنِ تسليح البرنامج النووي الإيراني، ولكنه لا يصل إلى حدِّ إنهاء تخصيب اليورانيوم، أو تقييد الأسلحة التقليدية، أو إضعاف “محور المقاومة”. فالاحتجاجات الداخلية، في نهاية المطاف، لا تُتيحُ سوى فُرَصٍ للخصوم، مثل الولايات المتحدة، التي ترى في التصدّعات في المجتمع الإيراني علاماتَ ضعف.

بالنسبة إلى القادة الإيرانيين، يُعَدُّ بناءُ هذه الوحدة أمرًا بالغ الأهمية عند مواجهة واشنطن. على سبيل المثال، سعت إدارة جو بايدن إلى استغلالِ الضررِ الاقتصادي الذي ألحقته حملة ترامب للضغط الأقصى لتأمين “صفقةٍ أطول وأفضل” من الاتفاق النووي الإيراني الأصلي، المعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” لعام 2015. لكن إيران، مدعومةً بقدر من التماسُك الداخلي في مواجهة تهديدٍ خارجي من الولايات المتحدة، تبنّت موقفًا تفاوضيًا أكثر صرامة من ذي قبل. ونظرًا لاعتقاد إدارة ترامب أنَّ إيران قد أُضعِفت منذ 7 أتشرين الأول (أكتوبر)، فمن المرجح أن الرئيس الأميركي يعتقد أنه قادرٌ على إبرام صفقةٍ مع طهران تكون أكثر ملاءمة للولايات المتحدة. وإذا لم يستطع، فقد يلجأ ترامب إلى استخدام القوة. ويزعم ترامب أنه قال للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في آذار (مارس) االجاري: “هناك طريقتان للتعامل مع إيران: عسكريًا، أو إبرام صفقة”. وأضاف أنَّ إدارته هي “في اللحظات الأخيرة مع إيران”. بالنسبة إلى طهران، يُعدّ وجودُ جمهورٍ داعم أمرًا أساسيًا لتجاوز هذه العاصفة.

بالطبع، قد تكون تهديدات ترامب كافيةً مرةً أخرى لخلق تماسك داخلي. لكن مع ترسيخ مثال الأسد في أذهانهم، لا يترك قادة إيران شيئًا للمصادفة. كتب مستشارٌ لمحمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان الإيراني المحافظ، على موقع”إكس”: “فكّروا في هذا: في اليوم الذي تقع فيه المواجهة، ما مدى وحدة المجتمع الإيراني؟” وأضاف: “مَن المسؤول عن المشاكل في نظرِ الشعب؟ الإجابات عن هذين السؤالين تُحدّد ما يُمثّل خدمةً وما يُمثّل خيانةً”.

طهران عازمة على مَنعِ الانقسامات الداخلية من إضعافِ قدرةِ البلاد على تحمُّلِ الضغوط. وتُعدُّ الانفتاحات الاجتماعية والسياسية المحدودة استراتيجيةً مدروسةً لتهدئة الإحباط العام قبل أن يتفاقمَ إلى اضطراباتٍ جماهيرية. وإذا كان الماضي مُقدّمةً، فإنَّ هذا النهج قد يسمح للجمهورية الإسلامية بتصوير أيِّ صراعٍ مع الولايات المتحدة ليس كصراعٍ من أجل بقاء النظام، بل كمقاومةِ دولةٍ ذات سيادة ضد الإكراه الخارجي. لكن هذا لا يُنذرُ بتغييرٍ في استراتيجية النظام الأساسية. بعبارة أخرى، طهران ليست على وشك التخلّي عن عقودٍ من التحدّي.

Exit mobile version