بعد بلوغ حرب روسيا على أوكرانيا عامها الثالث في ما يلي تقريرٌ عن هذه الحرب وتوضيح أهم ما جرى فيها.
الدكتور سعود المولى*
1. فكرتان خاطئتان حول الحرب في أوكرانيا
أ. لم تبدأ الحرب في أوكرانيا يوم الهجوم الروسي في باط (فبراير) 2022، بل هي اندلعت منذ ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم في العام 2014 ودعمت الانفصاليين في دونباس. وقد تطورت هذه الحرب يومها إلى “صراع مجمّد” أو إلى “حربٍ مُعَلَّقة”، هي بالتالي “حرب مؤجلة”.
ب. التقدير بأنَّ أوكرانيا ستخسر الحرب، وبالتالي سيكون هناك سلام سريع وضروري. في الواقع، لم تُحقّق روسيا أيًا من أهدافها الأولية؛ فأوكرانيا لا تزال هي المسيطرة على أكثر من 80٪ من أراضيها. ولم تتمكّن روسيا من فرض نفسها لا في البحر أو الجو أو حتى في الفضاء الإلكتروني.
2. الوضع الميداني بعد ثلاث سنوات من الحرب
إقليميًا، تحتل روسيا ما يقرب من 18٪ من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم وجُزء من دونباس. ومع ذلك، تمكنت أوكرانيا من استعادة بعض الأراضي التي فقدتها منذ العام 2022 واحتلت جُزءًا من منطقة كورسك في الأراضي الروسية. وبذلك أمكن القول إنَّ الهدف الروسي من السيطرة على مجمل أوكرانيا ، بشكل مباشر (الغزو الإقليمي) أو بشكلٍ غير مباشر (استتباع ما تبقى من أوكرانيا)، صار بعيد المنال. وتسيطر الحكومة الأوكرانية على معظم أوكرانيا: سياسيًا وعسكريًا وإقليميًا. هذا الوضع يكشف عن حقيقة المقاومة الأوكرانية لما يسمى “المحدلة” العسكرية الروسية.
3. العلاقات المعقّدة بين الروس والأوكرانيين
قبل العام 2014، كانت العلاقات بين روسيا وأوكرانيا مستقرة نسبيًا على الرُغم من التوترات الكامنة. وكانت روسيا وقّعت على اتفاقيات مختلفة، مثل مذكرة تفاهم بودابست (1994) ومعاهدة الصداقة لعام 1997، بما ينصُّ على ضمان سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها. ومع ذلك، قامت روسيا باختراقات عميقة للدولة الأوكرانية ، كشفت في ما بعد عن وجود برنامج خفي لإلغاء استقلال أوكرانيا. وهذا ما يفسّر ما حصل من تصعيد سريع للنزاع، منذ العام 2014، والانتقال إلى الحرب، بحيث اعتبر الغربيون أنها كانت حربًا مقرّرة ومخططًا لها منذ فترة طويلة.
4. تطوّر مواقف فرنسا والاتحاد الأوروبي
لم يكن الرد الأوروبي على الحرب في أوكرانيا متجانسًا أو قويًا، ذلك أنَّ الوحدة الأوروبية كانت ولا تزال مشروطة بقيادة الولايات المتحدة وعملها. وكانت شحنات الأسلحة غير كافية ومتأخّرة ، مما عكس نوعًا من التردّد في تمكين أوكرانيا من تحقيق نصر عسكري على روسيا، الذي قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة، علمًا أنَّ ذلك كان ممكنًا في وقت الهجوم المضاد الأوكراني في أيلول (سبتمبر) 2022 والنجاحات التي حققها (فقد النظام العسكري الروسي توازنه بعد ذلك). ويظهر هذا الالتباس الإشكالي حدود التصميم الغربي في صراع شديد الحدة. باختصار، “أدارت” العواصم الغربية الصراع، وهي ترغب في ترك مخرج مشرف لفلاديمير بوتين. وقد عبّرت كلمات إيمانويل ماكرون يومها “لا تهينوا روسيا” عن حقيقة ما كان يعتقده العديد من القادة الغربيين، بمن فيهم رئيس الولايات المتحدة (جو بايدن) وإدارته. بالطبع، كان لتلميحات بوتين باستخدام الأسلحة النووية واستراتيجيته المتمثلة في “الملاذ العدواني” “sanctuarisation aggressive” وزنًا في هذا المجال. وهكذا سادت سياسة الـلّاءَين الاستراتيجية والجيوسياسية (لا نصرَ ولا هزيمة لأوكرانيا أو لروسيا).
5. آفاق الصراع بعد ثلاث سنوات
لا يزال من الممكن أن تستمرَّ الحرب، على الرُغم من دعوات السلام في الغرب ومن الخطوات التي قام بها دونالد ترامب تجاه روسيا وأوكرانيا. وفي الواقع، فإنَّ الأهداف الروسية –القضاء على الدولة الوطنية الأوكرانية، وعلى نطاق أوسع إعادة بناء الغلاف المكاني لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابق– لا تزال في مركز التمثيلات الجيوسياسية لسيد الكرملين والطبقة الحاكمة الروسية. إرادة الانتقام الروسي من نتائج الحرب الباردة (1947-1990-1991) وتصورها لتراجع الهيمنة الغربية، يُغذّي طموحات الكرملين الجيوسياسية. ولا تزال مفاوضات السلام غير مؤكدة لأنَّ أيًا من الطرفين غير مستعد للاستسلام؛ وعلى وجه الخصوص لأنَّ الهدف الروسي هو الاستسلام المفتوح للدولة الأوكرانية: أي اعتراف كييف ببتر أراضي أوكرانيا؛ نزع السلاح وعدم الدخول أو الاندماج في الهيئات الأوروبية الأطلسية (الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي)؛ وتنصيب نظام في كييف تحت سيطرة الكرملين. باختصار، موسكو تقود في أوكرانيا “حرب الهدف المطلق”.
6. العلاقات بين روسيا والصين
خلال هذه الحرب حافظت روسيا والصين الشعبية على تحالفٍ حقيقي بل طوّرتاه. توفر روسيا الموارد المهمة من الطاقة والمعادن والزراعة، في حين توفّر الصين رأس المال والمكوّنات الإلكترونية والدعم التكنولوجي الأساسي للآلة العسكرية الروسية، وعلى نطاق أوسع لاقتصاد الحرب. وبرز أيضًا قيام وحدات إنتاج مشتركة للطائرات المُسَيَّرة، في منطقة سين-كيانغ (شينجيانغ) في جمهورية الصين الشعبية. هذه العلاقة مفيدة للطرفين، في سياق “الحرب الباردة” مع الغرب. ذلك أنَّ القادة في بكين، كما في موسكو، مقتنعون بأنَّ ما يسمونه “الغرب الجماعي”، ميت فعليًا؛ ميزان القوى والثروة يميل نحو آسيا؛ وقد جاءت ساعة انهيار الغرب الجماعي هذا: من هنا تركيز موسكو وبكين على أوراسيا الصينية الروسية، وعلى “آسيا الكبرى” التي مركزها الصين، وعلى “مجموعة البريكس+” و”الجنوب العالمي”، بقيادة الثنائي الصيني-الروسي.
7. أميركا والحرب في أوكرانيا
افتتح وزير الدفاع الأميركي “بيت هيغسيث” (Pete Hegseth) اجتماع “مجموعة الاتصال للدفاع عن أوكرانيا” [1] (Ukraine Defense Contact Group-Groupe de contact sur la défense de l’Ukraine) في بروكسل يوم 12 شباط (فبراير) 2025. وفي خطابٍ قاسٍ، أصرَّ هيغسيت على الحاجة إلى “السلام الدائم” في أوكرانيا، وكرر هذه العبارة ثلاث مرات، وأكد على ضرورة تحقيق ذلك من خلال الديبلوماسية والقوة و”التقييم الواقعي لساحة المعركة”. وشدد على أنَّ الولايات المتحدة تريد أوكرانيا مزدهرة، من دون حرب، وقبل كل شيء “ليست اتفاقية مينسك أخرى [بصيغة جديدة]”، وبالتالي ترفض أي اتفاق مؤقت لا يضمن الاستقرار على المدى الطويل. ووضع هيغسيث خطوطًا حمراء واضحة لأول مرة منذ 24 شباط (فبراير) 2022: “العودة إلى حدود 2014 غير واقعية”، كما إنَّ عضوية أوكرانيا في الناتو مُستَبعدة. وأكد أنَّ على الضمانات الأمنية أن تكون قوية، لكنه أوضح أن هذه المسؤولية تقع في المقام الأول على عاتق الأوروبيين – وهو الموقف الذي اعتبره الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي غير كاف في مقابلة مع صحيفة الغارديان. وأوضح وزير الدفاع الأميركي أيضًا أنه إذا كان لا بد من نشر قوةٍ لحفظ السلام، فلا يمكن أن تكون إلّا من خارج الناتو، ومن دون تطبيق المادة 5، واستبعد بشكل نهائي أي وجود للقوات الأميركية في أوكرانيا.
8. الخلافات بين أميركا وأوروبا
منذ وصول ترامب إلى سدة الرئاسة تصاعدت الخلافات بين الكتلة الأوروبية والولايات المتحدة بشأن ملف التفاوض مع روسيا لإنهاء الحرب الأوكرانية، بعدما شرع الرئيس الأميركي في إجراء مفاوضات مع موسكو من دون مشاركة الأوكرانيين أو الأوروبيين. فقد عقد مسؤولون أميركيون وروس كبار، بينهم وزيرا خارجية البلدين في الرياض الثلاثاء 17 شباط (فبراير)، محادثات تهدف إلى إصلاح العلاقات المتوترة بين واشنطن وموسكو، تمهيدًا لقمّة مُحتَملة بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب في المملكة العربية السعودية. وفي 18 شباط (فبراير) شنّ الرئيس الأميركي جولة ثانية من الهجمات على نظيره الأوكراني، زيلينسكي، قائلًا إنه “ديكتاتور بلا انتخابات”. وقال في تصريحاته التي أثارت صدمة في أوكرانيا، إنَّ زيلينسكي لا يحظى بشعبية وإنَّ نسبة تأييده انخفضت إلى 4 في المئة” وانتقد عدم تنظيم الانتخابات وأكد “اختلاس” جُزءٍ من المساعدات الأميركية. وأكد ترامب أنَّ واشنطن “قدّمت 350 مليار دولار” لأوكرانيا واتهم زيلينسكي “بعدم معرفة أين ذهبت نصف الأموال”، في حين قدّر معهد كيل الاقتصادي المساعدات الأميركية بـ114,2 مليار دولار منذ العام 2022.
وفي رده على تصريحات ترامب، قال زيلنسكي إنَّ “المستقبل ليس مع بوتين، بل مع السلام. إنه خيارٌ للجميع في العالم، بما في ذلك الأقوى، للوقوف مع بوتين أو مع السلام”. وأوضح زيلينسكي “أعتمد على الوحدة الأوكرانية، وشجاعتنا الأوكرانية، وعلاقاتنا مع الشركاء، ووحدتنا الأوروبية، وعلى براغماتية أميركا، التي تحتاج إلى النجاح بقدر ما نحتاج إليه جميعًا”.
بالمقابل رد المستشار الألماني، أولاف شولتز، على ترامب قائلًا إن وصف ترامب للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي بأنه “ديكتاتور” “خاطئ وخطير”. وأضاف في تصريح لصحيفة دير شبيغل الألمانية “من الخطَإِ والخطير ببساطة حرمان الرئيس زيلينسكي من شرعيته الديموقراطية”. أما الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فقال بعد الاجتماع الذي عقده في 19 شباط (فبراير) مع القادة الأوروبيين، إن فرنسا وشركاءها “يقفون إلى جانب أوكرانيا” و يتحملون كل المسؤولية لضمان السلام والأمن في أوروبا. مؤكدًا أنَّ “أوكرانيا يجب أن تشارك في أي مفاوضات سلام”. فيما قال رئيس الوزراء السويدي، أولف كريسترسون، إن وصف ترامب لزيلينسكي بأنه “ديكتاتور” “غير صحيح”. إنه “منتخب ديمقوراطياً”.
وفي سياق هذه الخلافات التقى يوم الاثنين 24 شباط (فبراير)، الرئيس الأميركي بنظيره الفرنسي في البيت الأبيض. وخلال المحادثات، أكد ترامب أنَّ حربَ أوكرانيا قد تنتهي خلال أسابيع، مشددًا على أنَّ العالم أصبح على مسافة قريبة من تحقيق اتفاق بين روسيا وأوكرانيا. وأكد أنه لا يرى مشكلة في إرسال قوات أوروبية إلى هناك لحفظ السلام، لافتًا إلى أنه لو كان رئيسًا لما وقعت هذه الحرب، وفق تعبيره. كما أعلن سيد البيت الأبيض، أنه سيذهب إلى روسيا، كما سيأتي نظيره الروسي فلاديمير بوتين إلى أميركا وأوضح أيضًا أنه سيجتمع مع زيلينسكي هذا الأسبوع أو الأسبوع المقبل. كما توقع حصول تسوية بين أوروبا وأوكرانيا من جهة وروسيا من جهة أخرى، على أن تساعد بلاده أوكرانيا بطريقة لم تعمل بها أي إدارة من قبل. وتابع أنه سوف يكون هناك اتفاق تشارك فيه الدول الأوروبية، مشددًا على أنَّ أميركا ستعمل على استعادة الأموال الطائلة التي أنفقتها على أوكرانيا. وأعلن أنَّ اتفاقًا مع أوكرانيا بشأن المعادن الثمينة التي تملكها أصبح “قريبًا جدًا”. وكانت الحكومة الأوكرانية أكّدت في وقت سابق أنَّ المفاوضات بشأن الصفقة التي من شأنها أن تمنح واشنطن إمكان الوصول إلى المعادن الأوكرانية مقابل الحماية، وصلت إلى مراحلها النهائية.
أما ماكرون، فرأى أنَّ الأوروبيين جاهزون للانخراط في تنفيذ اتفاق السلام المرتقب. واعتبر أنَّ العالم يعيش لحظة مهمة بالنسبة إلى أوروبا، مُشدّدًا على مواصلة النقاش لضمان أمن أوكرانيا. وأكد أنه جاء إلى واشنطن بهدف تحقيق سلام دائم في أوكرانيا، وأنَّ الجميع جاهز لتقديم ضمانات أمنية. كما أمل بانخراط قوي لأميركا لضمان سلام أوكرانيا، مشددًا على استعداد أوروبا لتعزيز دفاعها.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
هوامش
[1] مجموعة الاتصال للدفاع ان أوكرانيا هي تحالف يضم 54 دولة (دول الاتحاد الأوروبي ال27 زائد 27 دولة) لدعم الدفاع عن أوكرانيا من خلال إرسال معدات عسكرية ردًا على الغزو الروسي عام 2022. وتقوم المجموعة بتنسيق التبرع المستمر للمساعدات العسكرية في اجتماعات شهرية.