بإعطاء الأولوية للاستقرار في الأمد القريب على الأسس اللازمة لنظامٍ إقليمي مُستدام منذ العام 2011، ظلَّ صنّاع السياسات في الاتحاد الأوروبي مُحاصَرين بافتراضاتٍ ثَبُتَ أنها مُعيبة إلى حدٍّ كبير. وما لم يُعيدوا النظر في هذه الافتراضات، فمن المرجح أن يُكرّروا الأخطاء التي نشأت عنها اليوم.
ألكسندر كلاركسون*
من الثوابت القليلة في الحرب الأهلية الطويلة في سوريا كان الانتظامُ في مفاجأة القادة الأوروبيين للتطوّرات الجديدة على الأرض والتي فشلوا في تَوَقّعِ أسبابها وعواقبها. من الاحتجاجات الأولى ضد الحكم الاستبدادي للرئيس السابق بشار الأسد في آذار (مارس) 2011 إلى فراره إلى المنفى مع زحف القوات المتمرّدة نحو دمشق في وقتٍ سابق من هذا الأسبوع، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه مرارًا وتكرارًا في حالةٍ من الضياع والتدافع للاستجابة لصراعٍ مُدَمِّرٍ كاد تأثيره الأوسع أن يُزعزِعَ استقرارَ التكامُل الأوروبي.
مع انتقالِ آخر بقايا نظام الأسد إلى التحالف المتمرّد، فمن الأهمية بمكان الإستكشاف لماذا فشلت جهود مؤسّسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في التأثير على هذه الديناميكيات بانتظام، من أجل تجنُّب تكرار الأخطاء نفسها في بناء العلاقات مع سوريا ما بعد الأسد الجديدة.
كان هذا الفهمُ الخاطئ المُزمن للمجتمع السوري واضحًا أصلًا في ردود الفعل الأوروبية على تولّي الأسد الرئاسة في تموز (يوليو) 2000 بعد وفاة سلفه ووالده حافظ الأسد. كان التحسُّن المفاجئ في العلاقات بين دمشق والدول الأوروبية في السنوات التي أعقبت تولي الأسد الأصغر السلطة يتناقضُ بشكلٍ صارخ مع الطريقة التي اعتمد بها والده بشكلٍ كبير على دعم موسكو وبناء علاقة وثيقة مع طهران بعد الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، وكلاهما قائمٌ على العداء المشترك للغرب. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1992، وفي خضمّ الجهود الحذرة الرامية إلى التقارب الأوروبي مع إيران بعد وفاة آية الله الخميني في العام 1989، نمت الآمال في عواصم الاتحاد الأوروبي في أن يوفّرَ دعم بشار المزعوم للإصلاح السياسي والاقتصادي فرصةً لجذب سوريا نحو علاقةٍ أوثق مع أوروبا بعد رحيل والده عن المشهد.
عند تولّيه السلطة، كان بشار على استعدادٍ لتطوير الاتصالات مع الزعماء الأوروبيين مثل الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لكنَّ الانفتاحَ الأكبر على الاستثمار الأوروبي الذي أعقبَ ذلك لم يؤدِّ إلى أيِّ تغييرٍ أعمق في هياكل نظام الأسد أو في شراكته مع طهران و”حزب الله” اللبناني. طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أُطلِقَت حملةُ علاقاتٍ عامة منهجية في أوروبا بتمويلٍ من الدولة السورية التي قدّمت الأسد باعتباره مصلحًا شابًا يكافح من أجل إزاحة المتشدّدين المُفترَضين من جيل والده، حتى مع قيام عائلته وأصدقائه المقرّبين بتوزيع أصول الدولة المُخصخصة في ما بينهم.
ولم تكن الأمور أفضل عندما كان الأمرُ يتعلّقُ بتأثير سوريا في الأمن الإقليمي. لقد أجبرت الاحتجاجات الجماهيرية في بيروت دمشق على سحب قواتها من لبنان في العام 2005، على أثر إغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ولكن على الرُغم من الجهود المستمرة التي يبذلها الاتحاد الأوروبي لمُغازلة الأسد، استمرّت أجهزة الأمن السورية في السماح للجهاديين بعبور الحدود إلى العراق لمحاربة القوات الأميركية هناك، في حين كثّفت المساعدات ل”حزب الله” في حربه ضد إسرائيل في العام 2006.
إنَّ الاستغلالَ الساخر لنظامِ الأسد للمخاوف الغربية من الجهاديين كان يعني أنَّ العديدَ من حكومات الاتحاد الأوروبي كانت مُتردّدة في البداية في قطع العلاقات مع دمشق حتى بعد أن أدّى قمعُ الأسد العنيف والوحشي للاحتجاجات الجماهيرية المُطالبة بالتغيير في آذار (مارس) 2011 إلى اندلاع ثورةٍ مسلّحة. ورُغمَ أنَّ الوحشية المدمّرة التي أظهرها النظام السوري تجاه المجتمعات المتمرّدة تصاعدت لتشمل استخدام الأسلحة الكيميائية، فإنَّ الدورَ البارز للإسلاميين المتطرّفين والجهاديين داخل الميليشيات المتمرّدة مَكَّنَ الأسد من تصوير نفسه كمُدافعٍ عن القيم العلمانية أمام زعماء الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء، الذين تراجعوا في نهاية المطاف عن السعي النشط للإطاحة به.
لكن في العام 2015، كان صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضًا ب”داعش”) إلى جانبِ أزمةِ اللاجئين التي اجتاحت حدود الاتحاد الأوروبي سببًا في زيادةِ اليأس في أوروبا لتأمينِ حلٍّ سريع للصراع، الذي كان سببًا في نسبةٍ كبيرة من تدفّقات اللاجئين. وحتى مع تدخُّل روسيا وانخراطها الذي عزّز موقف صنّاع السياسات في بروكسل الذين أرادوا عزل الأسد، فإنَّ الهزائم اللاحقة للمتمرّدين كانت تعني أنَّ الجهودَ الرامية إلى حثِّ الاتحاد الأوروبي على إعادة العلاقات الرسمية مع نظامه بدأت تشهد نجاحًا متزايدًا بحلول أوائل هذه العشرينيات.
ونظرًا للضغوط المتزايدة لاستعادة الروابط مع نظام الأسد بمجرّد استعادته السيطرة على مدينة حلب في العام 2016، فمن اللافت أنَّ المؤسسات الأوروبية تمكّنت من الحفاظ على استمرار العقوبات. وقد تمكّنَ صنّاع السياسات الأوروبيون من إبطاء الزخم نحو إعادة بشار إلى الحظيرة الديبلوماسية كفاعلٍ شرعي، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى وحشية النظام المروّعة، ودوره في تمكين إيران من توريد الأسلحة إلى “حزب الله” و”حماس” لحروبهما مع إسرائيل، وتحالفه الوثيق مع روسيا. لكن لو لم ينجح الهجوم الخاطف الذي شنته قوات المعارضة قبل أسبوعين فقط في الإطاحة بنظام الأسد المفرغ، فمن المرجح أن غالبية دول الاتحاد الأوروبي كانت ستبدأ قريبًا البحثَ عن نوع الصفقات مع الأسد التي حددت السياسة الأوروبية تجاه سوريا قبل اندلاع الحرب الأهلية في العام 2011.
إنَّ حقيقةَ أنَّ بروكسل اقتربت إلى هذا الحد من التخلّي حتى عن التظاهر بالتمسّك بالمبادئ الأخلاقية الأساسية تجاه نظام الأسد تعكسُ مَصدَرَين للخلل في السياسة الأوروبية تجاه سوريا والشرق الأوسط الأوسع، وكلاهما تفاقمَ بسبب صعود الأحزاب الشعبوية اليمينية المُتطرّفة في جميع أنحاء أوروبا في السنوات الأخيرة.
أوّلًا، استغلَّ نظامُ الأسد بنجاحٍ هَوَسَ الاتحاد الأوروبي بإيجادِ حلولٍ سريعة قصيرة الأجل لأزمات الأمن والهجرة التي تُعطّلُ السياسة الأوروبية. وسواء كان ذلك بسبب الاضطرابات الإقليمية الناجمة عن الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات والثمانينيات، أو انهيار عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين في أواخر التسعينيات، أو الدمار الذي أحدثه الغزو الأميركي للعراق في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد استخدم حافظ وبشار الأسد بانتظام الميليشيات بالوكالة وشبكات الإرهاب لتأجيج الفوضى، والتي كانا يعرضان بعد ذلك إعادة السيطرة عليها عند السعي إلى إبرام صفقات مع نظرائهما الأوروبيين. وبمجرّد أن اكتسبت الانتفاضة السورية زخمًا، كانت ممارسة بشار المُتَعَمَّدة المُتمثّلة في استخدام الضحايا المدنيين لتأجيج التطرُّف الطائفي تهدفُ إلى إقناع القوى الخارجية بعدم وجود بدائل قابلة للتطبيق لنظامه، وهو تكتيكٌ راسخٌ استخدمه النظام منذ صعود حافظ إلى السلطة في أواخر الستينيات.
إنَّ انخداعَ العديد من صنّاع السياسات الأوروبيين بمزاعم الأسد بأنَّ سوريا سوف تحترق بدون استخدامه للعنف الساحق كان نابعًا من المصدر الثاني للنهج الأوروبي المُختَل في التعامل مع الصراع: وهو الميل العنصري المُتكرّر داخل أجزاءٍ من الاتحاد الأوروبي إلى افتراض أنَّ العالم العربي غير قادرٍ على التعامل مع أشكال الحُكم الديموقراطية. وتنتشر هذه التحيُّزات بشكلٍ خاص بين الشعبويين اليمينيين المتطرّفين في أوروبا، الذين عمل العديد منهم علنًا على تنمية الاتصالات مع كبار الشخصيات في نظام الأسد بطُرُقٍ أظهرت عدم اهتمامهم بالسجن الجماعي والتعذيب وإعدام مئات الآلاف من الناس على أيدي أجهزة الأمن السورية. مع ذلك، فإنَّ الاعتقادَ بأنَّ العرب لا يمكن حكمهم إلّا “بيدٍ قوية من حديد” لا يزال باقيًا أيضًا في الشبكات السياسية من يمين الوسط ويسار الوسط التي لا تزال مواقفها تجاه الشرق الأوسط متأثرة بالإرث الإمبريالي الجديد من السنوات التكوينية للتكامل الأوروبي في الخمسينيات، والتي حدّدتها شخصيات مثل مستشار السياسة الخارجية لشارل ديغول جاك فوكار أو الرئيس المؤسس لشركة إيني ــشركة النفط الحكومية الإيطاليةــ إنريكو ماتي.
رُغمَ أنَّ مراكز الأبحاث والجامعات الأوروبية تُنتجُ بانتظامٍ تحليلاتٍ عالية الجودة للاتجاهات الاجتماعية بين فئاتٍ أوسع من السكان في الشرق الأوسط، فإنَّ صنّاعَ السياسات رفيعي المستوى ما زالوا يُركّزون في المقام الأول على العلاقات مع النُخَب الضيِّقة التي تُهيمِن على حكم الدول العربية. في العقود التي سبقت انتفاضة العام 2011 في سوريا، أدّى اليأسُ من اكتسابِ نظرةٍ ثاقبة إلى العمل الداخلي لعائلة الأسد إلى دفع الديبلوماسيين الأوروبيين إلى الهوس بمكائد العشيرة الحاكمة على حسابِ فَهمٍ أكثر شمولًا للمجتمع السوري ككل. وفي غياب مثل هذه الشبكة الأوسع من الاتصالات لضمان تدفُّق المعلومات من جميع مستويات الحياة السورية ــبما في ذلك حتى من المحافظات الأكثر طرفيةــ وجدت مؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء نفسها في مأزقٍ مع اندلاع الحرب الأهلية وتقدّمها، حيث كان ظهور مفاجئ لوسطاء جدد بين المتمرّدين والنظام الذين غالبًا ما يسحبون الحرب الأهلية في اتجاهات غير متوقَّعة.
كما تُفسّرُ هذه الاختلالات البنيوية العميقة الجذور في صياغة استراتيجية الاتحاد الأوروبي سببَ كفاح بروكسل لمعالجة كيفية تَمَكُّنِ القادة الجهاديين مثل أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، زعيم حركة “هيئة تحرير الشام” التي قادت الهجوم الناجح للمتمردين – من الإطاحة بنظام الأسد في غضون أسبوعين. وفي ظل تركيزهم على الأسد وداعميه من القوى الكبرى مثل روسيا وإيران، تجاهل العديد من كبار المسؤولين في بروكسل تحذيرات الديبلوماسيين في الخطوط الأمامية ومحللي الاستخبارات حول الجدية التي يتابع بها الجولاني مشروع بناء دولة المتمرّدين. فقط بعد سقوط حلب وحماة الأسبوع الماضي، والذي أوضح أنَّ انهيارَ النظام كان وشيكًا، بدأ القادة الأوروبيون الانخراط في العمل المضني الذي قام به العديد من المسؤولين من المستوى المنخفض في مؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء لتطوير خطوط الاتصال مع “هيئة تحرير الشام” وغيرها من المجموعات السياسية والاجتماعية الصاعدة التي على وشك أن تصبح من اللاعبين الرئيسيين في سوريا الجديدة.
لكنَّ التركيز الحصري على الطبقة السياسية الجديدة الناشئة التي تُجسّدها شخصيات مثل الجولاني أو رائد صالح ــمدير منظمة الدفاع المدني “الخوذ البيضاء”ــ من شأنه أن يكرر نمط الأخطاء نفسه الذي حدد استراتيجية الاتحاد الأوروبي تجاه الشرق الأوسط خلال عهد الأسد. ولفَهم المجتمعات المعقّدة والمتنوّعة مثل سوريا، ناهيك عن التأثير فيها، تحتاج مؤسسات الاتحاد الأوروبي إلى النظر إلى ما هو أبعد من النخب الحاكمة في دمشق وبناء حضور مرئي في المدن الإقليمية. وهذا فقط من شأنه أن يثبت أن بروكسل تأخذ مخاوف جميع السوريين على محمل الجد في جهودها لمساعدتهم على التغلب على التحديات المقبلة التي ستؤثر حتمًا في أوروبا أيضًا. والأمر الأكثر أهمية هو أن الجهد الاستراتيجي الذي تبذله المؤسّسات الأوروبية لمساعدة السوريين على إعادة بناء بلدهم المحطم والمدمّر من شأنه أيضًا أن يُسدّدَ دينًا أخلاقيًا تجاههم لم يكن ينبغي أن يحصل أو للاتحاد الأوروبي أن يتحمّله أبدًا.
وبإعطاء الأولوية للاستقرار في الأمد القريب على الأسس اللازمة لنظامٍ إقليمي مستدام منذ العام 2011، ظلَّ صنّاع السياسات في الاتحاد الأوروبي مُحاصَرين بافتراضاتٍ ثَبتَ أنها مُعيبة إلى حدٍّ كبير. وما لم يعيدوا النظر في هذه الافتراضات، فمن المرجح أن يكرروا الأخطاء عينها التي نشأت عنها اليوم.
- ألكسندر كلاركسون هو محاضر في الدراسات الأوروبية في كلية كينغز لندن. يستكشف بحثه التأثير الذي خلفته مجتمعات الشتات العابرة للحدود الوطنية على سياسات ألمانيا وأوروبا بعد العام 1945، فضلًا عن كيفية تأثير عسكرة نظام الحدود في الاتحاد الأوروبي على علاقاته مع الدول المجاورة.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.