محمّد قوّاص*
تراجَعَ السفير حسام زكي، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، عن تصريحاتٍ قال فيها إن “الجامعة لم تَعُد تُصَنِّف “”حزب الله” منظّمة إرهابية”، واعتبرَ أنَّ تلكَ التصريحات “فُسِّرَت في غيرِ سياقِها الصحيح”. قبلَ التراجُع، فُسِّرَ موقفُ زكي بأنّهُ نتاجُ تحوُّلٍ عربيٍّ شاملٍ لطَيِّ صفحةٍ وفَتحِ أُخرى مع الحزب. لكنَّ تراجُعَهُ السريع كشفَ أنَّ الأمرَ ليس كذلك، وأنَّ ما أثاره تصريحُهُ من ردودِ فعلٍ سلبية في لبنان، أثار أيضًا لدى الدول الأعضاء غضبًا استدعى مواقف استدراكية من قبل مقرّ الجامعة في القاهرة.
أعادَ السفيرُ زكي في بيانِ تراجُعِهِ في القاهرة توضيحَ ما كانَ كلامًا دقيقًا نُقِلَ عنه، على الأقل، في المقابلة التي أجرتها معه قناة “القاهرة الإخبارية”. وِفق التوضيح الاستدراكي، يُفهَمُ أنَّ الدول العربية مُجتمعةً لم تُغيِّر موقفها من ظاهرةِ الميليشيات ومن سلوك “حزب الله” وتدخّله في شؤونِ دولٍ عربية. واحتاجَ بيانُ التراجُعِ إلى بيانٍ آخر، يُصدره الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط، يضعُ نقاطًا على الحروف بشأنِ عملِ الجامعة وحدودِ صلاحياتها. فُهِمَ من بيان أبو الغيط التأكيد، من جديد، أنَّ الجامعة تُمثّلُ الدول العربية وتعملُ وفقَ قراراتها ولا يمكن للمؤسّسة، بهذا المعنى، ومهما كانت اجتهادات ممثليها، أن تُعَبِّرَ عن أيِّ تحوُّلٍ في سياقاتها السياسية والقانونية من دونِ الرجوعِ الدائم إلى أصحاب القرار الأصليين، أي الدول الأعضاء.
غيرَ أنَّ السفيرَ زكي ليسَ ديبلوماسيًا مُبتدِئًا، ويعرفُ تمامًا هذه الأصول وحساسياتها منذُ تأسيس الجامعة في العام 1945 إلى يومنا هذا. ولئن كُلِّفَ الرجل بمهمّةٍ مُعَيّنة في هذا الوقت الحرج، فإنهُ جاءَ يحملُ مضمونًا مهمًّا لم يَكُن يحتاجُ من أجلهِ إلى الشكلِ المُربَك الذي اضطرَّ لاحقًا إلى التراجُعِ عنه. فإنَّ “حزب الله” يلتقي بموفدين دوليين، وآخرهم وفدٌ ألماني ترأسه نائب مدير جهاز الاستخبارات الفيدرالية أولي ديال، فيما ألمانيا تُصنّف، منذ العام 2020، الحزبَ تنظيمًا إرهابيًا، ولم يكن مطلوبًا من مبعوث الجامعة إثارة هذا اللغط غير المطلوب.
وفيما يتوافدُ الموفَدون الدوليون –الغربيون خصوصًا– لنَقلِ رسائل التهويل والتحذير من إمكانيةِ شَنِّ إسرائيل حربًا واسعة قد تكون شاملة ضدّ لبنان، فإنَّ هؤلاء، وأبرزهم مستشار الرئيس الأميركي، آموس هوكستين، يتفاوضون مع “حزب الله” ويتبادلون معه الرسائل من خلال الواجهات الرسمية اللبنانية. غيرَ أنَّ السفيرَ زكي، إضافةً إلى ذلك، أرادَ، وفق سيناريو مهمّته، لقاءً مباشرًا مع الحزب لنقل رسالة “العرب” بالعجالة التي استدعت مهمّته.
لا تختلفُ الرسالةُ العربية في عجالتها عن رسائل جديّة حملتها شخصيات دولية كانت أخرها وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك التي زارت بيروت في 25 حزيران (يونيو)، بعد زيارة إسرائيل، للتحذير من نشوبِ حربٍ إقليمية في حال رفض الأطراف في إسرائيل ولبنان مساعي وقف إطلاق النار. وإذا كان الموفَدون الأجانب يتحدّثون مع الدولة لنقل الرسائل إلى الحزب، فإنَّ الدول العربية كلّفت جامعتها، وما تمثله من 22 دولة عربية، التحدُّث مع الحزب، لكن بهدفٍ آخر هو نقل رسالة المنطقة إلى إيران.
تَعرِفُ الدول العربية أنَّ الحزبَ خاضِعٌ، على الأقل في القضايا الإقليمية والاستراتيجية، لما يُمليهِ الحاكم في طهران بحُكمِ الولاءِ الذي يُجاهِرُ ويُفاخِرُ به. ويعرفُ أنَّ الحزبَ لا يملكُ قرارَ الحرب والسلم، وأنَّ مستوى تحرُّكِهِ العسكري يخضَعُ لسقفٍ تُقَرِّرهُ إيران. ولئن يستفيد السفير زكي من أجواءِ تَحَسُّنِ العلاقات الإيرانية-الخليجية، وخصوصًا منذُ إبرامِ اتفاقِ بكين مع المملكة العربية السعودية في 10 آذار (مارس) 2023، ومن أجواءِ مباحثاتٍ تجري مع مصر لتطبيعِ علاقاتِ البلدين، فإنَّ جامعة الدول العربية تُبَلِّغُ رسالةً إلى إيران، وإن بشكلٍ غير مباشر من خلال ذراعها اللبنانية، بشأنِ خطورةِ الموقف، وفق ما يملكه العرب من مُعطَيات، لعلّ ذلك يؤخَذُ في الحسبان في قراءةِ إيران مشهد الحرب المُحتملة وتقييمها علاقاتها المأمولة مع كل المنطقة العربية.
والأرجحُ، وهذا ما نتمنّاه، أن تكونَ في رسالة زكي والجامعة العربية مُعطياتٌ لافتة من شأنها أن تُضيفَ جديدًا نوعيًا على رسائل الخارج لطهران وحزبها. وإذا ارتأت المنطقة فتحَ صفحةٍ جديدة مع دولٍ مثل تركيا وسوريا، فإنَّ قرارات تطبيع علاقات بلدانها مع إيران لا تشمُلُ اعترافًا بميليشياتها التابعة، ولا قبولًا بسلوكها، ولا تواصُلًا رسميًا معها، إلّا إذا كانَ الأمرُ يحتاجُ إلى توصيلِ رسالةٍ توضَعُ في بيروت وتُفتَحُ في طهران.
كانت جامعة الدول العربية أعلنت في العام 2016 أنها صَنّفَت “حزب الله” “إرهابيًا” بعدَ قرارٍ مُماثلٍ من مجلس دول التعاون الخليجي لم يتغيّر. غيرَ أنَّ أدبياتَ الجامعة وبياناتَ قممها، لا سيما في جدّة والمنامة، تعدّلت في الشكلِ على النحوِ الذي يَتَّسِقُ مع تَحَسُّنِ علاقات المنطقة مع إيران. فإذا ما لاحظ السفير زكي بأنَّ الجامعة قد أسقطت التصنيف الإرهابي للحزب في بياناتها، فذلك لم يَكُن نتيجةَ قرارٍ صادرٍ عن الدول الأعضاء، كما يُذكّر الأمين العام للجامعة، وبالتالي فإنَّ الجامعة وموظفيها غير مُخَوَّلين بالاجتهاد بغيرِ ذلك. ولئن تخضعُ التصنيفاتُ لاعتباراتٍ سياسيةٍ مُتَحَوِّلة، فإنَّ التراجُعَ عن قراراتٍ سابقة لم يَحدُث، وإن حَدَثَ فيجبُ أن يخضعَ لاعتباراتٍ سياسيةٍ جديدة لم تَظهَر في أيِّ تَبَدُّلٍ في سلوك الحزب، إلّا ما يقتصرُ على التزامِ لغةٍ تريدها طهران فحسب.
الموقِفُ الجماعي للدول العربية ضروريٌّ للمساعدة على وحدةِ النظام العربي الرسمي والمساعدة على مُكافحةِ ظواهر الميليشيات ضدّ واقع الدولة وحتميتها. يحتاجُ لبنان، المُنقَسِم على ذاته، إلى موقفٍ عربيٍّ داعمٍ لدولتهِ ووحدتهِ ومساراتِ الإصلاحِ المُحتَملة لانتشاله. وإن كانَ من بُدٍّ لمَنحِ “الهدايا” في ظرفٍ سياسيٍّ مُعَيَّن، فليتها “لا تكون مجانية”، على حَدِّ تعبير رئيس الحكومة اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).