مُحارِبون أم رأسماليون؟

يزيد صايغ*

تُسيطر المؤسسة العسكرية الآن على محفظةٍ اقتصادية ضخمة، منذ أن تسلّم عبد الفتاح السيسي سدّة الرئاسة في العام 2014، كما شرحتُ بشكل مسهب في تقرير بعنوان “أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري”.

تدير المؤسسة العسكرية المصرية ربع إجمالي الأشغال العامة في مجالَي البنية التحتية والإسكان، وتبني مناطق صناعية ومراكز نقل، وتنتج السلع الرأسمالية والمركبات والسلع الاستهلاكية المُعمِّرة والمواد الغذائية، وتقوم بمبيعات التجزئة، وتمتلك شركات إعلامية وفنادق، وتتولّى استخراج الرخام والمعادن. كذلك، يسيطر ممثّلو المؤسسة العسكرية على استخدام أراضي الدولة واستيراد البضائع أو الخدمات الأجنبية من قبل الجهات الحكومية، ويسهمون في توجيه السياسات في قطاعات عدة، بما في ذلك التخطيط والتنمية المستدامة والصناعة التحويلية والاتصالات والتحوّل الرقمي والتنمية الريفية، ويديرون صناديق ومبادرات رئاسية. وتؤمّن هذه النشاطات فوائد اقتصادية كبيرة، إذ تُسهّل التبادلات التجارية المحلية والخارجية، وتوسّع سوق الإسكان والسوق العقارية، وتولّد فرصًا للاستثمار المحلي والأجنبي في المشاريع الصناعية والزراعية، وتوفّر سلعًا استهلاكية بأسعار معقولة.

لماذا يترتّب على مصر إذًا إعادة النظر في دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد؟ ثمة أسباب عدة لذلك، أستعرضها بالتفصيل في دراسة ستُنشر قريبًا بعنوان “الاحتفاظ بالقدرة أم إعادة الهيكلة أم التجريد؟ خيارات سياساتية للاقتصاد العسكري المصري”، وستصدر عن مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط.

أوّلًا، تزعم المؤسسة العسكرية بأنها تُسهم في خلق الفُرص للقطاع الخاص. إذا صحّ هذا، فعلى إدارة السيسي أن تعمل بالتوازي على تمكين الهيئات الحكومية المدنية من استئناف هذا الدور بشكلٍ كامل، بهدف إعفاء المؤسسة العسكرية من هذه المهمة في نهاية المطاف. واقع الحال أن الهيئات المدنية، العامة والخاصة على حدٍّ سواء، لا تزال توفّر النصيب الأكبر من السلع والخدمات العامة، ومن الإنتاج الإجمالي في جميع قطاعات الاقتصاد المصري. من الضروري قلب الاتجاه الحالي نحو زيادة الدور العسكري: ففي تشرين الأول/أكتوبر 2016، أعلن رئيس الوزراء آنذاك شريف إسماعيل، أن دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد سيتقلّص خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن، حدث العكس، حتى إن جهاز المخابرات العامة وبعض الهيئات التابعة لوزارة الداخلية أطلقت مشاريع تجارية إضافية خاصة بها. وتكمن المفارقة في أن المبادرات الرئاسية والحكومية لتحديث تسجيل الأراضي والعقارات، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتوسيع سوق الرهن العقاري للإسكان، تُظهر جميعها أن إزالة القيود المفروضة على النمو يُقلّل من الحاجة إلى استخدام المؤسسة العسكرية كرأس حربة في جهود التنمية أو في تطوير القطاعات الاقتصادية للاستثمار الخاص.

ثانيًا، تُعتَبَرُ المنفعة الاقتصادية الفعلية للأشغال العامة التي تؤدّيها المؤسسة العسكرية، وفعالية تكلفة التصنيع التحويلي والأعمال التجارية التي تقوم بها، ومساهمتها في إيرادات الدولة، كلّها موضع تساؤل. كذلك، إنّ واقع تذرّع المؤسسة العسكرية بالأمن القومي كمبرّر لإبقاء التفاصيل المالية لأنشطتها المدنية طي الكتمان يُثيرُ شكوكًا كبيرة في بلد له تاريخ طويل في إخفاء الخسائر والديون المعدومة في الشركات المملوكة للدولة. وقد أوصى صندوق النقد الدولي في كانون الأول/ديسمبر 2020 الدولة المصرية بـ”مواصلة التركيز على زيادة الشفافية في المؤسسات المملوكة للدولة، وضمان تكافؤ الفرص أمام كل الأطراف الاقتصادية، وإزالة العقبات البيروقراطية أمام تنمية القطاع الخاص”. وما من سبب يدعو إلى عدم إدراج الأنشطة المدنية للمؤسسة العسكرية في إطار هذه الإصلاحات.

ثالثًا، يمكن تقييم الحجج التي تبرّر التوسع الهائل للاقتصاد العسكري، من خلال ما إذا كان يُسهِمُ أم لا في التخفيف من عجز مصر الدائم عن توليد مدّخرات محلية وتحقيق فائض في رأس المال المحلي. ولا يزال عدم إحراز تقدّمٍ في زيادة حجم الصادرات إلى مستوى كافٍ، وتنويعها يُمثّل مشكلة في هذا السياق. فقد كان الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته مصر منذ العام 2017 مدفوعًا بمنتجات وأنشطة غير قابلة للتصدير، ويشمل ذلك قطاعات البناء والعقارات والصناعات الضخمة المُغذّية لها (مثل الإسمنت والحديد والصلب والألمنيوم والطوب والزجاج)، والتي تستثمر فيها المؤسسة العسكرية بكثافة. لم ينجح هذا النوع من النمو المُضارِب في معالجة مشكلة ميزان المدفوعات المُزمنة في البلاد، أو في تحسين الميزان التجاري، الذي تراجع بالفعل منذ العام 2016، حين وعدت الحكومة المصرية باتّخاذ مجموعةٍ كبيرة من الإجراءات المالية كجُزءٍ من اتفاقية قرض بقيمة 12 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي.

يعني نقص رأس المال أن خيارات السيسي بشأن أولويات الاستثمار، ووتيرة التسليم المُتسارعة التي يطلبها، حتّمتا علي الدولة المصرية اللجوء إلى الاقتراض المحلّي بشكلٍ ضخم لتمويل مشاريعها العملاقة، ما يزيد من تقليص سوق الائتمان للقطاع الخاص الذي لا يزال في “حالة من الغيبوبة العميقة”، على حدّ تعبير الخبير الاقتصادي إسحاق ديوان. في غضون ذلك، تتجلّى التوترات الناجمة عن استراتيجية إدارة السيسي للاستثمار الذي تقوده الدولة في أكبر مشروع تديره المؤسسة العسكرية، وهو بناء عاصمة إدارية جديدة بكلفة 25 مليار دولار للمرحلة الأولى. وتعتمد الشركة التي تسيطر عليها المؤسسة العسكرية والتي تم إنشاؤها لإدارة المشروع، على المطوّرين العقاريين المدنيين لجذب الزبائن، وتستخدم مدفعوعاتهم الأولية (المقدّم) لتمويل البدء بالإنشاءات الفعلية. ومع ذلك، ستحصل هذه الشركة على عائدات المبيعات المستقبلية، بدلًا من الخزينة العامة للدولة، وستسيطر على أصول يُتوقع أن تبلغ قيمتها بين 3 إلى 4 تريليونات جنيه مصري (أي ما يعادل 191 مليار دولار و 255 مليار دولار على التولي).

هنا تكمن الحجّة الأساسية لتغيير المسار الاقتصادي: فاستراتيجية الاستثمار الرأسمالي المُكثّف التي تنتهجها إدارة السيسي جعلت الحكومة تعتمد بشكل متزايد على تدفقات العملة الأجنبية، التي تجتذبها من خلال تقديم أسعار فائدة أعلى من أي وقت مضى، مقرونةً بسعر صرف مربوط للعملة الوطنية، واقتراض العملة الأجنبية في حدّ ذاتها كأصل. هذا النوع من “الهندسة المالية” هو تحديدًا ما دفع لبنان نحو الانهيار المالي في العام 2019، كما شرح بدقة الخبير في العلوم السياسية روبرت سبرينغبورغ. تمتلك مصر الوسائل اللازمة لإدارة ديونها المتراكمة، التي تعادل تقريبًا إجمالي ناتجها المحلي، طالما يواصل شركاؤها الخارجيون في الغرب والخليج ضخّ أموال جديدة. لكنها ستبقى عرضة للتأثّر بالظروف الخارجية التي تؤثّر بدورها في السيولة، مثل رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات العالمية الرائدة. إذًا، ينبغي أن يفرض خطر “اللبننة” الذي يلوح في الأفق عمليةَ إعادة توجيه اقتصادية في مصر، وإذا حدث ذلك، فقد يتم كبح جماح الاقتصاد العسكري، لأنه جزءٌ من استراتيجية اقتصادية لا بدّ من إلغائها بأكملها.

Exit mobile version