الحكومةُ اللبنانية أمام تحدِّيَين!

بقلم سليم مهنّا*

يدور النقاش اليوم في لبنان حول الخطة الإقتصادية التي أقرتها حكومة حسّان دياب أخيراً، والتي يُنظَر إليها كخطة إصلاحية وربما إنقاذية، وفرصة للنهوض من الكبوة المالية والإقتصادية التي تركت آثارها على حياة اللبنانيين، وأوصلتهم إلى ما لا قدرة لهم على تحمّله.

خِططٌ ووعودٌ كثيرة أُقِرَّت لكنها بقيت حبراً على ورق، فلا الإقتصاد انتعش، ولا غلاء المعيشة توقّف، ولا البطالة تقلّصت، والمواطن يغرق يوماً بعد يوم.

من المُهم قبل الحديث عن الخطة أن نُشيرَ إلى أثر السياسات النقدية والمالية والاقتصادية في نجاحها أو فشلها، إذ لا بدّ للسياسات الثلاث ان تتقاطع وتتكامل لتحقيق رؤية اقتصادية شاملة بالتنسيق في ما بينها، من دون الخلط بين كلٍّ منها، فلكل سياسة دورها وأهميتها وأدواتها.

تُعتبَر السّياسة النقديّة إحدى مهام المصرف المركزي الأساسية بحسب قانون النقد والتسليف، ومهامُها توفير السيولة وإدارة العملة والتأثير في سعر صرفها وحمايتها من المُضاربة. بينما تُعنى السّياسة الماليّة بإدارة إيرادات ونفقات الدولة وتأمين ​التوازن بينهما، حيث تقوم وزارة المالية في حالة العجز بإقرار ضرائب ورسومٍ إضافية لسدّ الفجوة أو التوجّه نحو الأسواق للإستدانة عبر سندات الخزينة.

أما السّياسة الإقتصاديّة فهي تُعنى بالتوجّهات الإقتصادية للحكومة ورؤيتها لدور قطاعات الإنتاج الأساسية ومستقبلها، وتحديد إتجاهات الإنفاق الإستثماري وحجمه، وخلق مناخات الإستثمار المناسبة، وتطوير البنى التحتية، ودعم الإنتاج المحلي وتحفيزه، وحماية المُنتجين وتمكينهم في مواجهة المنافسة الأجنبية والسعي إلى فتح الأسواق الخارجية أمامهم، والعمل على الإستفادة القصوى من الموارد البشرية والطبيعية في إطار السعي لإزدهار البلد ونموه ورفاهية أبنائه.

سنواتٌ طويلة من ضعف التنسيق وغياب الرؤية الإقتصادية المُشترَكة وسوء الإدارة أدّت إلى مشاكل مالية كبيرة وانكماشٍ إقتصادي خطير، وانخفاضٍ في قيمة الليرة، وتراجعٍ في حجم السيولة، أوصلت لاحقاً إلى إعلان تخلف لبنان عن سداد ديونه.

لقد تركّز دور المركزي حتى تاريخٍ قريب على تثبيت سعر صرف الليرة عند مستوى أعلى من سعره الحقيقي، من دون مراعاة التكلفة المالية الباهظة لهذا القرار، فضلاً عن انعكاساته الإقتصادية السلبية على قطاعات الإنتاج، فيما جرى التعامل مع القطاع المصرفي على أنه القطاع المُنتج الوحيد، وأن استقطاب الاموال الأجنبيّة ولو بفوائد عالية هو الحلّ الأمثل لتمويل الدورة الإقتصادية والحفاظ على سعر الصرف “الوهمي”.

كذلك أسهَم تثبيت سعر الصرف بزيادة القدرة الشرائية للمُقيمين مما فاقم الخلل في الميزان التجاري وسمح بإغراق الأسواق بالمنتجات الأجنبية وضرب الإنتاج المحلي، وعمل على تعميم ثقافة الإستهلاك والمداخيل الريعية، وزيادة الإتكال على العمالة الوافدة، وتسبّب بتدني أعداد السياح وتراجع السياحة الداخلية، وسمح بارتفاع هائل في أعداد رحلات اللبنانيين لأجل السياحة والإستجمام في الخارج لا سيما إلى تركيا ومصر. كل ذلك أدّى إلى استنزاف إحتياط البنك المركزي من العملات الأجنبية وزيادة محفظة الدين العام من العملة الصعبة.

وبالعودة الى الخطة الإقتصادية المُقترَحة، فقد أشار رئيس الحكومة، الدكتور حسّان دياب، إلى أنها تنطلق من ضرورة البدء فوراً بتنفيذ الإصلاحات، واعتماد الدعم المباشر وغير المباشر للفئات غير المَيسورة وتنفيذ برامج اجتماعية في هذا المجال.

وأضاف: “تهدف الخطة إلى العودة للفائض الأولي في المالية العامة في العام 2024، وهيكلة محفظة الدين السيادي وتقليص نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي إلى ما دون 100%. كما تهدف إلى إعادة هيكلة القطاعين المصرفي والمالي للسماح للإقتصاد بإعادة الإنطلاق وتوفير فرص عمل جيدة ومُستدامة، وإطلاق قطاعات إقتصادية واعدة جداً تتماشى مع قدرات اللبنانيين العالية”.

وأوضح دياب أن الخطة بُنيت على أُسسٍ تسمح للبنان بالحصول على الدعم الدولي المطلوب لجهة إعادة إطلاق العجلة الإقتصادية، وإعادة رسملة المصارف والمؤسسات، وتأمين شبكات الأمان الضرورية والبُنى التحتية. مضيفاً: “في المالية العامة، سوف نقوم بالإصلاحات الأساسية، مثل قطاع الكهرباء ونظام نهاية الخدمة وتعويض الصرف والضرائب العادلة والتصاعدية التي لا تصيب العمل والإنتاج”.

تبدو الخطة واعدة ومدروسة بعناية، وقد أشارت إلى المشاكل الحقيقية وأكّدت أنها في صدد مُعالجتها. ولكن ما هي النقاط التي غابت عنها أو التي تمَّ التلميح إليها من دون تحديد طرائق معالجتها؟

ورغم تلك الثغرات التي ينبغي العودة لدراستها والتوافق على رؤية واضحة بشأنها، فإن وجود الخطة بحدّ ذاته ووجود حكومة واعدة تسعى بجدية إلى تطبيقها، يبعث الأمل في إمكانية إنقاذ الوضع وتفادي الإنزلاق أكثر.

الأسئلة المطروحة اليوم كثيرة أهمها: مَن يتحمّل المسؤولية ويُمكنه فعلاً إيجاد الحلول المُناسِبة؟ وهل الحكومة قادرة على تنفيذ خطتها الإنقاذية وإخراج البلد من أزماته المُستفحلة وما هي العراقيل أمامها؟ يبدو أن الحكومة ستكون أمام تحدِّيَين: تحدّي مواجهة المشاكل المالية والإقتصادية ومحاربة الفقر والفساد وإقناع المانحين بمساعدتها، وتحدٍّ أصعب يتمثّل بمواجهة أولئك الذين تسبّبوا بتلك المشاكل!

إن كل مَن يعتقد ان الحلّ سيأتي باعتماد الأساليب السابقة ذاتها والنظام الإقتصادي الريعي السابق عينه هو واهمٌ بلا شك، وعلى الجميع الإعتراف أن النموذج السياسي والإقتصادي الحالي قد فشل وآن أوان تغييره.

إن مسؤولية احترام القانون وبناء الوطن وحمايته تقع على عاتق جميع الأطراف، وخصوصاً الدولة بمؤسساتها الحكومية المختلفة، والمجتمع المدني، والأفراد الذين بهم يُمكن النهوض وإيجاد الحلول لتطور البلاد وتقدّمها.

Exit mobile version