الأُمَمُ المُتَّحِدة في عيدِها الثمانين

الكتور ناصيف حتّي*

في الرابع والعشرين من هذا الشهر، أطفأت منظمة الأمم المتحدة شمعتها الثمانين. ثمانون عامًا مرّت منذ أن وُلِدَت الفكرة من رمادِ حربٍ عالمية مدمّرة، جمعت حينها 51 دولة تحت راية الأمل ببناءِ نظامٍ دوليٍّ أكثر استقرارًا وعدلًا. واليوم، بعد ثمانية عقود، تضاعَفَ العدد ليبلغ 193 دولة، تَغيّرَ معها وَجهُ العالم كما تغيّرَ وَجهُ المنظمة نفسها.

خلال هذا الزمن الطويل، تمدّدت اهتمامات الأمم المتحدة وتشعّبت أدوارها، تماشيًا مع التحوّلات الجذرية التي شهدها النظام الدولي على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومع موجاتِ العَولَمة المتلاحقة، دخلت البشرية في دوّامةٍ من الترابُط والتأثير المُتبادَل، جلبت معها ثمارًا يانعة في بعض الجوانب، وأعباءً ثقيلة في جوانب أخرى.

وفي هذه “القرية الكونية” التي نتقاسمها جميعًا —أو ربما “المدينة الكونية” كما يفضّل آخرون تسميتها— تتجلّى المفارقة بين سكينة القرية وضجيج المدينة؛ بين طموح الإنسانية إلى الوحدة، وصخب الواقع المليء بالتناقضات.

يمكن اختصار مهام منظمة الأمم المتحدة في ثُلاثيةٍ مُترابطة العناصر: السلام، والأمن، والتنمية. إنها أضلاعُ مثلثٍ واحد، تترابط وتتداخل وتتكامل بأشكالٍ مختلفة ومتغيّرة. ومع مرور الوقت، ازداد هذا التشابك عمقًا وتعقيدًا، حتى باتت المنظمة اليوم تواجه تحدّي الموازنة بين هذه المهام في عالمٍ يتغيّرُ أسرع من قدرتها على التكيّف.

لكنَّ الأمم المتحدة نفسها تعيشُ أزمةً ثُلاثية الأبعاد. أوّلها أزمة ثقة بدورها، إذ تراجعت مكانتها في نظر كثيرين من شعوب العالم التي كانت تراها يومًا صوت العدالة والأمل. وثانيها أزمة إمكانات، فمواردها تتناقص بينما تتضاعف التحديات أمامها، من الحروب والنزاعات إلى تغيّر المناخ والكوارث الإنسانية. أمّا ثالثها، فهي أزمة رؤية: كيف يُنظَرُ اليوم إلى دور المنظمة في نظامٍ دولي تمزّقه المصالح الضيّقة وسياسات القوة؟

هذه الأزمة الأخيرة تتجلّى بوضوح في صعود نزعات الأحادية الحادّة، حيث تتراجع قيمة التعاون الدولي لصالح منطق “الدولة أولًا”. أبرزُ مثالٍ على ذلك كان في سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لم يتردّد في التقليل من شأن التعددية الدولية، بل وفي التشكيك في جدوى المؤسّسات التي قامت أصلًا لحفظ السلم العالمي وتعزيز التعاون بين الأمم.

الأمين العام للأُمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أطلقَ في آذار (مارس) الماضي ما أسماه بمساراتِ عملٍ ثلاثة لإصلاح المنظمة الدولية: أوّلها تحسين الكفاءة والأداء والتخلُّص من البيروقراطية؛ وثانيها إعادةُ تحديدِ ما يُعرَفُ بالتفويضات أو المهام المُعطاة من الدول للمنظّمة التي تُحمّلُ الأخيرة اعباءً عديدة تشلُّ أو تُضعِفُ دورها، ويكونُ ذلك من خلالِ تخفيضِ أو إعادةِ تعريفِ هذه المهام بُغيةَ دَمجِ بعضها. المسارُ الثالث يتعلّقُ بضرورةِ الإصلاح الهيكلي الشامل للمنظمة، التي تُعاني، ضمنَ ما تُعاني منه، ازدياد العجز المالي الذي يؤثّرُ بشكلٍ كبير في فعاليتها وفي إمكانية الإنجاز في مهامها المتزايدة، وكذلك  في مصداقيتها .

المطلوبُ إطلاقُ ورشة إصلاح مُتعدّدة الأوجه والأبعاد حتى يتمّ إنقاذ المنظمة الدولية من تهميش وإضعاف دورها ومهامها المتزايدة. يستدعي ذلك، في ظلِّ المقترحات العديدة التي صدرت في تقارير وإعلانات، إطلاقُ مسارٍ إصلاحي شامل يؤدّي أوّلًا إلى وقف المزيد من التهميش لدور المنظمة الدولية من خلالِ معالجةٍ واقعية لمصادر ومسبّبات هذا التهميش والتراجُع في الدور الفعلي والفعّال للمنظمة الدولية. التعاوُنُ الدولي أمرٌ أكثر من ضروري ولمصلحة الجميع من دولٍ ومجتمعات ولو أنَّ لكلِّ طرفٍ مصلحة في قضيةٍ مُعَيَّنة أكثر منها في قضية اخرى. التعاون الدولي لا يُمكِنُ التعامل معه بشكلٍ انتقائي أو موسمي حسب كلِّ قضية ولو اختلفت الأولويات بين الدول، وهو أمرٌ أكثر من طبيعي، بل من خلال مقاربةٍ تقومُ على تعزيزِ أُسُس التعاون الدولي المتعدد الأطراف مع ازدياد التحديات والمخاطر الدولية التي تستدعي ذلك التعاون .

من بين المهام الأكثر إلحاحًا في مسار إصلاح الأمم المتحدة، يبرز إصلاح مجلس الأمن الدولي بوصفه السلطة العليا وصانع القرار الأهم في المنظومة الأممية. فمنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، انطلقت نقاشات ومقترحات واسعة حول ضرورة إعادة هيكلة هذا المجلس، بحيث يعكس بصورة أصدق موازين القوى الجديدة في النظام الدولي، بعد أن تغيّر العالم جذريًا منذ لحظة تأسيس المنظمة في العام 1945.

لقد طالبت دول كثيرة، تمتلك وزنًا سياسيًا واقتصاديًا وعلميًا متزايدًا، بأن تكون جُزءًا من العضوية الدائمة، انطلاقًا من دورها الفاعل في محيطها الإقليمي وفي الساحة العالمية على حدّ سواء. فمقاييس القوة لم تعد تقتصر على ما يُسمّى بـ”القوة الخشنة” المتمثّلة في السلاح والجيش، بل امتدّت لتشمل عناصر “القوة الناعمة” مثل الاقتصاد المزدهر، والتفوّق التكنولوجي، والتقدّم العلمي، والتأثير الثقافي والإعلامي.

ومن بين الأفكار المطروحة أيضًا، تعزيز التمثيل الجغرافي داخل المجلس بحيث تتوزّع العضوية الدائمة على مختلف القارات، بما يعكس تنوّع النظام الدولي وتعدّد مراكزه. فالعالم لم يعد يُدار من بضعة عواصم كما كان في منتصف القرن الماضي.

وفي سياق الإصلاح ذاته، يتكرّر النقاش حول إعادة النظر في آلية استخدام حق النقض (الفيتو). فالغاية ليست إلغاؤه — إذ يدرك الجميع أن ذلك شبه مستحيل — بل الحدّ من استخدامه العشوائي الذي كثيرًا ما عطّل قرارات مصيرية تتعلّق بالسلم والأمن الدوليين. تقييد الفيتو أو ضبط معاييره قد يمنح مجلس الأمن قدرًا أكبر من المصداقية والفاعلية، ويعيد إلى الأمم المتحدة بعضًا من هيبتها المفقودة في مواجهة أزماتٍ متفاقمة وحروبٍ لا تجد طريقها إلى الحل.

كلُّها أمورٌ على الطاولة، وهي أسيرةٌ لصراعات القوى مما لا يُسهّلُ عملية حسمها، ولكن وجودها يعكسُ الاهتمام بتطوير المنظمة الدولية، التي هي حاجة وضرورة دولية لمصلحة قيام نظام دولي جديد أكثر استقرارًا ونموًّا وعدالةً وبالتالي ازدهارًا، الأمرُ الذي هو لمصلحة الجميع.

Exit mobile version