هنري زغيب*
وسْط ما يمرُّ به لبنانُ اليوم من نفْضِ أَوضاعه الداخلية والخارجية على كل صعيد، كانت تلزمنا ذاكرةٌ للعلاقات الخارجية التي نسَجَها لبنان، كي تكونَ الذاكرةُ هدايةً تُضيْءُ مسيرته. وإِذا بهذا النور يأْتينا، في وقته تمامًا، مع صدور كتابٍ بالفرنسية، قبل أَيام، للباحث الأَكاديمي المحامي الدكتور هيام جورج ملَّاط: “علاقات لبنان الخارجية-جذورُها، ثوابتُها، أَهدافُها” (منشورات هاشيت/أَنطوان – 248 صفحة قطعًا وسَطًا) في خمسة فصول وأَربعة ملاحقَ لوثائق أَصلية بنُصوصها الحَرفية.
تتصدَّر الكتابَ مقولةٌ للسفير الفرنسي جول كامبُون (1845-1935): “للدبلوماسية دائمًا سُفَراؤُها وَوُزَراؤُها. ولكنْ: هل لها دائمًا دبلوماسيون”؟ بهذا المنطق عالج هيام ملَّاط علاقات لبنان الخارجية، منذ 1516 حتى اليوم، بطريقة منهجية موثَّقة. تلك العلاقات، حتى قبل أَن تولَدَ لِلُبنان سنة 1943 وزارةُ خارجية مع الاستقلال، جعلَت للبنان سياسة خارجية متينة احتذت نماذج أَزهى العصور في التاريخ. ويرى المؤَلف أَن علاقات المجتمع اللبناني مع القوى الخارجية كانت ثابتةً منذ 1516، أَي عامَ السلطانُ سليم بسَطَ على المنطقة هيمنةً عثمانيةً تناسلَت حتى 1918. هذا الثباتُ في تَشَكُّلِ المجتمع اللبناني إِبَّان نظام الإِمارة في لبنان، بين 1516 و1842، وطَّدَهُ 17 أَميرًا (ثمانية معنيين وتسعة شهابيين). وهو ما عبَّر عنه سنة 1840 المستشرق الكونت جول دو بيرتو (موفدًا من وزير خارجية فرنسا فرنسْوَى غِيزو): “جبل لبنان قلعةٌ لا تُختَرَق. لها تأْثير على كلِّ محيطها كما تأْثيرُ باريس على كلِّ فرنسا”.
بعد حقبة 1918 عالجَ المؤَلِّف فترة الانتداب (1920-1943)، وما نجَمَ عن الاتفاق السري في القاهرة (16 آذار/مارس 1916) بين قنصل فرنسا السابق في لبنان فرنْسْوَى جورج بيكو، وممثل بريطانيا ماركس سايكس، وممثل روسيا سيرغي سازونوف (وقَّعوه في سانت بيترسبورغ صباحَ 11 أَيار/مايو 1916) وهو ما عُرف بـ”معاهدة سايكس – بيكو”.
مع الاستقلال يتوسَّع المؤَلِّف في نسْج علاقات لبنان الخارجية، إِذ تزامَنَ استقلاله مع ولادة جامعة الدول العربية ومنظمة الأُمم المتحدة توازيًا مع تشكيل جسم دبلوماسي لبناني يواكبُ الاستقلالَ (محليًّا) وتَينَكَ المنظمَتَين (عربيًّا ودُوليًّا). وفي 20 أَيار/مايو 1944 أَطلق لبنان أَولَ بعثتَين دبلوماسيَّتَيْن إِلى الخارج: أَحمد الداعوق في باريس، وكميل شمعون في لندن.
في 23 أَيلول/سبتمبر 1944 رافق وزيرُ الخارجية سليم تقلا رئيسَ الحكومة رياض الصلح إِلى الإِسكندرية لتمثيل لبنان في تحضير “مؤْتمر الوحدة العربية”. وعقب وفاة تقلا بِنَوبة قلبية حادة، خلفَه هنري فرعون وأَعلن فور تَسَلُّمه الحقيبة (15 كانون الثاني/يناير 1945) أَنَّ “سياسة لبنان الخارجية، أَيًّا تكُن الحكومات المتعاقبة، لن تتغيَّر، بعدما تشكَّلَت علاقته الوثقى مع الدُوَل العربية الشقيقة”. وإِذ قررَت الحكومة في 11 شباط/فبراير 1945 أَن يسافر فرعون إِلى القاهرة على رأْس بعثة دبلوماسية لبنانية للمشاركة في مؤْتمر القمَّة العربية (14 آذار/مارس)، أَعلَن رئيس المجلس النيابي عبدالحميد كرامي في 13 شباط أَنَّ “هنري فرعون يمثِّل لبنان دبلوماسيًّا في المطالبة باستقلال لبنان في حدوده الحالية”. وهكذا كان: في 22 آذار/مارس 1945 تَمَّ الاتفاق على النص التأْسيسي لِـ”ميثاق جامعة الدول العربية” بتواقيع سبع دول: لبنان، سوريا، مصر، العراق، الأُردن، السعودية، اليمن. وكان لبنان حاضرًا تأْسيسَ “منظمة الأُمم المتحدة” ومُوَقِّعًا على نظامها بتعيين شارل مالك في 26 آذار/مارس 1945 وزيرًا للخارجية. وبصفته التأْسيسية هذه، انضمَّ لبنان في 1 نيسان/أَبريل 1947 إِلى “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” و”منظمة الطيران المدني”، وانضمَّ في 27 حزيران/يونيو 1948 إِلى “اتفاق جنيف الدولي للجمارك”، وفي 21 أَيلول/سبتمبر 1951 إِلى “منظمة الصحة العالَمية”.
ودِدْتُني، لو يتيح المجال، أُكملُ بعدُ في هذا الشريط الدبلوماسي الممتع كما نسَجَه هيام ملاط، وأَثْبَتَهُ مزَوَّدًا بالوثائق الأَصلية، لانفتاح لبنان على علاقاتٍ خارجيةٍ هي التي تدعمُ اليومَ قضاياه الصعبة في هذه المرحلة الصعبة من تاريخه الحديث.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).
