حينَ يَنهَزِمُ الفكرُ تنتصرُ الحروبُ العَبَثيّة: مأساةُ بوتين وروسيا

كابي طبراني*

يُنظَرُ إلى غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا غالبًا على أنه فعلُ رجلٍ فَقَدَ صوابه، أو حاكِمٌ مَدفوعٌ بجنون العظمة أو بجرحِ الكرامة الوطنية. غير أنَّ هذا التفسير، على بساطته، يُخفي وراءه حقيقةً أعمق وأخطر. فحربُ بوتين ليست مجرّدَ خطَإٍ جيوسياسي أو جريمة أخلاقية، بل هي قبل كل شيء كارثة فكرية  إنهيارٌ في الفكرِ والخيالِ واللغة بلغَ من العُمقِ ما جَعَلَ أُمّةً بأكملها تنحدرُ إلى الهاوية.

إنَّ عدوانَ روسيا لم يبدأ في العام 2022، ولا حتى في العام 2014. بل هو عادةٌ قديمة، أو بالأحرى عادةٌ ذهنية راسخة في تاريخ السلطة الروسية. فغزو الجيران ليس حدثًا استثنائيًا في السلوك الروسي، بل تقليدٌ مُتَوارَث، يكادُ يكونُ بديهية سياسية لدى حكّامها. من القياصرة إلى القادة السوفيات، كانت روسيا كُلّما عجزت عن بناءِ دولةٍ مُستقرّة وقادرة على تجديد نفسها من الداخل، لجأت إلى العنف والتوسُّعِ في الخارج. فحين يَضعفُ الكيانُ الروسي في الداخل، يُحاولُ أن يُثبتَ وجوده بالهجوم على الخارج. هذا النمطُ تكرّرَ على مدى قرون، من غزواتِ القيصر نيقولا الأول لبولندا والمجر في القرن التاسع عشر، إلى دبابات نيكيتا خروتشوف في بودابست في العام 1956، ثم ليونيد بريجنيف في براغ في العام 1968، وصولًا إلى حرب بوتين في أوكرانيا اليوم.

غير أنَّ ما يُميِّزُ بوتين عن أسلافه ليس السلوك، بل غياب الفكرة التي تُبرّره. نيقولا الأول كان يملكُ خطابًا دينيًا ملكيًا يرى نفسه حاميًا للإيمان الأرثوذكسي ضد “فوضى” الثورات الأوروبية. أما جوزيف ستالين وخروتشوف وبريجنيف فاستندوا إلى الماركسيةـاللينينية، وهي إيديولوجيا شمولية لكنها عالمية الطموح، تَعِدُ بالتقدّمِ والتحرُّرِ الإنساني، ولو زيفًا. تلك العقائد —على انحرافها— منحت أصحابها شعورًا بالرسالة التاريخية، وبذلك قدرًا من الوضوح في الرؤية والغاية.

أما بوتين، فلا يملك شيئًا من ذلك. لغته خليطٌ من بقايا: حنينٌ إمبراطوري، غلالةٌ من الأرثوذكسية الدينية، كراهيةٌ للغرب، ونزعةٌ قوميّة مُتشنِّجة. يتحدث عن “رُوسيافوبيا” (كراهية روسيا) و”النازيين الجدد في كييف” و”الدفاع عن الحضارة الروسية من الانحلال الغربي”، لكنها ليست أفكارًا مُتماسكة، بل شعارات مشوّشة. لا تفسّر شيئًا ولا تُقنِعُ أحدًا. إنها إيديولوجيا الفراغ، تجعل من الوطنية الروسية نزعةً ضيّقة وصوتًا غاضبًا بلا عُمقٍ ولا أُفُق.

في حين رأى نيقولا الأول نفسه “شرطي أوروبا” يحمي النظام الإلهي من فوضى الثورة، لا يرى بوتين إلّا نفسه ضحّية مؤامرة غامضة. وحيث رفع القادة السوفيات راية الاشتراكية العالمية، لا يرفع بوتين سوى راية المظلومية. إنَّ قوميته ليست عظَمة إمبراطورية، بل شعورٌ بالمهانة. إنها استياءٌ متنكّرٌ في هيئة فلسفة، كما قال المؤرخ الأميركي ستيفن كوتكين.

هذا الفقر الفكري ليست له تبعات نظرية فقط، بل عملية أيضًا. فحين تغيب الفكرة، يغيبُ وضوح الهدف. لقد غزا بوتين أوكرانيا لا بدافعِ الضرورة الاستراتيجية، بل استجابةً لخيالٍ مهووس بالماضي، ساعيًا إلى إعادة تمثيل مسرحيات القرن التاسع عشر القديمة، حيث يواجه الاستبداد الروسي الثورات الأوروبية. كانت “ثورة الميدان” في العام 2014 في كييف كل ما يخشاه: انتفاضةٌ ليبرالية ناجحة، معتدلة، واقعية، تُذكّرُ بثورات 1848، لكن من دون فوضاها. كانت نموذجًا لأمةٍ تستطيعُ أن تبني دولةً ديموقراطية حديثة من داخل تراثها، وهذا ما جعله يراها خطرًا وجوديًا.

فوجود أوكرانيا حرّة وديموقراطية يعني أنَّ الشعبَ الروسي، الذي يشاركها اللغة والتاريخ والدين، قادرٌ أيضًا على الاختيار نفسه. وهذا ما لا يحتمله بوتين. لم يكن الخطر على روسيا حدوديًا أو عسكريًا، بل فكريًا وأخلاقيًا. لذلك ردَّ كما فعل أسلافه القياصرة: بحربٍ “دفاعية”-هجومية، تهدفُ إلى منع العدوى الفكرية من عبور الحدود.

غير أنَّ الفرق بين بوتين وأسلافه أنَّ أولئك كانت لهم عقائد تُبرّرُ الغزو باسم “الحق الإلهي” أو “الرسالة العالمية”، أما بوتين فليس لديه سوى منطق المؤامرة. يتحدّث عن “كراهية العالم لروسيا” وكأنها غريزةٌ شريرة لا تفسيرَ لها. لا يملك خطابًا عن المستقبل، بل هوسًا بالماضي. حين يستدعي الأرثوذكسية، يفعلُ ذلك بوصفها زينة رمزية لا روحَ فيها. وحين يستدعي التاريخ، يختاره كخزّانِ مظالم لا كمنبعِ إلهام. إنَّ وطنيته ليست رسالة للعالم، بل عُزلة عن العالم.

ومن هنا تأتي خطورة فكره، أو بالأحرى انعدامه. فبوتين لا يُحاربُ من أجلِ مستقبلٍ ما، بل ضدّ الحاضر والمستقبل معًا. إنه سجينُ أسطورة الإمبراطورية، يظنُّ أنه ببعثها من رمادها سيُنقذ الدولة الروسية من الانهيار، لكنه في الواقع يُعجّل بانهيارها. روسيا التي يتشدّق بحمايتها —روسيا العظيمة والمستقلة— هي نفسها التي يُدمّرها: دولةٌ أضعف، واقتصادٌ أفقر، ومجتمعٌ أكثر خوفًا، وعُزلةٌ دولية غير مسبوقة. لقد تحوّلَ فشله الفكري إلى فشلٍ وطنيٍّ شامل.

على مدى قرون، عاش القادة الروس في خوفٍ من أن تؤدّي رياحُ الحرية إلى انهيار دولتهم، فاختاروا القمعَ سبيلًا إلى “الاستقرار”. انهارت الدولة فعلًا مرّتَين في القرن العشرين، ومع ذلك بقي الدرس نفسه: كلّما اهتزّ النظام، زاد القمع. وبوتين هو الوريث الأشدّ تطرُّفًا لتلك المعادلة. فبسعيه إلى سحق الحرية خارج روسيا، قضى على ما تبقّى منها في الداخل. وبخلطه بين القسوة والاستقرار، أعاد بلاده إلى حافة الانهيار الذي كان يخشاه.

قد يقولُ أنصار “الواقعية السياسية” إنَّ ما جرى في أوكرانيا ليس سوى ردٍّ على توسُّع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا. لكن هذا التفسير يغفلُ لُبَّ المسألة. ف”الناتو” ليس جيش نابليون، ولا مشروعَ غزوٍ لروسيا. إنه، في جوهره، تحالفٌ بين جمهورياتٍ ليبرالية تُدافعُ عن النظام الذي وُلد من ثورات الحرية الأوروبية التي أرعبت القياصرة يومًا. ما يخشاه بوتين ليس الدبابات الغربية، بل عدوى الفكرة الديموقراطية ذاتها.

ولهذا فإنَّ مأساةَ روسيا اليوم ليست فقط سياسية أو أخلاقية، بل فكرية في المقام الأول. فحضارة ٌعظيمة اختُطِفَت على يد رجلٍ عاجزٍ عن التفكير، يستبدلُ الفلسفة بالحقد، والرؤية بالثأر، والسياسة بالهوَس التاريخي. وفي حربه ضدّ الأفكار، أثبت بوتين أنَّ ضعف روسيا ليس في جغرافيتها أو مواردها، بل في عقلها الجمعي. إنَّ الكارثة التي تشهدها أوكرانيا اليوم هي قبل كل شيء كارثة الخيال الروسي—  فشلٌ ذهني هائل أعاد البلاد إلى حالتها الأبدية: دولةٌ تخاف الأفكار أكثر مما تخاف الهزيمة.

Exit mobile version