البروفِسور بيار الخوري*
في المكتب البيضاوي، حيث تُصاغُ صور القوة الأميركية، جلس دونالد ترامب إلى مكتبه يستقبلُ فريقَ الولايات المتحدة الفائز بأولمبياد الفيزياء العالمي. لحظةٌ تبدو اعتيادية في بروتوكول الرئاسة، لكنَّ الصورة التي التُقِطت تحوّلت إلى مشهدٍ رمزيّ بامتياز يختصرُ جوهرَ الهوية الأميركية: رئيسٌ يرفعُ شعارَ “أميركا للأميركيين”، تُحيطُ به وجوهٌ فَتيّة من أصولٍ صينية وهندية وشرقية أوروبية تُمثّلُ الوجهَ الأكثر صُدقًا لأميركا الحديثة. وجوهٌ تمثل الحقيقة الأعمق للولايات المتحدة — أمّة صاغها المهاجرون، وما زالوا يمنحونها عبقريتها.
منذ قرون، وصلت “أميركا البيضاء” من أوروبا نفسها، هاربةً من الحروب والاضطهاد، تبحثُ عن حياةٍ جديدة في أرضٍ مفتوحة. اليوم تتكرّرُ الحكاية بأسماءٍ أخرى وجغرافيا مختلفة. القادمون من الشرقَين الأدنى والأقصى هم الامتدادُ الطبيعي لأولئك الذين عبروا الأطلسي قبل مئات السنين. الفارق الوحيد أنَّ جيلَ المهاجرين الجديد لا يحمل المجرفة، بل المعرفة.
هذا المشهدُ الذي جمع ترامب بالفريق الفائز يقدّم صورةً رمزية للواقع الأميركي كما هو، لا كما يُرَوَّجُ له: تنوّعٌ بشري يرفُدُ العلمَ والاقتصاد والثقافة، ويُعيدُ تعريفَ مفهوم القوة. العلم لا يعترفُ بالأصل أو اللون، والعبقرية لا تتقيّدُ بجواز السفر. ما يجمع هؤلاء هو الإيمان ببلدٍ يمنحُ الفرصة لكلِّ من يستطيع أن يُضيفَ إليه.
في زمنٍ تتصاعد فيه خطاباتُ الانقسام والخوف من “الآخر”، تأتي هذه الصورة كتذكيرٍ قاطعٍ بأنَّ الخطر على أميركا ليس من الخارج، على العكس هو من داخلها حين تنسى أنها وُلِدَت من التعدُّد. التاريخ أثبت أنَّ كلَّ محاولةٍ لتسييج الهوية الأميركية بلونٍ واحد انتهت بتراجُعٍ فكري واقتصادي، بينما كلُّ موجةِ انفتاحٍ أطلَقَت نهضةً جديدة.
في عمق هذه الصورة تختبئ معادلة الوجود الأميركي كله: أمّةٌ لا تملك جذورًا واحدة، بل جذورًا ممتدة في قارات الأرض. قوّتها في قدرتها على جمع المتناقضات، وصهرها في فكرة واحدة اسمها الحلم الأميركي. كل مرة حاولت فيها أميركا أن تنغلقَ على نفسها ضعفت، وكل مرة تذكّرت أنَّ مجدها وُلد من البحر المفتوح والمرفَإِ المفتوح والفرصة المفتوحة، استعادت روحها.
اللحظة التي يقف فيها هؤلاء الطلاب حول رئيسهم هي أكثر من حدثٍ علمي، هي استعادة غير مُعلنة لمعنى الوطن الذي لا يُقاس بنقاء الدم، بل بخصوبة الفكر.
في النهاية، تبقى أميركا فكرة لا تُعرَّف بالعرق ولا بالماضي، بل بما يمكن أن يفعله إنسانٌ واحد حين يُمنح فرصة. هذه هي الصورة التي يجب أن تبقى في الذاكرة، لأنّ الأمم التي تنسى من أين جاءت، تفقد قدرتها على أن تعرفَ إلى أين تذهب.
- البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com