كابي طبراني*
عندما أعلنت كلٌّ من مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، في الثاني عشر من أيلول (سبتمبر)، عن خريطةِ طريقٍ مشتركة لإنهاء الحرب الأهلية المُدمّرة في السودان، سادَ شعورٌ عابرٌ بالأمل. فبعد أكثر من عامَين من القتال والدمار والمجاعة والنزوح، بدا أنَّ القوى الإقليمية الأساسية —ومعها واشنطن— قد نجحت أخيرًا في التوافق على خطة سلامٍ مشتركة، وهو ما لم يحدث منذ اندلاع الصراع في الخرطوم في نيسان (أبريل) 2023.
تضمّنت الخطة، التي جاءت بعد أشهرٍ من المفاوضات المُكثّفة، هدنةً إنسانية لمدة ثلاثة أشهر بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، يليها وقفٌ دائمٌ لإطلاق النار وعملية انتقال سياسي نحو حكومةٍ مدنية. وبالنسبة إلى بلدٍ أنهكته الحرب التي حصدت أكثر من 150 ألف قتيل وتسبّبت في نزوح ربع سكانه، كانت المبادرة أشبه بفسحةِ أملٍ نادرة.
لكن هذا الأمل تلاشى سريعًا. فالجيشُ السوداني رفض الخطة علنًا، والمعارك ازدادت ضراوة، وكلا الطرفَين واصلَ التمسُّك بمواقعه. ولم يكن السببُ مجرّدَ عناد القيادات المُتحاربة، بل فشلٌ أوسع في النظام الدولي الذي يحاول إنهاء الحرب — وفي مقدّمته تراجع القدرة الأميركية على قيادة هذا النوع من المسارات.
لسنواتٍ طويلة، كانت واشنطن الركيزة الأساسية لجهودِ صنع السلام في القرن الأفريقي. ففي التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة، قادت الولايات المتحدة مفاوضات السلام من السودان إلى الصومال، مستخدمةً نفوذها السياسي والاقتصادي لفرضِ تسوياتٍ وإنهاءِ نزاعات. كانت أخطاؤها كثيرة، لكنها كانت اللاعب الذي يُحدّدُ الإيقاعَ ويملكُ أدواتَ الضغط والتأثير.
أما اليوم، فقد انقضى ذلك الزمن. فخلال الخمسة عشر عامًا الماضية، تراجعت مكانة الولايات المتحدة في أفريقيا بشكلٍ مضطرد. تحوّلَ تركيزها نحو الصين ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وانغمست في أزمات الشرق الأوسط بلا نهاية، وتقلّصت الموارد والاهتمام الموجّهان إلى القارة السمراء. حتى المبعوثون الأميركيون الذين كانوا يتمتعون سابقًا بنفوذٍ واسع ومكاتب ضخمة باتوا اليوم يعملون بفِرقٍ صغيرة وقدرةٍ محدودة، غالبًا من دون دعمٍ مباشر من البيت الأبيض.
وفي الفراغ الذي خلّفه هذا الانسحاب، دخل لاعبون جُدد. فدولُ الخليج وتركيا ومصر رأت في التراجع الأميركي فرصةً لبسطِ نفوذها. ضخّت الإمارات والسعودية مليارات الدولارات في الموانئ والمناجم والممرّات التجارية على طول البحر الأحمر وعمق القارة السمراء، وعزّزت مصر علاقاتها العسكرية، فيما وَسّعت تركيا حضورها التجاري والأمني في القرن الأفريقي. وبذلك، أصبحت هذه القوى المتوسّطة تملكُ اليوم نفوذًا فعليًّا في الصراعات المحلية، لكنها غالبًا ما تتصارع في ما بينها أكثر مما تتعاون.
يقع السودان في قلب هذا التنافُس الإقليمي الجديد. فمصر تدعُم الجيش بقيادة البرهان باعتباره خط الدفاع الأول ضد الإسلاميين وضمانًا لمصالحها في مياه النيل. أما الإمارات فتمدّ قوات الدعم السريع بالدعم المالي واللوجستي عبر حلفائها في ليبيا، بينما تُحاول السعودية أن تبقى علنًا على الحياد، وإن كانت عمليًا تميلُ إلى دَعم الجيش خوفًا من أن يؤدّي انهيارُ الدولة إلى انتقال الفوضى عبر البحر الأحمر وتهديد مشاريعها الضخمة على سواحلها. جميع هذه الدول قوية بما يكفي لإفشالِ أيِّ اتفاق، لكنها عاجزةٌ عن فَرضِ تسوية.
وهكذا باتت الحربُ في السودان عصيّةً على الانتهاء — ليس لأنَّ الحلولَ غير موجودة، بل لأنَّ هناك الكثير منها، وكلُّ واحدٍ منها مدعومٌ من راعٍ مختلف. فمنذ عامين، شهدت المنطقة جولاتَ تفاوُضٍ في جدة والقاهرة وأديس أبابا وجنيف، لكن أيّاً منها لم يصمد. فالمسارات الأميركية-السعودية هَمّشت مصر والإمارات، فيما تعثّرت المبادرات الأفريقية من دون مشاركةٍ خليجية. والنتيجةُ مشهدٌ متكرّر: صورٌ جماعية للمفاوضين، فيما تتواصل الغارات على الخرطوم وتستمر معاناة المدنيين.
كانت خريطة الطريق الأخيرة التي تبنّاها “الرباعي” —واشنطن وحلفاؤها العرب— تهدفُ إلى كسر هذا الجمود عبر توحيد رعاة المفاوضات أنفسهم. لكنها كشفت بدلًا من ذلك مدى صعوبة جمع هؤلاء الحلفاء على موقف واحد. فالقاهرة وأبوظبي ما زالتا على طرفَي نقيض، والحياد السعودي يخفي قلقًا عميقًا، أما واشنطن فلم تَعُد تُملي الشروط بل تحاول فقط التوفيق بين شركائها المُتنافرين.
ليست هذه القصة عن تراجع النفوذ الأميركي فحسب، بل عن شكلِ الديبلوماسية في عالمٍ متعدد الأقطاب. فالحروبُ لم تَعُد تُدارُ بين القوى العظمى، بل بين دولٍ إقليمية متوسّطة القوة، تملكُ المالَ والسلاح والطموح. هذه القوى تُموّلُ وتسلّح الأطراف المتحاربة، ثم تتنافسُ على لعب دور الوسيط. والنتيجة صراعاتٌ طويلة، دامية، ومفتوحة بلا نهاية، تتغذّى من تناقُضات رعاتها أكثر مما تتأثر بإرادة شعوبها.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فالدرسُ ليس أن تنسحب، بل أن تتكيّف. لم تَعُد قادرة على فرض النتائج وحدها، لكنها ما زالت قادرة على صناعة الفارق — إذا أحسنت التنسيق مع شركائها الإقليميين، وفرضت المساءلة عليهم عندما يؤجّجون الحرب بدل إخمادها. عليها أن تربط المساعدات وإعادة الإعمار بالتقدّم الحقيقي على الأرض، وأن تمنح المؤسّسات الأفريقية مثل الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) دورًا فعليًا في المفاوضات. فالسلام في السودان لن يتحقق عبر مبادرةٍ أميركية كبرى، بل من خلال ضغطٍ جماعي ومتواصل عبر الزمن.
ورُغمَ كل التراجع، لا تزال واشنطن تملك أدواتٍ لا يملكها غيرها: قدرتها على جمع الخصوم حول طاولة واحدة، ونفوذها في المؤسسات المالية الدولية، وسمعتها —رُغمَ تآكلها— كقوة يمكن الوثوق بها أكثر من غيرها. لكن ما ينقصها اليوم هو المثابرة. فإذا تعاملت مع السودان كأزمةٍ عابرة لا تستحق التزامًا طويلًا، فإنَّ الفراغ سيتسع وستتمدد الحرب إلى إثيوبيا وإريتريا وربما أبعد من ذلك.
إنَّ مأساةَ السودان ليست فقط مأساة أمة تُمزّقها الحرب، بل إنذارٌ مُبكرٌ لعالمٍ بلا مركز قيادة. فعندما تغيبُ القوة القادرة على جمع الخيوط، تُصبحُ الحروب ذاتية الاستدامة، يُغذّيها المال والسلاح والتنافس. لم تعد الولايات المتحدة قادرةً على فرضِ النظام، لكنها لا تزالُ قادرةً على المساهمة في بنائه — إذا تعلمت العمل مع الآخرين، بثبات وصبر، وابتعدت عن إغراء الانسحاب.
قد يبدو هذا هدفًا متواضعًا، لكنه في عالمٍ متشظٍ كهذا قد يكون أعظم ما يمكن تحقيقه. ففي السودان، حتى النجاح المتواضع قد يعني إنقاذ حياة الملايين.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani