هنري زغيب*
في عشرينات القرن الماضي وثَلاثيناته، كانت شُرفة “الفريكة” فضاءَ أَمين الريحاني، يُطلُّ منه على مدار وادي الفريكة، منه انطلق مع المكاري محبوب إِلى منعرجات “قلب لبنان”، ومنه كان يطلُّ على جبين صنين مع ضَوءَات الفجر الأُولى، يستقبل الصباح بمقطوعته “النجوى”.
ويَغيب الأَمين (الجمعة 13 أَيلول/سبتمبر 1940)… لكنَّ الصَنَوبرَتَين اللتين زرعَهُما على مدخل البيت بقيَتَا تَتَثَاءَبان شُموخًا، كما لتحرُسَا بيتَ أُمّ أَمين. غابَت قبلَه بثلاث سنوات، لكنها تركَت البيت في عُهدة ثالث أَبنائها أَلبرت، فحوَّل البيت مَتحفًا لشقيقه أَمين، وحوَّل حديقتَه مُنتدًى أَدبيًّا، وشرفتَه خاصرةً للحديقة. وإِلى كلتَيهما دعا أَعلامَ الفكْر والشعر والأَدب، تكريمًا واستذْكارًا ولقاءاتٍ أَدبيةً غالية. ومن أَلبرت إِلى بِكْره أَمين أَلبرت الريحاني، واصَلَ رسالة والِده في العناية بالـمَتْحف وتطويرِه، والكتابةِ الأَكاديمية عن عمِّه الأَمين. ومن الجلسات مع أَلبرت، واصلَت ابنتُه الشاعرة مي الريحاني لقاءاتٍ جعلَت من شرفة الفريكة صالونًا أَدبيًّا، تأَثُّرًا بـ”صالون” سَميَّتِها مي زيادة في القاهرة، ثم سافرت إِلى أَميركا وسطعَت فيها بنجاح عالَميّ.
على هذه الشرفة أَيضًا نشأَ الابن الأَوسط رمزي الريحاني مستقبلًا صحبَهُ من هواة الأَدب والموسيقى. أَمَّا الابن الأَصغر سَرمد الريحاني، فلم يهنأْ طويلًا بفضاء الشرفة ومَطَلِّها على الوادي، لأَن شرفةَ أَميركا نَدَهتْه باكرًا إِليها، دراسةً ثانويةً فجامعيةً، فاختصاصًا هندسيًّا، فنجاحًا مِهَنيًّا أَدَّى إِلى ترَؤُّسه أَكبرَ كتلةٍ هندسيةٍ تدعى “جمعية المهندسين الإِنشائيين” التي تضم 35 أَلف عضو من جميع الولايات المتحدة. سوى أَنَّ سرمد، إِن غادَر باكرًا لبنان، لم يغادِرْه لبنان. فهو سمَّى ابنَه البكْر “أَرز” (سيدِر)، وعوَّدَه من صغره على لبنان مع ابنَيه الآخرَين بول ومايكل، وكانوا يرافقون دومًا والدَيهما سَرمَد وآينا كلَّما ندهَهُم لبنان.
وكأَنما استمرارًا لسُطُوع الفريكة عالَميًّا، ها هو مايكل سَرمَد الريحاني، وهو ما زال في التاسعة والثلاثين من ربيعه، يتسلَّم قبل أَيامٍ، مركزَه الجديد “رئيسَ قطاع الأُصول الرقمية والعُملات المشفَّرة” لدى مَصرِف “نُوبنْك” في ساو باولو البرازيل. وهو أَكبر مِنصةٍ ماليةٍ رقميةٍ في أَميركا اللاتينية، يتجاوز عدد حساباته النَشِطة 88 مليون حساب في البرازيل، و 60 مليون حساب في المكسيك وكولومبيا. وتقدَّر قيمةُ حركته المالية بنحو 45 مليار دولار.
وسوف يتولى مايكل الريحاني إدارة مِنصةٍ يبلغ حاليًّا حجمُ التداوُل بها 6،6 ملايين مستخدم نظام “البيتكُوْيْن”. ومُهمَّةُ مايكل، بخبرته المصرِفية العالية، أَن يُطوِّر التداول الإِلكتروني بهذه الـمِنصَّة، لتمكين المتعاملين مع المصرِف شِراءً وبيعًا بالعملات الرقمية، ومنها البيتْكُوْيْن Bitcoin، إِضافة إِلى الاستثمارات الكبرى عبر تطبيق خاص لـمَصرِف “نُوبنْك” العالَمي.
هنا نحن إِذًا مع ريحانيٍّ جديدٍ، مايكل، أَطلقَت الفريكة أَباه سرمد، فطارَ هو من فضاء أَبيه إِلى فضاءِ العالَمية الذي كان فتَحَهُ الريحاني الكبير أَمين في الربع الأَول من القرن الماضي، وفي الربع الأَول من هذا القرن يتولَّى مايكل سَرمَد الريحاني منصِبًا عالَميًّا علاقتُهُ فيه مع ستة ملايين شخص من كلِّ العالم.
بلى: هذه أُسرةٌ ريحانيَّةٌ من الفريكة، حَمَلَتْها قريةٌ لبنانيةٌ من خاصرة الجبَل إِلى جبين الغرب، كما لتَصحَّ المقولةُ المباركة إِنَّ هذه الأُسرةَ انطلقَت من شُرفة الفريكة إِلى… شُرفة العالَم.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib