الشَرقُ الأوسط الذي صَنَعَتهُ إسرائيل: لماذا ستَندَمُ واشنطن على كلفةِ العدوان الإسرائيلي

تعيش منطقة الشرق الأوسط اليوم تحوّلاتٍ عميقة تُعيدُ رَسمَ خريطتها السياسية والأمنية في ظلِّ تصاعد العدوان الإسرائيلي وتبدُّل مواقف القوى الإقليمية والدولية. لم تَعُد إسرائيل تُرى كحليفٍ مُحتَمل لبعضِ الدول العربية، بل باتت تُعتَبَرُ عاملَ تهديدٍ وعدمِ استقرار، فيما تجد الولايات المتحدة نفسها أمام تحديات متزايدة في الحفاظ على نفوذها. هذا المقال يتناول ملامح هذه التحوّلات وتداعياتها على مستقبل المنطقة.

الشرق الأوسط هو الوحيد القادر على إصلاح نفسه.

غاليب دالاي وسانام وكيل*

تنظر دول الشرق الأوسط اليوم وبشكلٍ متزايد إلى إسرائيل بوصفها التهديد المشترك الأكبر الجديد لها. فالحربُ  الإسرائيلية على غزة، وسياسات تل أبيب العسكرية التوسّعية، ومواقفها العدائية، تُعيدُ تشكيلَ المنطقة وتغيير ملامحها بطرُقٍ لم يتوقّعها كثيرون. إنَّ ضربتها في أيلول (سبتمبر) على قادة “حماس” السياسيين في قطر –الدولة السابعة التي استهدفتها إسرائيل منذ هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بالإضافة إلى الأراضي الفلسطينية– قد “زلزلت” دول الخليج وأثارت الشكوك حول مصداقية وفعالية المظلة الأمنية الأميركية.

وخلال العامين الماضيين، تفاخر قادة إسرائيل بالقضاء على قيادة “حزب الله” في لبنان، وتكرار ضرباتهم لأهداف في اليمن، وتوجيه ضربات موجعة لإيران. لكن بدلًا من أن تُعزّزَ هذه العمليات قوة إسرائيل أو تُحسّن علاقاتها مع الدول العربية التي طالما كانت مُتَوَجِّسة من إيران ووكلائها، جاءت النتائج عكسية. فالدول التي كانت تَنظرُ إلى إسرائيل بوصفها شريكًا مُحتَملًا، بما في ذلك دول الخليج العربية، باتت تراها اليوم لاعبًا خطيرًا وغير مأمون.

هذا الأسبوع، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن خطّةِ سلامٍ جديدة مؤلفة من 20 بندًا، واحتفيا بها باعتبارها اختراقًا كبيرًا ونقلةً نوعية ووسيلةً لإعادة الاستقرار إلى المنطقة. لكنَّ آفاقَ هذه الخطة تبدو قاتمة ما دامت إسرائيل تُواصِلُ سلوكها العدواني وتتجاهل المطالب والمخاوف المشروعة للفلسطينيين. ورُغمَ أنَّ عددًا من قادة المنطقة رحّبوا بهذا الإعلان، فإنَّ الخطة تبدو غير قادرة على معالجة أضرار حرب السنتين الماضيتين.

قبلَ هجماتِ تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كانت إسرائيل، بدعمٍ أميركي قوي، تأملُ في إعادة تشكيلِ المنطقة بما يخدم مصالحها، مُحاولةً أن تقدّمَ نفسها كشريكٍ للحكومات العربية، وفي الوقت نفسه تهميش خصومها، وعلى رأسهم إيران. أما الآن، فقد وجدت إسرائيل نفسها معزولة، وجعلت الدول العربية مترددة في تحمّل التبعات السياسية والسمعة السلبية للتعاون معها، وحولت شركاء الأمس إلى خصومٍ مُحتملين ومُتوجِّسين.

ويردُّ العديد من دول المنطقة على العدوان الإسرائيلي من خلال تنويع شراكاتها الأمنية، والاستثمار في استقلاليتها الذاتية، والابتعاد عن مسار التطبيع مع إسرائيل. ومن المرجح أن تتلاشى مجموعة المشاريع التي كانت تهدف إلى ربط إسرائيل بالدول العربية بشكل أوثق، بدعمٍ رئيس من الولايات المتحدة، وأيضًا بمساندة من الهند وأوروبا. وهذه أنباء سيئة ليس فقط لإسرائيل بل أيضًا للولايات المتحدة. فالدعم الأميركي غير المشروط للدولة العبرية يقوّضُ مكانة واشنطن في المنطقة. فبينما كان تهديد إيران في السابق يشجّعُ دول المنطقة على الاقتراب من الخط الأميركي، أصبح شبح إسرائيل المتحفزة والعدوانية يدفعها اليوم إلى الابتعاد عن الولايات المتحدة.

على واشنطن أن تستيقظَ وتُدركَ التحوّلات الجارية في الشرق الأوسط. فالإطارُ المقترح أخيرًا لن يكونَ قادرًا بمفرده على إصلاح العلاقات المُتوتّرة بين إسرائيل والمنطقة الأوسع. وإذا أصرّت الولايات المتحدة على رفض كبح جماح إسرائيل ولم تبحث عن حلٍّ سياسي عادل للقضية الفلسطينية، فإنها تُخاطرُ بإضعاف علاقاتها مع شركاءٍ إقليميين رئيسيين، وفقدان نفوذها في النظام الإقليمي الناشئ. كما إنَّ الفشل في معالجة القضية الفلسطينية، وترك إسرائيل تتصرَّف بعدوانية من دون محاسبة، سيؤدّي إلى تغذية موجة جديدة من التطرّف تهدد المصالح الأميركية واستقرار المنطقة والأمن العالمي.

كيف تخسرُ الأصدقاء

لأكثر من عقدين، تمكنت إسرائيل من إيجادِ قواسم مشتركة مع عدد من الدول العربية. فقد كانت مصر أول دولة عربية تُطبّعُ علاقاتها مع إسرائيل نتيجة اتفاقيات كامب ديفيد في العام 1978. واستمر السلام بين البلدين لما يقارب أربعة عقود، رُغمَ أنَّ الروابط والتبادلات على مستوى مجتمعي أعمق لم تتحقق قط. وحتى وقت قريب، كانت مصر تنظر إلى تركيا باعتبارها خصمها الأساسي في شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد انهارت العلاقات بين البلدين في العام 2013 بعد الإطاحة بمحمد مرسي، أول رئيس إسلامي مُنتَخَب ديموقراطيًا في مصر. فقد دعمت تركيا مرسي بقوة، ورفضت الانقلاب الذي جاء بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى السلطة. ونتيجة لذلك، عقدت مصر في عهد السيسي صفقات ثنائية مع إسرائيل، وتعاونت معها في إطار منتدى غاز شرق المتوسط، وهو منظمة إقليمية تُنسّق تطوير الطاقة بهدف تشجيع الاستكشاف المشترك لاحتياطيات الغاز البحرية. وكانت لهذه الخطوات أيضًا غاية ضمنية، هي مواجهة المطالب التركية في البحر المتوسط. وبالإضافة إلى التعاون في مجال الطاقة، عزّزت مصر كذلك تنسيقها الأمني مع إسرائيل في صحراء سيناء، حيث سمحت بشنَّ ضربات إسرائيلية ضد الجماعات المسلحة هناك، وساعدت على إدارة الحدود مع غزة.

لكن كلّ ذلك تغيّر بعد هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فقد دفعت الحملات الإسرائيلية القاهرة إلى تبنّي موقف مغاير. ففي أيلول (سبتمبر)، وصف السيسي إسرائيل بأنها “عدو”، وهو تحوّلٌ بلاغي كبير عن عقودٍ من اللغة الحذرة التي درج عليها رجال الدولة المصريون. كما اتخذ خطوةً رمزية بخفض مستوى التعاون الأمني مع إسرائيل. وأقدمت مصر وتركيا –خصما الأمس– على إجراء مناورات بحرية مشتركة في شرق البحر المتوسط، بهدف تعميق تعاونهما الدفاعي.

وقبل الحرب الحالية، كان بعضُ دول الخليج قد اصطفّ مبدئيًا مع إسرائيل لأنها اعتبرت إيران التهديد الأكبر لأمنها. فقد أدّت تدخلات إيران في المنطقة، بما في ذلك رعايتها لجماعاتٍ مسلّحة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، إضافة إلى طموحاتها النووية، إلى جعلِ التعاون بين الممالك الخليجية وإسرائيل خيارًا عمليًا. كما إنَّ صعود الإسلام السياسي والانتفاضات العربية في العام 2011 عزّز هذا الاصطفاف، إذ خشي حكّام الخليج وإسرائيل معًا أن تؤدي هذه الحركات إلى إسقاط الأنظمة، وإعادة تشكيل المنطقة، وتقييد الدور الإقليمي لإسرائيل. ومن هذا السياق خرجت “اتفاقيات أبراهام”، وهي صفقات التطبيع التي جرى التوصل إليها في العام 2020 بين إسرائيل وعدد من الدول العربية بمساعدة الولايات المتحدة، وكان هدفها الأساس احتواء إيران وحماية الأنظمة من أيِّ تحوّلاتٍ داخلية أو إقليمية محتملة.

اليوم، ومع ذلك، بدأت منطقية التطبيع تتفكّك. فالعقيدة الجديدة لـ”الدفاع المُتقدّم” الإسرائيلية، التي تُتيحُ لها انتهاك سيادة الدول الأخرى متى شاءت، جعلت غالبية دول المنطقة تشعرُ بانعدام الأمن. الحربُ المدمّرة في غزة، وتوسُّع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية (المُبرَّرة غالبًا بخطابٍ ديني)، والموقف الإسرائيلي المُتصلّب في لبنان، والضربات المتكرّرة في سوريا والتوغّلات داخل أراضيها، كلها عوامل جعلت الحفاظ على علاقاتٍ رسمية مع إسرائيل عبئًا سياسيًا واستراتيجيًا على الحكومات العربية.

لقد أثارت الأفعالُ الإسرائيلية موجة غضب عارمة في مختلف أنحاء العالم العربي، بحيثُ أصبح أي شكل من أشكال الاصطفاف العلني مع إسرائيل تهديدًا مباشرًا لشرعية وأمن الأنظمة. ووفقًا لتحليل أجرته مجموعة “الباروميتر العربي” استنادًا إلى استطلاعات حديثة، ظلّ الدعم الشعبي للتطبيع مع إسرائيل منخفضًا للغاية في المنطقة، إذ لم يتجاوز أي بلد نسبة 13 في المئة. كما انخفضت نسبة التأييد في المغرب من 31 في المئة في العام 2022 إلى 13 في المئة فقط في العام 2023 بعد هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر).

أما السعودية، التي كانت تخضعُ سابقًا لضغوطٍ أميركية مُكثَّفة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، فهي تتردّدُ اليوم ليس فقط بسبب المخاطر الداخلية، بل أيضًا بسبب الشكوك في مدى موثوقية إسرائيل كشريكٍ استراتيجي، بالنظر إلى سلسلة تصرفاتها العدوانية في السنوات الأخيرة. وبالنسبة إلى الإمارات العربية المتحدة، التي كانت أقرب حليف لإسرائيل في الخليج، فقد دفعت ثمنًا على مستوى السمعة في أوساط الشعوب العربية والإسلامية بسبب دفاعها عن اتفاقيات أبراهام، في وقت كان القادة الإسرائيليون يتحدثون علنًا عن تهجير سكان غزة وإمكانية ضم الضفة الغربية.

وفي أعقاب الضربة الإسرائيلية التي استهدفت مفاوضي حركة “حماس” في الدوحة، وضعت قطر نفسها في موقع الناقد العربي الأبرز للسياسة الإسرائيلية في غزة. أما الكويت وسلطنة عُمان فبقيتا على مسافة، حذرتين من الانجرار إلى أيِّ ارتباطٍ مع إسرائيل قد يقوّضُ شرعية حكوماتهما داخليًا، أو يثير سخط شعوبهما، أو يُعقّدُ استراتيجيات توازنهما الإقليمي الحذرة. وهكذا، تحولت إسرائيل –التي كان بعضُ صنّاع القرار في الخليج والولايات المتحدة يتصوّرها يومًا ما ركيزة محتملة لأمن الخليج– إلى عبءٍ وتهديدٍ مُزعزع للاستقرار.

إن تغَيُرَ الموقف التركي يبدو لافتًا أيضًا ومثيرًا للإنتباه. فعلى مدى سنوات، إنتقدت أنقرة معاملة إسرائيل للفلسطينيين، لكنها لم تتعامل معها باعتبارها عدوًّا استراتيجيًا مباشرًا. أما إسرائيل، من جانبها، فلم تسعَ علنًا إلى استفزاز تركيا في القضايا الجيوسياسية والأمنية. وأثناء المواجهة التي وقعت في العام 2020 بين اليونان وتركيا في شرق البحر المتوسط، تبنّت إسرائيل موقفًا أقل تصعيدًا تجاه تركيا مقارنة بمصر وعدد من الدول الأوروبية. وفي حرب العام 2023 بين أذربيجان وأرمينيا، دعمت كلٌّ من إسرائيل وتركيا أذربيجان وزوّدتا جيشها بالمعدات العسكرية. كما قام الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بزيارةٍ رسمية إلى أنقرة في العام 2022، وقبل أسابيع فقط من هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث ناقشا إمكانية التعاون في مجال الطاقة في شرق البحر المتوسط.

غير أنَّ حربَ غزة دفعت بالبلدين إلى مزيدٍ من التباعد والتوتّر. فقد علّقت تركيا تجارتها مع إسرائيل وأغلقت مجالها الجوي أمامها كعقوبةٍ على الحملة العسكرية في غزة. كما إنَّ التحرّكات الإسرائيلية في سوريا أثارت قلقًا عميقًا لدى تركيا، إذ إنَّ أطول حدودها البرية تقع مع سوريا، وقد عبر ملايين اللاجئين إلى الأراضي التركية منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية قبل أكثر من عقد. وتُريدُ أنقرة جارًا مستقرًا ونظامًا مركزيًا في دمشق، بينما تسعى إسرائيل، على النقيض، إلى دعم الجماعات المتمرّدة في جنوب سوريا، والتغلغل داخل الأراضي السورية، مما يقوّض الحكومة الجديدة للبلاد ويعزز الانقسام وعدم الاستقرار. ومع تحوّل سوريا إلى ساحة صراع جيوسياسي، باتت تركيا تنظر إلى إسرائيل باعتبارها تهديدًا رئيسًا.

البحثُ عن بدائل

إنَّ النزعةَ التعديلية الإسرائيلية وعدوانها يسرّعان وتيرة العسكرة وتنويع استراتيجيات الدفاع في مختلف أنحاء المنطقة. فالدول باتت تستخلصُ الدروس من سنتين من الصراع، بما في ذلك الأداء الضعيف للأسلحة الروسية في النزاع بين إيران وإسرائيل، والقيود السياسية والأمنية التي تفرضها الاعتمادية على منظومات الأسلحة الأميركية. ولهذا، بدأت الحكومات بالتحوّط عبر الاستثمار في القدرات المحلية وتنويع مورّدي السلاح.

فالسعودية، مثلًا، وسّعت تعاونها مع الصين في مجال الصواريخ والطائرات المسيّرة، وسعت إلى تعزيز توطين الإنتاج الدفاعي، ووقّعت أخيرًا اتفاقًا للتعاون الدفاعي مع باكستان، ما يشير إلى رغبتها في إقامة شراكات أمنية بديلة، وسعيها إلى بناء علاقات مع قوة مسلمة خارج منظومة الأمن التي تقودها الولايات المتحدة. أما الإمارات العربية المتحدة فقد اشترت طائرات مقاتلة فرنسية من طراز “رافال”، ودخلت في شراكة مع كوريا الجنوبية في مجالات الدفاع الصاروخي والطاقة النووية، ما عزّز قدراتها التكنولوجية وقلّل اعتمادها على الولايات المتحدة. وقطر والكويت اقتنتا طائرات “يوروفايتر تايفون” من المملكة المتحدة وإيطاليا على التوالي، ما عمّق اندماجهما في شبكات الأمن الأوروبية. كما إنَّ دولَ الخليج جميعها تشتري طائرات مسيّرة تركية فعّالة من حيث التكلفة. ومن جهتها، كشفت تركيا في آب (أغسطس) الماضي عن نظام دفاع جوي متكامل باسم “القبة الفولاذية”، وهو نظامٌ يمكن مقارنته بـ”القبة الحديدية” الإسرائيلية المضادة للصواريخ، في دلالة على تحوّل عقائدي يجعل المخطّطين الأتراك يشعرون بأنَّ عليهم قياس قدراتهم العسكرية مباشرة مقابل قدرات إسرائيل.

إنَّ هذا التوسُّعَ في شبكة الشراكات يتركُ مساحة متناقصة لإسرائيل. فالمبادرات الإقليمية مثل اتفاقيات أبراهام؛ والممر الاقتصادي “الهند-الشرق الأوسط-أوروبا” (IMEC) وهو مشروعٌ تجاري واتصالي مدعوم من الولايات المتحدة لربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا؛ وقمة النقب، وهو منتدى أمني إقليمي جمع إسرائيل مع شركاء عرب وغربيين؛ إضافة إلى مجموعة” I2U2″ التي تضم الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي؛ كلها صُمِّمَت لبناءِ نظامٍ إقليمي جديد قائم على التعاون العربي–الإسرائيلي تحت إشرافٍ أميركي. وكانَ الهدفُ ربط الدول العربية بإسرائيل، واستبعاد تركيا، واحتواء إيران. وقد افترضَ المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون أنَّ التطبيعَ والقبول المتزايد لإسرائيل في المنطقة مسألة حتمية. لكن هذه الرؤية تنهارُ اليوم، بعدما جعلت السياسات الإسرائيلية ذات الموضوع سامًّا، وحوّلت التطبيع إلى خطرٍ داخلي واستراتيجي على القادة والحكومات العربية.

لقد أبرز الهجومُ الإسرائيلي على الدوحة هذه الديناميكيات بوضوح. فلطالما كانت قطر وسيطًا بين إسرائيل و”حماس”، وحليفًا وثيقًا للولايات المتحدة تستضيف أكبر قاعدة أميركية في المنطقة. غير أنَّ هذا الهجوم قَوَّضَ ليس فقط مكانة قطر، بل أيضًا هيبة ومصداقية الولايات المتحدة. وقد استخلصَ حكّام الخليج من تلك الحادثة درسًا مفاده أنَّ إسرائيل قوة عدوانية لا يمكن التنبّؤ بسلوكها، وأنَّ الضمانات الأمنية الأميركية غير موثوقة. ونتيجة لذلك، سيسعى هؤلاء إلى تنويع علاقاتهم مع قوى أخرى، وتوسيع استثماراتهم في الصناعات الدفاعية المحلية.

ومن شأن هذه التطوّرات أن تخلقَ اصطفافات جديدة قد تُعيدُ تشكيل المنطقة. فتركيا والسعودية، وهما من أبرز القوى الإقليمية، مرشحتان للتعاون بشكلٍ أوثق. ورُغمَ أنهما كانتا خصمَين في العديد من بؤر التوتر الإقليمي، بما في ذلك ليبيا، إلّا أنهما اليوم تتشاركان القلق من عدم الاستقرار الإقليمي والدور التخريبي لإسرائيل. وقد يتعاون البلدان في محاولةٍ لاستقرار سوريا، والتنسيق في المنتديات مُتعدّدة الأطراف لدفع الجهود نحو إنهاء الحرب في غزة ولجم العدوان الإسرائيلي. بل إنَّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان دعا إلى إنشاء منصّة أمنية مشتركة مع الدول الإقليمية، ولا سيما مصر والسعودية.

ويتعيّنُ على كلٍّ من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إدارة التبعات السياسية الداخلية الناجمة عن حرب غزة. فقد واجه أردوغان غضبًا شعبيًا متزايدًا بسبب استمرار التجارة مع إسرائيل –وهو ما علّقته أنقرة لاحقًا– إضافة إلى ضغوط من التيارات الإسلامية والمحافظة لاتخاذ موقف أكثر صرامة. أما بن سلمان، فيواجه انتقادات داخل المملكة وفي العالم العربي الأوسع لأنه حتى فكّر بالتطبيع مع إسرائيل. كما يتعين على كليهما مواجهة احتمال اندلاع صراع إضافي بين إسرائيل وإيران.

وبطبيعةِ الحال، لم تختفِ إيران من المشهد كعاملٍ مقلق، إذ إن شبكتها الإقليمية من الوكلاء ضعفت لكنها لم تُستأصَل. ولذلك، سيتحتم على السعودية وتركيا توخّي الحذر. وبالنسبة إلى الرياض، يعني ذلك الاستمرار في سياسة الانفراج الحذر مع إيران، التي أُطلقت بوساطة صينية في العام 2023، بما يسهم في تقليل مخاطر التصعيد في اليمن والخليج. أما تركيا، فستحتاج إلى موازنة التعاون والتنافس مع إيران في العراق وسوريا ومنطقة القوقاز الجنوبية. ويسعى البلدان معًا إلى ضمان قدرتهما على مواجهة إيران بدون دفعها إلى زاويةٍ حرجة، إذ إنَّ إيران المحاصرة قد تضاعف اعتمادها على التكتيكات غير المتماثلة وتخلق أزمات جديدة.

نظامٌ يتمتّع بالمصداقية

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تفرُضُ هذه الديناميكيات إعادة تقييم لاستراتيجيتها. إذ يغفل صانعو السياسات الأميركيون عن القلق العميق الذي تُسبّبه أفعال إسرائيل، وعليهم أن يدركوا أن ذلك يولّد في المنطقة ضرورة ملحّة لتنويع الشراكات الأمنية. إنَّ استمرار الدعمَ غير المشروط لإسرائيل يُقوّضُ النفوذ الأميركي ويُعزّزُ الانطباع بأنَّ واشنطن لا ترى المنطقة إلّا من خلال عدسة المصالح الإسرائيلية. والنخب الإقليمية بدأت بالفعل في توسيع خياراتها عبر تنمية علاقاتها مع الصين وأوروبا وروسيا وقوى أخرى، وهو اتجاهٌ لن يتباطأ طالما تُواصِلُ الولايات المتحدة دعم إسرائيل بدون اكتراث، وتتجاهل الأضرار الجانبية التي تلحق بعلاقاتها مع دول المنطقة الأخرى. ومن دون تعديلٍ في المسار، ستجدُ الولايات المتحدة نفسها متروكةً خلف الركب في منطقة لم يعد التحدي الأكبر فيها هو إيران، بل الدور التعديلي العدائي والتخريبي لإسرائيل. وإذا لم تُجرِ واشنطن هذا التغيير، فستكون متواطئة في هدم البنية الاستراتيجية نفسها التي سعت على مدى سنوات إلى بنائها في الشرق الأوسط.

ومع ثقلها الكبير، ستظل الولايات المتحدة من دون شك لاعبًا مهمًا في المنطقة في المستقبل المنظور. لكن للحفاظ على مصداقيتها ونفوذها، لا بُدَّ لها أن تُعيدَ ضبط مقاربتها من خلال التعامل المباشر مع مخاوف مصر ودول الخليج وتركيا، والعمل نحو أُطُرٍ أمنية تعاونية تعطي الأولوية لخفض التصعيد، ومنع النزاعات، والتكامل الاقتصادي. وسيشكل ذلك تحوُّلًا حادًا عن سجلها الأخير الذي شجع عسكرة المنطقة وسياسة المحاور. كما يجب على واشنطن أن تُرسّخ سياستها بدعم حلٍّ عادل للقضية الفلسطينية. إن إنهاء الحملة الإسرائيلية الساحقة في غزة، ومنع تهجير سكانها، ووقف المجاعة المصطنعة هناك، ووقف ضم الضفة الغربية، يجب أن تكون نقطة البداية. فالولايات المتحدة لا تستطيع أن تتجاهل محنة الفلسطينيين وتتغاضى عن النزعة التعديلية العدائية الإسرائيلية إذا أرادت أن ترعى نظامًا إقليميًا فاعلًا وذا مصداقية.

Exit mobile version