من دفاتر أَيلول/سبتمبر اللبناني

هنري زغيب*

كأَنَّ هذا الأَيلولَ/سبتمبر قدَرُ لبنان في استعادة أَنفاسه الْكانَتْ مَخنوقَةً لأَمَدٍ مُرٍّ صَعبٍ، بدأْنا نَسْتَبْشرُ بانقشاع غيمها الأَسْوَد عن سمانا فيما الدولةُ عازمةٌ فعليًّا وميدانيًّا على بسْط سيادتها وسْعَ أَرض لبنان المقدَّسة المباركة شبرًا شبرًا، حتى يَعود إِلينا نقيًّا ساطعًا لبنانُ اللبناني.

على أَنَّ هذا الأَيلولَ/سبتمبر الحاليَّ، قدَرَ لبنان اللبناني، ليس الأَوَّلَ، بل سبقَهُ أَيلولٌ/سبتمبر آخرُ قبل 105 سنوات، يومَ وقَفَ الجنرال هنري غورو في 1 أَيلول/سبتمبر 1920 على درَج قصر الصنوبر في بيروت، وأَعلن ولادةَ “دولة لبنان الكبير”. وكانتْ لتلك الولادة تحضيراتٌ سبَقَتْ، تنادى إِليها كبارٌ من لبنان ناضلوا من أَجل استقلاله، مرحليًّا أَوَّلًا منذ  1919 و1920، ثم فعليًّا صبيحةَ 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1943.

ذكرتُ أُولئِكَ الكبارَ الْهَيَّؤُوا الحدَثَ السعيد، وأَخُصُّ منهم اليومَ اثنَين جليلَيْن: البطريرك الياس الحويك والكاتب شكري غانم. وبين عناصرَ عدَّةٍ تَجمَعُ الاثنين: نصُّ رسالةٍ من البطريرك الحويك إِلى شكري غانم، صادرة عن “بطريركية الموارنة الأَنطاكية”، عنوانُها: “كتاب من غبطة بطريرك الموارنة إِلى المسيو شكري غانم”. ومما جاء فيها: “ولدَنا العزيز المسيو غانم: إِن خلاصنا الذي تمَّ بعناية إلهية خاصة على أيدي أصدقائنا المشتركين، عقِب بلايا هذه الحرب الهائلة، هو في طليعة الحوادث السعيدة والمعزِّية التي مرَّت بنا طيلة حياتنا الرعائية الطويلة الشاقَّة. ولم يَشعُر قلبُنا الأَبويُّ بتعزيةٍ تقلّ عن هذه، حين استَلَمْنا رسالتَكُم المؤَرَّخة في 13 نوفمبر الأَخير، وفيها مشاعرُكُم الشريفةُ، وتَعَلُّقُكُم البنَويُّ الرقيقُ بأَرض الوطن، وهي عواطفُ ساميةٌ تُشرِّفكم وتُشرِّف الأُمَّة. ونَطلُب من الله أَن يكافئَكم على المجهود الذي قمْتُم به لنُصرة دعوتِنا الوطنية المقدَّسة”.

فترتئذٍ، كان شكري غانم كتبَ إِلى ملك إِسبانيا أَلفونسو الثالث عشر، رسالةً نشَرَها صباح 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1916 في جريدة “لو ماتان” Le Matin الفرنسية، جاء فيها: “في الشرق شعبٌ يُحتَضَر، بسببِ فاجرٍ اسمُهُ جمال باشا، يَفتِكُ جيشُه بشعبٍ لبنان مدعومًا من الحكومة العثمانية وحلفائها. وشعبُ لبنان ليس في حربٍ مع أَحَد، وهو مُسالِـمٌ غيرُ هُجُوميّ، ومع ذلك يعاني شعبُه الشَنْقَ والصَلْبَ والإِبعاد، ولا صوتَ يعلو لنجْدته ودَعمه”.

وكان شكري غانم، بنضاله في سبيل القضية اللبنانية، أَصدر في باريس جريدة “المستقبل”، أُسبوعيةً ثلاثَ سنواتٍ متتالية (عددها الأَول في 3 آذار/مارس 1916 وعددها الأَخير رقم 151 في 30 كانون الأَول/ديسمبر 1919). وهي عايشَت فترتئذٍ أَحداثًا مصيريةً كبرى، بينها اتفاقية سايكس-بيكو سنة 1916، وإِعلان وعْد بَلفُور سنة 1917، وكانت لشكري غانم مواقفُ حادَّة منها. وفي العدد الأَخير من جريدته، كتب افتتاحيةً جاء فيها: “نحن أَوَّلُ خُدَّام الحقيقة في الشرق، وأَوَّلُ من مات في سبيلها. وقد وَحَّدنا الموت، فلماذا لا تُوَحِّدنا الحياةُ لخدمةِ غايةٍ شريفة”؟

في تلك الحقبة من النضال في سبيل استقلال لبنان، كان المطران عبد الله خوري (رئيس الوفد اللبناني الثالث إِلى مؤتمر الصلح ممثِّلًا البطريرك الياس الحويك) في شباط/فبراير ١٩٢٠، كتبَ أَنَّ شكري غانم “دعَمَ مطالبَ وفدِنا بخصوص لبنان، أَي باستقلاله التام عن سوريا وتوسيعه إِلى حدوده القديمة”. بناءً عليه، كتب الجنرال غورو في 4 آب/أغسطس 1920 رسالةً إِلى شكري غانم يُبْلِغُه فيها أَنه ضمَّ إِلى لبنان في 3 آب/أغسطس أَقضيةَ بعلبك حتى حاصبيا وراشيَّا. وأَشاد بوطنية شكري غانم ودَوره في توسيع حدود المتصرفية وولادة لبنان الكبير.

بعدذاك بعشْر سنوات (سنة 1930)، حين أَنشأَ الفرنسيُّون ثُكْنةً عسكريةً في الفياضية، سَمَّوْها “ثُكْنة شكري غانم”، هي في لبنان الثُكْنةُ الوحيدةُ التي تحمل اسمَ شخصيةٍ مدنية.

بلى: إِنه أَيلول الواعدُ هذا العام، كما أَيلولُ قبل 105 سنوات، قدَرُ لبنان في استعادة أَنفاسه، وفي عزْم الدولة فعليًّا وميدانيًّا على بسْط سيادتها وسْع أَرض لبنان شبرًا شبرًا، حتى يَعود إِلينا، نقيًّا ساطعًا، لبنانُ اللبناني.

Exit mobile version