محمّد قوَّاص*
ساعاتٌ تَفصُلُنا عن 31 آب (أغسطس). كانت الترويكا الأوروبية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، أبلغت الأمم المتحدة عن عزمها تفعيل “آلية الزناد” (Snapback) في هذا التاريخ. والآلية هي بندٌ من اتفاق لوزان النووي لعام 2015 (المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة)، تُتيحُ إعادةَ كافة العقوبات الأُمَمية على إيران، إذا ما ارتأى أحد موقّعي الاتفاق أنَّ إيران لا تلتزمُ ببنوده.
ولأنَّ الوقتَ ضَيِّقٌ وحَرِجٌ، أعادت طهران طَرقَ أبواب أوروبا. في 26 الشهر الجاري التقى ديبلوماسيون من وزارات الخارجية في إيران والدول الأوروبية الثلاث وممثلٌة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي في جنيف. قبلها بأسابيع كانت طهران، على لسان وزير خارجيتها، عباس عراقجي، تُكرّرُ أنَّ الدول الأوروبية لا تملكُ الحقَّ القانوني والأخلاقي لتفعيل تلك الآلية. فيما مصادر برلمانية إيرانية هدّدت بالقطيعة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية(NPT). غيرَ أنَّ كلامَ المُكابَرة والتهديد استنفدَ ضروراته. أعاد عراقجي الوصلَ مع نظرائه الأوروبيين، الجمعة (22 آب/أغسطس الجاري)، والاتفاق على اجتماعِ جنيف الثلاثاء (26 آب/أغسطس).
لا تُريدُ طهران عودةَ عقوبات العالم أجمع بعدما كانت مُقتَصِرة على الولايات المتحدة وبلدان أخرى. ورُغمَ خطابِ المُكابَرة الذي يَصدُرُ من إيران عن عدم فعالية تلك العقوبات، فإنَّ العنوانَ الأوّل الذي رفعتهُ طهران حين خاضت خمسَ جولاتٍ من المفاوضات مع واشنطن كان رَفعَ العقوبات.
تستعينُ طهران بدعم روسيا والصين فتنالُ منهما بياناتَ الدَعمِ لا غير. تُعيدُ “آليةُ الزناد” العقوباتَ الأُمَمية تلقائيًا من دون المرور عبر مجلس الأمن الدولي. بكلمةٍ أُخرى، من دونِ أن تستطيعَ روسيا والصين صاحبتا حقِّ النقض (الفيتو) رَدعَ ذلك. وإذا ما تجتهدُ إيران لتجنّب علقم الآلية وعقوباتها، فإنَّ لأوروبا شروطها، وهي شروطٌ تنهلُ قوّتها من تنسيقٍ كاملٍ مع الولايات المتحدة.
عام 2018، حين سحبَ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب (في ولايته الأولى)، بلاده من الاتفاقِ النووي، اتّخَذَ أوروبيو الاتفاق موقفًا مُحايدًا داعمًا للاتفاق ساعيًا إلى حمايته. لم يَعُد موقفُ أوروبا مُحايدًا هذه الأيام، بل مُنحازًا إلى موقف واشنطن ورافدًا له. حتى أنَّ أوروبا باتت أكثر تطلُّبّا من الولايات المتحدة. ففرنسا مثلًا تُطالبُ بفتحِ ملف برنامج إيران للصواريخ الباليستية وأنشطتها المُزَعزِعة للاستقرار (العلاقة بالميليشيات الإقليمية)، فيما لا نسمعُ في واشنطن إلّا الحديث عن البرنامج النووي، حتى الآن.
تُريدُ طهران من أوروبا عدم تفعيل الآلية المُقلِقة. تقترحُ روسيا تأجيلًا للأمر. للآلية صلاحيةٌ تنتهي في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، أي مع انتهاء صلاحية الاتفاق النووي (2015-2025) وصلاحية القرار الأممي 2231 الذي صاحبه. أوروبا تُهدّدُ بتفعيل الآلية في آخر الشهر الجاري لحاجة التفعيل إلى 30 يومًا قبل أن يُصبحَ ساري المفعول. تتدخّل موسكو وتقترح تأجيل المدد 6 أشهر. قد تقبلُ أوروبا ومن ورائها واشنطن ذلك. يريدان بالمقابل تنازُلات من إيران: خفض سقف تخصيب اليورانيوم إن لم يكن وقفه. عودة مُفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإجراءات أخرى.
لا يعرفُ العالم شيئًا عمّا جرى للمفاعلات النووية الإيرانية بعد الضربات الأميركية التي تعرّضت لها في حرب حزيران (يونيو). لا يعرف ما يجري داخلها حاليًا. كما لا يعرف شيئًا عن مصير 400 كلغ من اليورانيوم عالي التخصيب، حتى لو قال عراقجي إنها مدفونة تحت الركام. بالمقابل تطلب إيران مرونة، وربما مُقابلًا يحفظ ماء الوجه كرفع بريطانيا بعض عقوباتها مثلًا.
بعدَ انتهاء جلسة جنيف قالت طهران: سنستمرُّ بالتفاوض. قالت أوروبا إنه وقتُ العمل والالتزام وليس وقت الأقوال. قبل أسابيع اشتعلَ جدلٌ في إيران بشأن مطالب لتيار إصلاحي بوقف تخصيب اليورانيوم والذهاب إلى المفاوضات. يلتقي الأمرُ مع مزاج الرئيس مسعود بزشكيان. وللمفارقة فإنَّ المرشد الأعلى، علي خامنئي، اعتبرَ الأمرُ جدلًا ولم يلعنه. ولأنَّ الوقتَ من ذهب، فقد تُفاجئنا طهران، مرةً أخرى، ببراغماتية تطيح بخطاب المُكابرة وتُقنعُ أوروبا بطيِّ ملف الآلية المقيتة ومفاعيلها، ذلك أنها أيضًا نذيرُ حربٍ جديدة مكروهة.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).