كابي طبراني*
أوائل الشهر الجاري، وتحتَ وطأةِ حَرِّ الأندلس القائظ، ووسطَ توتّراتٍ عالميةٍ مُتصاعدة، اجتمعَ قادةُ العالم -باستثناء الولايات المتحدة- في إشبيلية، إسبانيا، لمُواجَهةِ أزمةِ تمويلِ التنمية العالمية. وقد نتجَ عن ذلك “إلتزامُ إشبيلية” (Compromiso de Sevilla)، وهو اتفاقٌ جريء، نتجَ عن جُهدٍ شاق، يُعيدُ صياغةَ مستقبلِ التعاوُنِ الإنمائي. ويتجاوزُ هذا الإطارُ الجديد مجرّدَ إجماعٍ دولي، إذ يُمثّل تحوّلًا جيليًّا: بعيدًا من التسلسُلِ الهرمي بين المانحين والمُتلقّين، نحو نهجٍ أكثر إنصافًا وشمولًا، بقيادة بلدان “الجنوب العالمي” لتمويل التنمية.
انعقدَ المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية، في الفترة من 30 حزيران (يونيو) إلى 3 تموز (يوليو)، في وقتٍ حرجٍ دوليًا. فمن المتوقَّع أن تنخفضَ المساعدات الإنمائية الرسمية بنسبة تصل إلى 17% في العام 2025، بينما يعيشُ 3.4 مليارات شخص تحت أعباءِ ديونٍ ساحقة. في ظلِّ هذه الخلفية، واجَهَ قادةُ العالم عجزًا قدره 4 تريليونات دولار في تمويلِ أهدافِ التنمية المستدامة. ولكن على الرُغمِ من تصاعُدِ الضغوطِ المناخية والاقتصادية والسياسية، فقد التفّت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تقريبًا -باستثناء الولايات المتحدة- حول “التزام إشبيلية”، وهي نتيجةٌ لا تُنعِشُ التعدُّدية فحسب، بل تُشيرُ أيضًا إلى مسارٍ جديدٍ للتعاوُن الدولي.
يَكمُنُ جوهرُ هذه الاتفاقية في إعادةِ توازُنٍ جوهرية للنفوذ. فجنوبُ العالم، الذي لطالما هُمِّشَ في تشكيلِ المعايير المالية العالمية، لم يَبرُز كمُشاركٍ فحسب، بل كقائد. وتعكسُ ركائز الاتفاقية الثلاث -تعظيم أثر التنمية، وتعزيز ملكية البلدان، وإعلاء أصوات الجنوب- هذا التحوُّل في الأولويات. في الواقع، يُجسِّدُ مصطلح “compromiso” (وهو مصطلح إسباني يعني “الالتزام”) نبرتها الطموحة، مما يُميّزها عن “التنازُلات” التي حدّدت أُطُرَ التنمية السابقة.
ومن المفارقات أنَّ التوافُقَ لم يُصبح مُمكنًا إلّا بعد انسحاب الولايات المتحدة من المفاوضات في اليوم الأخير، رافضةً الأحكام التي اعتبرتها مُفرِطة في الطموح أو مُكَرَّرة. وبينما يُضعفُ غيابها آفاقَ التنفيذ في بعض الأوساط، إلّا أنه مهّدَ الطريق أيضًا لوثيقةٍ أكثر تماسُكًا وتطلّعًا للمستقبل. لقد واصلت بقيةُ العالم مسيرتها، مُصمّمةً على الإثبات بأنَّ التعددية -بعد إعادة صياغتها في قالبٍ أكثر شمولًا- لا تزالُ قادرةً على النجاح.
يعتمدُ اتفاقُ إشبيلية على إرثِ مؤتمرات التمويل من أجل التنمية السابقة، مثل “توافق آراء مونتيري لعام 2002″ و”خطة عمل أديس أبابا لعام 2015”. ومع ذلك، وعلى عكسِ مؤتمرات التمويل من أجل التنمية السابقة، يتجاوزُ اتفاقُ إشبيلية النماذجَ التي تُركّزُ على المساعدات. فهو يُعيدُ تصوُّرَ تمويلِ التنمية كعمليةٍ تشارُكية مُتعدِّدة الأبعاد. ويتجلّى هذا بوضوحِ في بنوده المُتعلّقة بمعالجة الديون السيادية – وهي أزمةٌ متنامية أجبرت أفقر دول العالم على إنفاق المزيد على خدمة الديون مُقارنةً بالصحّة أو التعليم.
ومن خلالِ مبادراتٍ مثل إنشاء سجلٍّ عالميٍّ للديون في البنك الدولي، ومنتدى للمقترضين بقيادة الأمم المتحدة، وبنودٌ لتعليق سداد الديون أثناء الأزمات، يتّخذُ الاتفاقُ خطواتٍ جادة نحو بناءِ هيكلٍ عالمي أكثر تماسُكًا وعدالةً للديون. ويُمثّلُ إنشاءُ مركزٍ جديدٍ لمُبادلات الديون من أجل التنمية (Debt Swaps for Development Hub)، بدعمٍ من التزام إيطاليا بتحويل 230 مليون يورو من الديون الأفريقية إلى استثماراتٍ إنمائية، مسارًا واعدًا للغاية للابتكار والتضامن.
لكنَّ إصلاحَ الديون ليس سوى جُزءٍ من الصورة. يستهدفُ الاتفاقُ أيضًا الحواجزَ النظامية أمامَ التجارة، ولا سيما بالنسبة إلى أقلِّ البلدانِ نموًّا، ويدعو إلى توسيعِ نطاقِ الوصول إلى التجارة التفضيلية، ودَعمِ الاندماجِ في سلاسل القيمة العالمية، والاستثمارِ في التجارة الرقمية. والأهمُّ من ذلك، أنه يسعى إلى تعزيز تعبئة الموارد المحلية – مساعدة البلدان على تحسينِ أنظمتها الضريبية، والحدّ من التدفّقات المالية غير المشروعة، وتعزيز الشفافية حتى تتمكّن من تمويل مستقبلها بشكلٍ أكثر فعالية. لقد طالَ انتظارُ هذا الدفع نحو السيادة المالية، وقد تعهّدت الدول المانحة الآن بمضاعفة دعمها لهذه الجهود.
بالطبع، لن يكونَ لأيٍّ من هذه الإصلاحات أيَّ أهمّيةٍ إذا ظلّت حبرًا على ورق. وهنا يأتي دور منصّة عمل إشبيلية. تضمُّ هذه المنصّة أكثر من 130 مبادرة، وتهدفُ إلى ترجمةِ الالتزامات إلى تأثيرٍ حقيقي من خلال الشراكات بين الدول والمجتمع المدني والقطاع الخاص. وقد وصف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، بحق، هذه المنصة ب”إرثِ المؤتمر”، ولكنَّ الأمرَ متروكٌ لجميع الأطراف المعنية لضمانِ أن يكونَ هذا الإرث عبارةً عن عملٍ يُنَفَّذ، وليس وعودًا لا تتحقّق.
ويستحقُّ العديدُ من مبادرات المنصّة ذكرًا خاصًا. ستساعدُ لجنة مستقبل التعاون الإنمائي المُقتَرَحة -المدعومة من إيرلندا وملاوي والمكسيك ونيبال وزامبيا ومؤسسة “غايتس”- في تطويرِ سرديةٍ جديدة قائمة على الأدلّة لتمويل التنمية. في الوقت نفسه، تعملُ كولومبيا وأوروغواي، إلى جانب بنك التنمية لأميركا اللاتينية، على تطويرِ نموذجِ استثمارٍ عام عالمي لإضفاءِ الطابعِ الديموقراطي على تجميعِ الموارد وصُنعِ القرار. كما يعملُ تحالفٌ من منظمات المجتمع المدني، بما فيها مركز حوار السياسات في بنغلاديش ومركز التعاون الدولي في جامعة نيويورك، على بناءِ أُطُرٍ للمساءلة لمراقبة التنفيذ وضمان الشفافية.
ولكن، لا تخلو الوثيقة من عيوب. فقد أُجِّلَت بشكلٍ ملحوظ الجهودُ المبذولة لإصلاح المؤسّسات المالية الدولية، مما تركَ زمامَ الأمور بأيدي أعضاء مجلسَي إدارة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي – حيث البلدان النامية مُمَثَّلة تمثيلًا ناقصًا وضعيفًا. وتعرّضت مقترحات توسيع حقوق السحب الخاصة أو إنشاء سجل عالمي للملكية الانتفاعية للتخفيف أو الغموض. ولم تُلبِّ الصياغة النهائية بشأن تمويل المناخ طموحات اتفاقية باريس، مما دفع بعض “دول الشمال” إلى إصدارِ تحذيرات.
مع ذلك، حتى مع هذه العيوب، تُمثل اتفاقية إشبيلية تحوُّلًا محوريًا عن نمط العمل المعتاد. فلطالما تأثّرَ تمويلُ التنمية بديناميكيات القوة التي تُعامِلُ الدول النامية كمُتَلَقّين سلبيين للمساعدات، خاضعين لهياكل وشروط غامضة. وتبدأ اتفاقية إشبيلية بتفكيك هذا النموذج، واستبداله بنموذج قائم على الاحترام المتبادل والمسؤولية المشتركة والملكية الوطنية.
ربما تكون الولايات المتحدة قد انسحبت من العملية، لكن غيابها لم يوقِف أو يشلّ التقدُّم. بل على العكس، فقد حفّزَ دولًا أخرى على المضي قدمًا. إشبيلية ليست رفضًا للغرب، بل إعادة تقييم للأولويات العالمية تعكسُ عالمَ اليوم متعدّد الأقطاب. وبذلك، تُضافُ إلى مجموعةٍ متزايدة من الأدلة -من معاهدة الأمم المتحدة للمحيطات إلى اتفاقية منظمة الصحة العالمية بشأن الأوبئة- لتؤكّد على أنَّ التعددية تتطوّر، ولا تحتضِر.
وكما قال السفير الزامبي تشولا ميلامبو ببراعة، فإنَّ التنفيذ هو المهم الآن. إنَّ اتفاقية إشبيلية ليست نهاية المطاف، بل هي بداية. لقد وُضِعَت خطّةُ عمل. وسيُحدّدُ التزامُ العالم بها ليس فقط مستقبلَ تمويلِ التنمية، بل أيضًا قدرة التعاون الدولي على مواجهةِ تحدّيات القرن الحادي والعشرين.
لقد أضاءت إشبيلية دربًا، وعلينا جميعًا أن نسلكه…
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani