في حديث الشعر (17)

“قطرات ندى” تكثيفٌ يَقطُر جمالًا

هنري زغيب*

قلتُ في “حديثٍ” سابقٍ إِني لا أُميِّز، في المستوى والإِبداع، بين الشعر والنثر، وإِن كلًّا منهما فنٌّ صعب، وإِنَّ لكل منهما عبقريتَه التي لا تُشْبه عبقرية الآخر.

وقلتُ إِنَّ للشعر مراتبَ تتمادى بين النَظْم البارد والشعر النابض، وإِنَّ للنثر مراتبَ تتراوح بين السرد العادي والنثر الأَدبي والنثر الجمالي. 

في هذا المقال اليوم، أَتوقَّف عند إِبداعٍ خاصٍّ بالنثر الجمالي.

نحتٌ بإِزميل الجمال

كتابٌ كاملٌ في النثر الجمالي، تستلزم كتابته قواعد صارمةً وأُصولًا ذاتية.

والنثرُ الجمالي ليس ليضير النَثر الآخَر، النَثر السَرديَّ (مقالات، مقدمات، خُطَب، دراسات، قصص، روايات، …). والناثر المحترف يعمل على كلِّ نثره بكلّ تأَنٍّ، ليجعلَه بِحَدٍّ أدنى نثرًا مشغولًا بأَناقةِ وردةٍ لَم يبلُغ شُغلُها، بعدُ، صياغةَ اللؤْلؤَة. وتبقى هذه الأَخيرة للناثر الجمالي المبدع يتأنّق فيها نبضًا وشكلًا وأداءً، بِحَدٍّ أَعلى من الوقوف تَهَيُّبًا أَمام صياغة الجمال.

“كتاب عبدالله” إِخضاعُ الفكر للنثر الجماليّ

جمالُ التكثيف                                                                      

للنثر الفني الجمالِيّ طقوسُهُ وأُصولُه وقاموسُه. فَرُبَّ تعبيرٍ يَدخُل في مقالٍ أَو نصٍّ سردي، ولا يدخل في النثر الفني أو في الشعر. ورُبَّ موضوعٍ يعالِجُه النثر العادي، ويأْبى أن يعالِجَه النثر الفني أَو الشعر. للعاديِّ الوصفُ والسَرد والتطويلُ والتعبير وعدم التكثيف (مقال، بَحث، خطبة، …)، بينما للفني والشعرِ أَقصى التجريد. والتكثيفُ أَجْمل التجريد. التكثيف الْتزامُ الاختصار. التطويل حالةٌ مادية – واللغة، بطبيعتها، مادية -، بينما بالتكثيف نَجعل التفاصيل المادية تَجريدية.

الياس خليل زخريَّا: التجريدُ طريقُ النثر الجماليّ

مثالٌ أَول: مساحة للمطلق

آخُذُ نصًّا وجيزًا مكثَّفًا: “رُؤْياكِ… فأَرى“. بأَقصى التجريد والتكثيف، أي بما سوى كلمتَين، يختصر الكاتبُ حالةً هيولانيةً كبرى، ويترك حول الكلمتَين مساحةً من التجريد يتلقَّاها القارئُ بإِحساسٍ يصوغُهُ كما هو يريد، فكريًّا وذهنيًّا وتَخَيُّلِيًّا. إِنّها مساحةٌ للمُطلَق، مفتوحةٌ على وساعةٍ للأَحاسيس يُفسدها وصف لغويٌّ ذو حالةٍ مادية.

“المفكرة الريفية” صفحاتُها ينبوعُ النثر الجماليّ

مثالٌ ثانٍ: الإيقاع الأَرَقّ

آخُذُ نصًّا موجَزًا آخَر: “رَحْمُكِ… أَم الزنبق؟“. جَمالُها أَنَّها جُملةٌ اسْمية. إِذا الفعل عمودُ الجملة الفقريُّ، فإِضمارُهُ من الجمال ما يَجعل الجملة أَنقى تكثيفًا وأَرَقَّ إِيقاعًا. وأَنا في جميع كتاباتي، شعريِّها والنثريّ، لا أُؤْمن بِـ”إِيقاعٍ داخليٍّ” (أَي مُتَوارٍ، مبَطَّنٍ) عليَّ أَن أَبْحثَ عنه لأَفهمَه. لا… الإِيقاعُ أَن يفرضَ وقْعَهُ عليَّ بجِرْسِهِ الواضح الجَلِيّ وسطوع حضوره.

عبقريةُ السكون والحركة

الإيقاع تُكوِّنُه الأَحرف والكلمات. وهذه أَساسٌ في النص الجمالِيّ. للحروف جِرْسٌ  خاص. رنينٌ خاص. وللحركات عليها رنينٌ خاص. وليست مصادفَةً أَنَّ الأجْملَ وقوعُ الحرف الرابع ساكنًا بعد ثلاثةٍ متحرّكة، والأَضعفَ وقوعُ متحرِّكٍ رابعٍ بعد ثلاثة. في النص الجمالِيّ، كلُّ حرفٍ يُحسَب. وتُحْسَبُ هذه الحرَكَةُ أَو تلك على ذاك الحرف. فَلْيَتَأَنَّ صاحبُ النص الجمالِيّ في اختيار حروفٍ ذات جِرْسٍ ورنين، وليتَعمَّدْ حركةً على حرف قد لا تكون مؤَاتيةً حرفًا آخر. ولْيُعانِ وجَعَ الإِيْجازِ اللذيذَ، فيستبدلْ كلمةً بأُخرى، أَو يبدِّلْ مكانَ كلمةٍ يُقَدِّمُها أَو يؤَخرها، ولْيعتمدِ التكثيفَ الجميلَ والتجريدَ غيرَ الغامض، وليتركْ حول الكلمات فُسحةً تتنفَّسُ فيها على هواها، وتفتحُ المخيِّلةَ عند القراءة واسعةً لا إِلى حدود.

التوجُّه إِلى البصر ومخاطَبَة البصيرة

ضروريّةٌ هذه التمييزات أَعلاه، لِتَجَنُّب الوقوعِ في شَرَكٍ شفَّافٍ يغلِّف الفارق بين النثر العاديّ والنثر الجَمالِيّ والشعر.

هكذا يكون كتابٌ في النثر الجمالِيّ.

النثر إِجْمالًا تعبيريٌّ يُخاطب البصر. النثر الجمالِيُّ تَجريديٌّ مُكَثَّفٌ يَختطف البصَر إِلى البصيرة.

وطوبى لِمن أُعطِيَ له في أَدبهِ، شعرًا أَو نثرًا، أَن يتوجَّه إِلى البصَر كي يُخاطِبَ البصائر.

Exit mobile version