الاحترافُ كوظيفة: قُساةٌ فَوقَ رُكامِ التناقُضاتِ العَصِيَّة

البروفِسور بيار الخوري*

في سياقِ تعامُلِه مع الشرق الأوسط، لا يتبعُ الغربُ منطقَ بناءِ الدول أو هندسة المجتمعات، بل مقاربةً براغماتيةً تقومُ على سؤالٍ واحد: مَن يستطيعُ الإنجاز؟ مَن يستطيعُ الضبط؟ هذا ما يُفسّرُ تفضيله العمل مع أنظمةٍ أو شخصياتٍ “مُحتَرِفة” قادرةٍ على تقديمِ نتائج: كبحُ التطرُّف، ضبطُ الحدود، تأمينُ الطاقة، الحفاظُ على إسرائيل، مَنعُ المهاجرين. لذلك، لم يكن الغربيون بحاجةٍ إلى إقناعِ أنفسهم بأنَّ صدّام حسين أو بشّار الأسد أو علي عبدالله صالح أو مُعمّر القذّافي “مُصلِحون” أو “أخلاقيّون”، بل كانوا يُدرِكون تمامًا أنّ أنظمةَ هؤلاء تقومُ على القمعِ لمَنعِ التفكيك الداخلي، لكنهم –بوَعيٍ كامل– راهنوا على قدرتها على تأجيل الانفجار، لا منعه.

صدّام حسين كانَ يُنظَرُ إليه كحاجزٍ ضدّ إيران وضابطٍ للشيعة في نقطةِ قَطعٍ/وَصلٍ بين قوميّاتٍ ثلاث، ورُغمَ معرفة الغربيين باستخدامه السلاح الكيماوي ضدّ الأكراد، لم يُشكِّل ذلك مانعًا من التعاون معه في الثمانينيات. لكنه، حين قرّرَ اقتحامَ المنظومة الإقليمية من بوابة غزو الكويت، خرَجَ عن “وظيفته”، فلم يَعُد مُنضَبِطًا بل أصبح عبئًا. فأسقطوه، ليس لأنهم اكتشفوا فجأةً أنه ديكتاتور، بل لأنه تجاوزَ الدورَ المرسومَ له.

القذافي، الزعيم المهووس بالفوضى، استطاعَ لعقودٍ أن يُقدّمَ نفسه كضامنٍ لوحدةٍ قَبَليّةٍ مُتفجِّرة، ومُشَغّلٍ مَوثوقٍ لصمّامِ الهجرة نحو أوروبا، ومُوَرِّدٍ نفطي مُربِح. وعندما بدأ التمرُّد عليه، أدركَ الغربيون أنَّ النظامَ بلا مؤسّساتٍ حقيقية، وأنَّ البديلَ سيكونُ الفوضى، لكنّ ذلك لم يمنعهم من التدخّلِ عسكريًا وإسقاطه، بدونِ أيِّ تصوُّرٍ لليوم التالي، لأنَّ وظيفة “الضبط” سقطت، ولم تكن هناك رغبةٌ أو قدرةٌ على إدارةِ ما بعدها.

علي عبدالله صالح، سيِّدُ التوازنات القبلية والمناورات المذهبية، قدّمَ للولايات المتحدة ما تريده: تعاونٌ في مكافحة الإرهاب، وفي الوقت نفسه استمرار السيطرة على بلدٍ يعيشُ على التناقضات. لم يَكُن أحدٌ يَتَوَهّمُ أو لا يَعرِفُ أنَّ اليمن ليس دولةً بالمعنى المؤسّسي، بل هو شبكةٌ تُدارُ بـ”رقصةِ رؤوس الأفاعي” (كما اسماها صالح نفسه)، لكنها كانت تنجح. وعندما سقطَ صالح، ثم انقلبَ عليه حلفاؤه، سقطَ معه كلُّ ما تبقّى من التوازنات، وتحوّلت اليمن إلى مسرحٍ لحربٍ أهلية طويلة لا أُفُقَ لها.

بشّار الأسد، خليفة والده الحاكم “المُحتَرِف” في نظرِ الغرب، لم يَكُن غريبًا عن هذه المعادلة. تعامَلَ معه الغربُ في بدايةِ حكمه على أساسِ أنّهُ “طبيبُ عيونٍ مُنفَتِح” قادرٌ على تحديث الدولة. لكنَّ هذا التسويق لم يكن ضروريًا في دوائر القرار التي تعرفُ أنَّ سوريا تُدارُ بشبكةٍ أمنية تحكُمُ بلدًا مليئًا بالقنابل الاجتماعية. حتى 2011، كانَ الغربُ يرى في النظامِ أداةً لضبطِ الحدودِ مع إسرائيل، ولعبَ دورٍ وظيفي في توازُناتِ الإقليم. لكن حين بدأ النظامُ يترنّح، صار واضحًا أنَّ الاحترافَ الأمني لا يمكنه تأجيلَ الانفجارِ إلى ما لا نهاية، وبدأت الانقسامات بالظهور، ثم الحرب، ثم التدخُّل الروسي ثم السقوط.

القاسَمُ المُشترك هنا أنَّ الغربَ لم يكن “مخدوعًا”، بل كان يُديرُ ما يُمكِنُ تسميته بتبنِّي نموذج “الضغط الاحترافي”: يبقي الرهانُ قائمًا على قدرةِ الحاكم على السيطرة، حتى تصل المنظومةُ إلى لحظةٍ حرجة تتجاوزُ فيها طاقتها على التسليم. عندها، يُرفَعُ الغطاء، ويتحوّلُ الفاعلُ السابق إلى عبءٍ أو خطرٍ أو مادةٍ للفوضى الخلّاقة. وفي معظم الحالات، لا يتدخل الغرب لبناءِ البديل، بل يترك المشهد ليتفسّخ من الداخل، ليُعاد ترتيب الخرائط وفق توازنات جديدة.

الأهم أنَّ هذه الاستراتيجية لم تكن يومًا سياسةَ جهلٍ أو حُسنَ نيّة، بل سياسة إدارة تناقُضاتٍ عَصِيّة على الحل: استخدامُ الأنظمة السلطوية حتى آخر نفس، ثم القبول بانفجارها، لا لأنَّ ذلك مطلوبٌ، بل لأنه مُحتَمَلٌ ومُدار، طالما أنَّ مصالحَ الغرب الجوهرية لم تُمَس.

لهذا، فإنَّ مفهومَ “الاحتراف” في الخطاب الغربي ليس اعترافًا بالشرعية أو الاحترام، بل إقرارٌ بقدرة النظام على تأجيلِ الكارثة، لا أكثر. هو رهانٌ على الزمن، لا على الإصلاح. وما إن ينقضي هذا الزمن، حتى يصبح الحليف السابق، أكانَ صدّامًا أو صالحًا أو القذافي أو حتى الأسد، إما فائضًا عن الحاجة، أو عبئًا يجب التخلص منه… أو مادة لإعادة رسم الخرائط.

ضمن السياق عينه، يكتسبُ تصريحُ المبعوث الأميركي السفير توم باراك عن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، بعد لقائه في عين التينة منذ أيام، بُعدًا رمزيًا يتجاوز المجاملة الديبلوماسية، حين قال: “عندما نتعامَلُ مع محترف، تُصبِحُ الأمورُ أسهَل”، لم يَكُن يُثني على شخصيةٍ سياسية فحسب، بل كانَ يُعيدُ تفعيلَ المنطق ذاته الذي حَكَمَ علاقةُ الغرب بزعماء الشرق الأوسط لعقود. برّي، من وجهةِ نظرٍ كهذه، لا يُقاس بموقفه من “حزب الله” أو بموقعه من الغرب، بل بقدرته على أن يكونَ “مَن يُمكِنُ التفاهُم معه”، رجلُ الممرّات الخلفية والضبط السياسي، القادر على إدارة التوازنات داخل نظامٍ لبناني مُتَشَظٍّ.

بهذا المعنى، لا يرى الغرب في برّي خصمًا أو حليفًا على أساسٍ مبدئي، بل “ضابط إيقاع” يملكُ أدواتَ الضبط بدون الحاجة إلى فرضِ تغييرٍ جذري. تمامًا كما رأى سابقًا في صالح أو الأسد أو غيرهما، رجالًا قادرين على تأجيل الانهيار، ولو عبر إدارةِ ضُعفٍ بُنيوي. تصريحُ البمعوث الأميركي يَعكُسُ هذه المدرسة في التفكير: طالما أنَّ هناكَ “محترفًا” يستطيعُ تسليمَ نتائج – كبح الانفجار، تمرير تسويات– فإنَّ الغربَ لا يُمانعُ في الرهان عليه، ولو ضمنيًا. لكنه في الوقت نفسه يعرفُ أنَّ هذا الاحترافَ له سقف، وأنَّ الضغطَ المُستَمِر قد يصلُ يومًا إلى نقطةِ اللاعودة. وفي الحالة اللبنانية، قد يكونُ برّي هو آخر المحترفين الذين يعرفون جيدًا لعبة تأجيل الفوضى بدون امتلاكِ أدواتِ حلّها، مما يجعل الاحتراف نفسه أداة في لعبة تآكلٍ طويلة الأمد.

Exit mobile version