بين الحوارِ والجمود: هل يستطيعُ لبنان نزعَ سلاح “حزب الله” سلميًّا؟

مايكل يونغ*

أثارت زيارة توم برّاك، السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، قلقًا في بيروت. فقد أوضح برّاك أنَّ على الطبقة السياسية في لبنان أن تقومَ بما عجزت عنه طوال 35 عامًا منذ انتهاء الحرب الأهلية، وهو حلّ مشكلةٍ وطنية حرجة بدلًا من الاستمرار في شراء الوقت.

من خلال تأكيده أنَّ نزعَ سلاح “حزب الله” أولوية إذا أراد لبنان الخروجَ من حالةِ الشلل والانقسام والعزلة التي ميّزت سنوات هيمنة الحزب الشيعي بعد العام 2011، أشارَ المبعوث الأميركي إلى أنَّ الوقت قد شارف على النفاد. وزادت تصريحاته الأخيرة لصحيفة “ذا ناشيونال” من القلق في بيروت، حين قال: “أعتقد بصدق أنهم سيقولون ‘العالم سيتجاوزنا’. لماذا؟ لأنَّ لديكم إسرائيل من جهة، وإيران من الجهة الأخرى، والآن سوريا بدأت تفرض نفسها بسرعة، وإذا لم يتحرّك لبنان، فسيعودُ إلى بلاد الشام من جديد.”

المشكلة الوحيدة هي أنه لا تُوجَدُ وسيلةٌ سهلة لنزع سلاح “حزب الله” إذا رفضَ تسليمه. وقد أوضح الحزب بجلاء أنه لا يعتزمُ القيام بذلك. وهذا يضع الرئيس جوزيف عون في مأزق. فهو لا يتوقف عن التكرار بأنَّ “القرارَ قد اتُخِذ” لاحتكار الدولة للسلاح، لكن هذا يبدو أشبه بالنكتة القديمة حول الزواج من عارضة الأزياء كلوديا شيفر: “أنا أريد الزواج من كلوديا، وأهلي موافقون تمامًا. الآن كل ما نحتاجه هو إقناع كلوديا”. الكلُّ يوافق على ما قاله الرئيس، لكن ما نحتاجه الآن هو إقناع “حزب الله”.

منتقدو عون، وعلى رأسهم رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، لا يملكون رؤيةً أوضح بشأن كيفية التعامُل مع “حزب الله”. الجميع يعلم أنَّ اللجوءَ إلى القوة قد يتحوَّلُ سريعًا إلى صراعٍ أهلي ويقود إلى مأزقٍ ستكونُ له عواقب كارثية على البلاد، وكذلك على الجيش ووحدته. برّاك نفسه أقرّ بذلك في مقابلته، عندما أشار إلى أنَّ عون يسعى إلى تجنّبِ حربٍ أهلية. وبينما اعتبر أنَّ الجيش يُنظَرُ إليه على أنه “الوسيط الأفضل والأكثر حيادية ومصداقية”، إلّا أنه يعاني من “نقصٍ حاد في التمويل نتيجةً لانهيار الاقتصاد اللبناني”. لذلك، لم يكن المبعوث الأميركي مندفعًا بقدر ما كان كثيرون من اللبنانيين، وكانت إشارته إلى الجيش بوصفه “وسيطًا” بدلاً من “منفّذ” دليلًا لافتًا.

فما العمل إذًا؟ رُغمَ أنَّ عون يملك حسًّا سليمًا في تعامُلِه الحذر مع مسألة “حزب الله”، إلّا أنه يفتقُر إلى خطّةٍ واضحة. ويبدو جليًّا أنَّ رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة نواف سلام لا يعملان بتناغُمٍ في هذا الملف، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا. فمنذ البداية، أعلن رئيس الجمهورية أنه سيتولى الحوار مع “حزب الله” بنفسه. والآن، عليه أن يُثبتَ قدرته على التقدّم في هذا المسار.

لكنَّ الحوارَ بلا أهدافٍ واضحة هو حوارٌ بلا جدوى. على عون أوّلًا أن يُحدِّدَ إلى أيِّ مدى “حزب الله” مُستعِدٌ للقبول بأن تحتكرَ الدولةُ السلاح. فإذا تهرّبَ الحزبُ من ذلك، فإنَّ الأمرَ يعني عمليًا أنه يتحدّى سيادة الدولة، وهو أمرٌ لا يمكن للرئيس التهاون فيه. وفي هذه الحالة، من المنطقي أن يُصار إلى بناءِ توافُقٍ وطني حول سلطة الدولة الحصرية على السلاح، وتكريس هذا المبدَإِ في منتدى وطني يشمل طيفًا واسعًا من القوى السياسية وممثلي المجتمع المدني. ونظرًا لأنَّ الرئيس لا يريد أن يبدو كمَن يستهدفُ فقط “حزب الله” والطائفة الشيعية، يمكن لهذا المنتدى أن يشملَ نقاشًا حول جميع الجماعات المسلحة خارج سلطة الدولة، بما في ذلك الفصائل الفلسطينية. بهذه الطريقة، فإنَّ رَفضَ “حزب الله” لنزع سلاحه سيؤدي إلى مزيدٍ من عزله، وسيمنح الرئيس فرصةً لوضع جدول زمني وأهداف واضحة للحوار.

وبالتوازي، يجب على عون الاستمرار في تقليص هامش المناورة المتاح ل”حزب الله” داخل مؤسّسات الدولة، بحيث يُجبَرُ الحزب تدريجًا على التراجع من بعض المواقع التي كان يسيطر عليها. وقد تحرّك عون بقوة نسبيًا في مطار ومرفَإِ بيروت، وكذلك في الضاحية الجنوبية وفي الجنوب، ولكن إذا ما قاوم الحزب جهودَ الدولة لفَرضِ سلطتها الشرعية، فسيكون من حق الرئيس رفع السقف. وإذا ما بادر الحزب إلى التصعيد، فسيكون ذلك لصالح الدولة، لأنَّ الحزب سيخرج من المواجهة أضعف على الصعيد الوطني. وهذا أمرٌ لا يستطيع تحمّله، لا سيما في وقتٍ بدأ السُنّة يشعرون بثقةٍ مُتجدِّدة، وتُواصل إسرائيل هجماتها ضد مواقع “حزب الله”، والطائفة الشيعية تتوق للعودة إلى نوعٍ من الاستقرار بعد نحو عامين من المعاناة والصراع.

قد يتردّدُ عون في اتخاذ خطوةٍ إضافية، لكنه بحاجة إلى فتح قنوات اتصال مع إيران لمناقشة مستقبل “حزب الله”. فمصيرُ الحزب، إلى حدٍّ بعيد، في أيدي الإيرانيين، لذا من المنطقي أن تجري السلطات اللبنانية نقاشًا مع طهران على مستوى الدولة. لا يوجدُ أيُّ مبرِّرٍ لأن يُملي “حزب الله” على لبنان شكلَ علاقاته مع إيران. وإذا ما امتلكت الدولة توافُقًا وطنيًا حول احتكار السلاح، فيُمكنها الدخول في حواراتٍ مع أطرافٍ إقليمية لتحقيق هذا الهدف، ما يجعل النقاش مع إيران ضروريًا. وربما لا يؤدّي ذلك إلى نتيجة، لكن عون قد يتمكّن على الأقل من استكشاف ما إذا كانت إيران تبحث عن نوعٍ من المقايضة لتسهيل نزع سلاح الحزب، أو عن ثغرة يمكن أن تُسهّل نجاح الحوار معه.

بمعنى آخر، حتى لو لم يكن لدى عون خطة واضحة اليوم، إلّا أنه في موقعٍ جيد لتجميع أوراق قوة على الصعيدَين الداخلي والإقليمي تُعزّزُ موقفه. الجلوسُ والتحاورُ مع محمد رعد، رئيس كتلة “حزب الله” النيابية، لن يفضي إلى الكثير ما لم يشعر الحزب بأنَّ الدولة تتمتّعُ بدعمٍ داخلي وإقليمي، بينما هو في حالة تراجُع.

كما يتعيّن على اللبنانيين الدخول في مسارٍ تفاوضي ثانٍ على قدرٍ كبير من التأثير على حوارهم مع “حزب الله”— وهذا المسارُ يتمثل في سوريا. لقد تردّدوا في سلوك هذا الطريق، إذ يبدو أنَّ عون وسلام لا يتفقان حول جدوى مثل هذه المحادثات. ولكن، ما لم يتفق الرجلان على تطبيع العلاقات مع دمشق وتقديم تطمينات ل”حزب الله” بأنَّ الدولة قادرةٌ على حماية جميع مواطنيها، بما في ذلك الشيعة، من أيِّ تهديدات سورية محتملة، فإنَّ الحزب سيستخدم ذريعة “الخطر الجهادي السنّي” كحجة للاحتفاظ بسلاحه.

وإذا ما تطلّبَ ذلك التوصُّل إلى حلٍّ سريع لملف السجناء السوريين في لبنان—وهو نقطة خلاف رئيسة بين بيروت ودمشق— فينبغي أن يُدرَج هذا الملف في رأس جدول الأعمال. وفي الوقت نفسه، يجب على الدولة اللبنانية أن تتحرّك بقوة أكبر ضد المهرِّبين عبر الحدود، وهو مطلبٌ سوري مهم، في إطار سعي الدولة لاستعادة السيطرة الكاملة على القضايا التي تمسّ سيادتها. وقد لا يؤدّي كل ذلك إلى تخلّي “حزب الله” عن سلاحه، لكنه يمكن أن يُضعِفَ الأُسُسَ التي يستندُ إليها في رفضه، ويمنح عون وسلام أوراقًا إضافية.

لكن، لا تزال هناك أسئلة مفتوحة. هل يملك عون الاستعداد لمواجهة الطائفة الشيعية، التي يحتاج دعمها إذا ما قرّرَ بناءَ كتلةٍ نيابية موالية له في الانتخابات المقبلة؟ وهل إسرائيل مَعنيةٌ فعلًا بأن تنجح الدولة اللبنانية في نزع سلاح “حزب الله”، في حين أنها تُفضّلُ تفكيك الدول العربية المحيطة بها— خصوصًا سوريا، لكن أيضًا لبنان؟ وهل ستكون مستعدة لاتخاذ خطوات لبناء الثقة مثل الانسحاب من مواقع محتلة في الجنوب، ما يمنح عون مزيدًا من المصداقية عبر الإظهار بأنَّ الدولة قادرةٌ على تحرير أراضٍ بدون اللجوء للعنف؟

وربما الأهم من كل ذلك: ما هو موقف الولايات المتحدة؟ فقد رفض برّاك تقديم ضمانات للبنان خلال زيارته الأخيرة، ما يوحي بأنَّ واشنطن لن تبتعد كثيرًا عن أجندة إسرائيل في لبنان. لكن ماذا يعني ذلك فعليًا؟ لقد كان المبعوث الأميركي واضحًا في مقابلته مع صحيفة “ذا ناشيونال” بشأن صعوبة التحديات التي يواجهها لبنان، فإلى أي مدى الأميركيون مستعدون لبذل جهد حقيقي لتمكين نتيجة إيجابية في المفاوضات مع “حزب الله”؟ وإذا كانت واشنطن حريصة على تفكيك شبكة الحلفاء الإقليميين لإيران، فلماذا لا تجعل هذا الأمر جُزءًا من مفاوضاتها مع طهران، وهو أمرٌ تجنبت القيام به بشكل واضح حتى الآن؟ يمكن للمسؤولين اللبنانيين أن يؤدّوا دورًا أفضل مما فعلوا حتى الآن، لكنهم لا يستطيعون حلَّ جميع مشكلات البلاد بمفردهم.

Exit mobile version