كابي طبراني*
في أعقابِ الانهيارِ الدراماتيكي لنظام بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024، لَمَحَ السوريون مستقبلًا غابَ عنهم لأكثر من عقدٍ: أمَلُ الوِحدة والنظام، وربما السلام. كانَ في قلبِ هذا الأمل وَعدٌ جريء، وإن كان مُرهِقًا، وهو إنشاء جيشٍ سوري واحدٍ مُوَحَّدٍ من أنقاضِ ساحةِ معركةٍ مُشتَّتة ومُجَزَّأة. لقد تركت ثلاثة عشر عامًا من الحرب الأهلية سوريا مُقَسَّمةً بين فصائل وإيديولوجيات ومصالح أجنبية مُتناحِرة. مَنَحَ سقوطُ النظامِ الحكومةَ الانتقالية، بقيادة الرئيس المؤقت أحمد الشرع، فُرصةً نادرةً لبناءِ تماسُكٍ داخلي من وَسَطِ الفوضى.
لكن بعد أكثر من ستة أشهر، لا تزالُ غالبية الأسلحةُ في سوريا خارج سلطة الدولة وتُشكّل خطرًا وجوديًا على الحُكم الجديد. لقد أسفرت المساعي لتوحيد الميليشيات تحتَ قيادةٍ وطنية عن رموزٍ للتقدم -زيٌّ عسكري وألقابٌ وإعلاناتٌ رسمية- ولكن من دونِ تكامُلٍ حقيقي يُذكَر. لا يزالُ الجيش، على حاله، خليطًا من الولاءات المُتنافِسة، والتحالفات الهَشّة، وأمراءِ الحرب المحلّيين الذين يتردّدون في مُقايضةِ الاستقلالية بانضباطِ التسلسُل القيادي.
إنَّ رؤيةَ جيشٍ وطني -مُوالٍ للدولة لا لطائفة أو منطقة أو إيديولوجية- أمرٌ جوهري. فبدونه، لا يُمكِنُ لسوريا استعادةَ احتكارها لاستخدام القوة، ناهيك عن الحُكمِ بفعالية. ومع ذلك، لا تزالُ العمليةُ مشلولةً بسبب أربع عقباتٍ مُتداخلة وراسخة: انعدامُ الثقة بين الفصائل، ونقصُ القدرات المالية والمؤسّسية، والانقساماتُ الإيديولوجية العميقة، وتَدَخُّل القوى الأجنبية.
أوَّلُ عائقٍ، وربّما الأكثرُ تآكلًا، هو انعدامُ الثقة. فبالنسبة إلى العديدِ من الفصائل، وخصوصًاً تلك التي حاربت طويلًا ضد بعضها البعض أو جنبًا إلى جنب، فإنَّ فكرةَ الانضمامِ إلى جيشٍ وطني بقيادة “هيئة تحرير الشام” -أقوى جماعةٍ وراءَ هزيمةِ الأسد- ليست اقتراحًا بقدرِ ما هي استفزاز. ف”هيئة تحرير الشام”، بتاريخها الحافل بالهَيمَنة والإكراه، تُثيرُ الخوفَ والقلقَ أكثر من الثقة. وقد أكّدَ تعيينُ شخصياتٍ من الهيئة في مناصب عسكرية عُليا أسوأ مخاوف العديد من الجماعات غير المُنحازة: إن هذا الجيش ليس جيشًا وطنيًا، بل هو محاولةٌ للاستيلاءِ على السلطة بالزيِّ الرسمي.
أمّا الفصائل في جنوب وشمال شرق دمشق، وحتى أجزاء من ريفها، فقد كانت مُتَرَدّدة أو حتى مُتحَدِية تمامًا. فهي تَرفُضُ تسليم الأسلحة الثقيلة، وتصرُّ على البقاء كوحداتٍ سليمة، وتُشكّكُ في حيادية تعيينات القيادة. وتكمنُ وراءَ هذه الإجراءات حقيقةٌ مؤلمة – يخشى العديد من المقاتلين أن يفتحَ إلقاءُ السلاح البابَ أمامَ الملاحقة القضائية على انتهاكات الحرب. وفي ظلِّ غيابِ خطّةٍ واضحةٍ للعدالة الانتقالية، يتفاقَمُ انعدامُ الثقة.
حتى لو توفّرت الإرادة السياسية، فإنَّ العقبة الثانية -المال- ستظلُّ عائقًا كبيرًا. بناءُ الجيش مُكلِف. إقتصادُ سوريا مُنهَك، وبُنيتها التحتية في حالةٍ يُرثى لها، والاحتياجاتُ الإنسانية لشعبها هائلة. تُواجِهُ الحكومةُ الانتقالية مَعضِلةً كُبرى: إعادةُ بناء الجيش، إطعامُ السكان، أم إعادة إعمار البلاد؟ لم يُقدّم المانحون الدوليون، المتخوّفون من انتهاكات الماضي وأصول “هيئة تحرير الشام” المتطرِّفة، تبرعاتهم رُغمَ وعودهم. في ظلِّ هذا الفراغ، تواصل الجماعات المسلحة تلقّي رواتب من رُعاةٍ أجانب أو من خلالِ برامج إيرادات محلّية مثل التهريب ورسوم نقاط التفتيش – مما يجعلها مستقلّةً وظيفيًا ومُكتَفيةً ذاتيًا ماليًا.
التحدّي الثالث إيديولوجي. لقد أصبح تنوُّعُ سوريا -الذي كان سابقًا يُمثّلُ أعظم قوّتها- مصدرًا للانقسام. لطالما دعت “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي يقودها الأكراد والميليشيات الدرزية في السويداء إلى سوريا لامركزية وعلمانية. تتعارَضُ رؤيتهما بشكلٍ مباشر مع التوجُّهات الإسلامية ل”هيئة تحرير الشام” وقيادتها المركزية. وبدونِ ضمانات التمثيل السياسي والحُكم الذاتي المحلّي وحماية حقوق الأقليات، فإنَّ هاتين المجموعتَين وغيرهما من المجموعات الأُخرى لن تخضعَ أبدًا لجهازٍ عسكريٍّ وطني تخشى أن ينقلبَ عليها يومًا ما.
وأخيرًا، هناك المشكلة الكبرى – التدخُّلُ الأجنبي. تُواصِلُ تركيا وإسرائيل وغيرهما من الدول ممارسة ألعاب الشطرنج الخاصة بها على الأراضي السورية. تتصرَّفُ الفصائل المدعومة من تركيا في الشمال الغربي بحصانة، إذ تَحُدُّ من ولائها لدمشق أجندةُ أنقرة. في الجنوب، شجّعت الغارات الجوية الإسرائيلية -التي تهدفُ إلى تشكيلِ منطقةٍ عازلة قرب مرتفعات الجولان- الميليشيات الدرزية وعقّدت محادثات الاندماج. ما دامت القوى الخارجية تموّل أو تسلح أو تحمي الميليشيات المستقلة، فإنَّ دعوات دمشق للوحدة ستبقى جوفاء.
فما العمل إذن؟
أوّلًا، يجب على الحكومة الانتقالية بناء الثقة قبل المطالبة بالولاء. هذا يعني إعادة النظر في نهج القيادة المُرتَكِز على “هيئة تحرير الشام”، والالتزام بشموليةٍ مؤسَّسيّة حقيقية. وهذا يعني أيضًا مواجهة أشباح الماضي. العدالةُ الانتقالية ليست خيارًا – إنها الركيزة التي يُمكِنُ أن تربطَ بلدًا مُجَزَّأً معًا وتوحّده. يجب أن يعلمَ المقاتلون أنَّ الاستسلامَ لا يعني كبش فداء، وأنَّ الإفلات من العقاب ليس ثمن السلام.
ثانيًا، سوريا بحاجة إلى مساعدة، ولكن ليس شيكًا على بياض. ينبغي على المانحين الدوليين ربط دعمهم بمعايير واضحة: رقابةٌ مدنيةٌ على الجيش، وإشراك الأقليات في القيادة، وشفافية صارمة في الإنفاق والعمليات. يُعَدُّ رَفعُ العقوبات من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خطوةً في الاتجاه الصحيح، ولكن يجب ألّا تتدفّقُ الأموالُ إلى أيادٍ غير خاضعة للمُساءلة.
ثالثًا، يجب على جميع الأطراف التقبّل والتأكيد بأنَّ سوريا لن تعودَ أبدًا إلى نموذج ما قبل العام 2011 من الحُكمِ الاستبدادي. يجب أن يعكسَ الجيشُ الناجح هويةَ البلد الذي يخدمه، ليس فقط من حيث العِرق أو الدين، بل من حيثُ الفلسفة أيضًا. إنَّ جيشًا لامركزيًا مُتعدّدَ الأعراق والتعدُّدية لا يُشكّلُ تهديدًا للوحدة، بل هو النموذجُ الوحيد للوحدة القادر على تجاوز جراح سوريا.
وأخيرًا، على القوى الإقليمية أن تَكُفَّ عن لعبِ دور المُفسِد. سواءً أكانَ الأمرُ يتعلّقُ بإدارة تركيا بالوكالة أم بضربات إسرائيل المُزعزعة للاستقرار أو بمؤامرات إيران ووكلائها، لا يُمكن أن يُعهَدَ بمستقبل سوريا إلى مصالح أجنبية. يجب على المجتمع الدولي مُحاسبةَ الدول المُتدَخّلة ودعم الحلول الديبلوماسية التي تحترم سيادة سوريا.
إنَّ توحيدَ الفصائل المسلحة في سوريا ليس مجرّدَ تحدٍّ عسكري، بل هو بوتقةٌ يُصاغُ فيها مستقبل البلاد. وإن فَشِلَ، فقد يَفشَلُ حلم دولة سورية سلمية ذات سيادة وشاملة. لهذا السبب، لا يقتصرُ الأمرُ على الرُتَبِ والجنود فحسب، بل يتعلّقُ بإعادةِ تصوُّرِ معنى الخدمة والانتماء في أمّةٍ تُكافحُ لإعادةِ بناءِ نفسها من خلال فوهاتِ بنادق ومدافع كثيرة.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani