لا حَلَّ يُرجى لإتفاقٍ ثُنائيٍّ مُنفَرِدٍ بين لبنان وكلٍّ من سوريا وقبرص حولَ الحدودِ البحرية

السفير بسّام عبد القادر النعماني*

كثر الحديث أخيرًا عن قرب بدء الحوار لترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وسوريا خصوصًا بعد الاجتماع الذي عُقد في جدة تحت رعاية السعودية وحضره عن الجانب اللبناني وزير الدفاع اللواء ميشال منسى وعن الجانب السوري وزير الدفاع مرهف أبو قصرة،حيث “تمَّ توقيعُ اتفاقٍ أكد خلاله الجانبان على الأهمية الاستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية ومتخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية”.

ولكن، هل يمكن تحقيق ما جاء في البيان خصوصًا بالنسبة إلى الحدود البحرية؟

بخصوص ترسيم حدود المنطقة البحرية الخاصة بين لبنان وسوريا، يجب الإستدراك بأنَّ السوريين لم يُبلغوا الأممَ المتحدة بإحداثياتِ المنطقة البحرية الخاصة بهم كما فعل لبنان عندما أرسل إلى الأمم المتحدة بتاريخ 12/10/2011 نسخةً عن المرسوم رقم 6433 الصادر في 1/10/2011 والذي يُحَدِّدُ من جهة أولى حدودَ المياه الإقليمية بين لبنان وفلسطين المحتلة وبينه وبين سوريا. ومن جهةٍ ثانية، حدّدَ هذا المرسوم إحداثيات نقاط المنطقة الاقتصادية البحرية الخاصة مع كلٍّ من قبرص، وسوريا، وفلسطين. وهذا المرسوم اللبناني ضمَّ، ولكن من دون الإشارة إليه تحديدًا في متن القرار، الإتفاق البحري الذي حصل مع قبرص في 17/1/2007. ومع أنَّ لبنان، تنصَّلَ من إقراره وإعتماده واعتبره مُجحِفًا، عاد وضمَّ في المرسوم 6433 الإحداثيات نفسها التي تمَّ الإتفاقُ عليها مع قبرص في 2007. إلّا أنه أضافَ إليها، وبشكلٍ أحادي، النقطة البحرية رقم 7 والتي يَعتَبرُ لبنان أنها النقطة الرباعية الفاصلة بين الحدود البحرية للبنان وسوريا وقبرص، وقبرص التركية!!!

وطبعًا هذه النقطة 7 هي قرارٌ “لبناني صرف”، ولم يتم التوافق عليها لا مع قبرص، ولا مع قبرص التركية، ولا مع سوريا. إنما ظنَّ اللبنانيون بأنهم بإعتمادهم التقنيات الصادرة عن الإتفاقية الدولية للبحار (1982)، فإنَّ هذا الترسيم سيُرسى على جميع الدول ولن يَعترضَ أحد عليه. مع أنَّ الإتفاقية نفسها أردفت في متن نصوصها بأنَّ هذه التقنيات ليست مُلزِمة لجميع الدول وأنه يمكن إستبدالها بإتفاقياتٍ ثُنائية بين الأطراف المعنية. وقد شرح اللواء الركن عبد الرحمن شحيتلي في كتابه “الحدود اللبنانية البرية والبحرية: دراسة تاريخية وجغرافية وسياسية” (2024) الوسائل التقنية لرسم “الخط الوسطي” لرسم المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة بين دولتين يحصل بينهما تنازع أو تبيان في وجهات النظر حول رسم تلك الحدود. ويضم اللواء شحيتلي الكثير من الوثائق الرسمية والخرائط التي تُبيِّنُ اختلافات وجهات النظر بين لبنان وقبرص وسوريا والعدو الإسرائيلي.

وفي هذا السياق، وعلى المنهج الرسمي اللبناني نفسه في أخذ القررات بشكلٍ أحادي ومُنفرِد وبدونِ تفسيرٍ أو مُبرِّرات للمواطنين، لم يبرم السوريون هم أيضًا أيَّ إتفاقيات ترسيم بحرية مع الدول المعنية المجاورة، أي تحديدًا: لبنان، وقبرص، وتركيا، وحكومة شمال القبرص التركية (غير المعترف بها دوليًا إلّا من تركيا). التحرُّكُ الدولي الوحيد الذي خاضته سوريا كانت رسالة البعثة السورية اليتيمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك في 15/7/2014 والتي تعترضُ فيه على الإحداثيات اللبنانية الواردة في المرسوم 6433. وقد اعتبرته الرسالة إعلانًا من طرفٍ واحد ولا قيمة قانونية دولية له. الفارقُ الوحيد هو أنَّ سوريا احترمت عمليُا في رسم بلوكاتها الحدود الفاصلة بينها وبين “القبرصتين” ومع تركيا، ولم تتجاوزها. أما مع لبنان فكانَ الأمرُ مختلفًا. فقد حصل تداخُلٌ بين بلوكات البلدين وبين حدود المياه الإقليمية أيضًا. فالسوريون ، للأسف الشديد، كانوا حريصين على العلاقات مع القبرصتين ومع تركيا، أكثر من حرصهم على علاقاتهم مع لبنان!!!

ففي الإتفاق الذي عقدته سوريا مع شركة “إِنيرجي ليمتد” الروسية، أرفقت بالاتفاق خريطةً مُصَغَّرة للبلوكات السورية في شرق المتوسط. وكانت للسوريين خريطةٌ قديمة رسموا فيها ما مجموعه 3 بلوكات أعلنوها من طرفهم بشكلٍ أحادي. ولكن عند الإتفاق مع الشركة الروسية، قاموا بإعادة رسم خريطة البلوكات، بحيث أصبح عدد البلوكات 5 بدلًا من 3. وجرت العادة بأنَّ حدودَ البلوكات تتوافق مع حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة. ولكن لهذه القاعدة استنثناءات. فلا نعرف إذا كان السوريون يعتبرون بأنَّ الحدودَ الغربية لهذه البلوكات الخمسة هي الحد الأقصى للمنطقة الاقتصادية التابعة لهم. ولكنهم، وبشكل أحادي تمامًا مثلما اتهموا اللبنانيين بفعله، قد أعلنوا حدود المياه الإقليمية بين سوريا ولبنان، وبين سوريا وتركيا. وكان الخيار السوري في رسم حدود المياه الإقليمية مع لبنان وتركيا، كما يتبين من الخريطة، هو “خط العرض” من الساحل إلى الشرق. وهو الخيار الذي حصل جدلٌ لبناني عليه، حيث أشارَ العميد جورج نادر والدكتورعصام خليفة إلى اعتماد هذا الخيار كخيارٍ آخر بديلاً من الخط البحري 23. وقد سانَدتُهما مرات عدة في هذا الخيار في مقالاتٍ وخرائط نشرتها في بعض وسائل الإعلام اللبنانية.

وقد نشرَ اللواء الركن مازن بصبوص والعميد المتقاعد خليل الجميل في كتابهما المهم “حقيقة ترسيم الحدود البحرية اللبنانية” (2023) صورةً مأخوذة من العقد السوري-الروسي والتي تُبَيِّنُ حدود البلوكات السورية الخمسة الجديدة وخرائط تُبيِّنُ التجاوزَ السوري للبلوكين اللبنانيين 1 و2. ولكن هذه البلوكات التي صدرت بالقانون السوري رقم 10 بتاريخ 9/3/2021، يمكن إدراجه أيضًا كما سبق ذكره آنفًا، كإعلانٍ من طرفٍ واحد. ولهذا فلا قيمةَ قانونية دولية له. وسوريا في عهد بشار الأسد تحاشت الإتفاقَ مع قبرص، ومع حكومة قبرص الشمالية، ومع لبنان، على الحد الغربي للمنطقة الاقتصادية السورية الخاصة والتي أعلنتها هي بشكلٍ منفرد.

إذن لا يبدو أنَّ السوريين مُهتمون في السابق أو في الوقت الحالي في التوصُّل إلى حلٍّ لمسألة الترسيم البحري مع لبنان. وقد نقلت وسائل الأعلام أخيرًا بأنه حصلت مفاوضات بين سوريا وتركيا حول مسألة الترسيم البحري بينهما في نيسان (أبريل) 2025. ولكنهما يبدو أنهما هما أيضًا لم يتوصّلا إلى حلٍّ لمسألة تداخُل الحدود البحرية بينهما، وبينهما وبين قبرص التركية. واستطرادًا سيبقى موضوع التداخل بين البلوكات السورية واللبنانية قائمًا كما هو من دون تعديلات. فلا طائل من حصول إتفاق سوري-لبناني ثُنائي أو لبناني-قبرصي كل على حدة. بل ينبغي التوصُّلُ إلى إتفاقٍ رباعي يتناول كل الدول المعنية الواقعة في هذا الركن الشمالي الشرقي من البحر الأبيض المتوسظ.

Exit mobile version