أوكرانيا وفلسطين: توأمُ “قلب الأرض” وضميرُ الإنسانية!

الدكتور ڤيكتور الزمتر*

التاريخُ ليس مُجرَّدَ سردٍ للأحداث، بقدر ما هو ذاكرةُ الماضي وحافظُ دروسه وعِبَره، بها تهتدي البشريةُ درءًا لها من المهالك. فتحليلُ أحداث الماضي ضروريٌّ، لفهم مُجريات الحاضر، ولاستشراف المُستقبل.

من هذا المنظار، يُلاحظُ المرءُ أنَّ الأحداث الجسيمة، غالبًا ما تُستتبعُ بتسوياتٍ، تُعيد ترتيبَ الأوضاع المُضطربة لعُقودٍ، على قدر ما ترسو عليه تلك التسوياتُ من فهمٍ عميقٍ لأسباب الإضطراب، ومن أخذٍ بعين الإعتبار لحقوق فُرقاء النزاع.

والتاريخُ المُعاصرُ يشهدُ على تسوياتٍ لخضّاتٍ إقليميَّةٍ وعالميَّةٍ، لعلَّ أبرزها “الحرب العُظمى” (1914-1918)، التي كان من نتيجتها انعقادُ “مؤتمر باريس للسلام” (1919)، حيثُ تقاسمَ المنتصرون غنائم المهزومين، من أملاكٍ ومُستعمراتٍ … ووضعوا أُسُسَ السلام الدولي، من خلال إنشاء “عُصبة الأُمم”، في العام 1920، للحفاظ على السلم والأمن في العالم، عَبْرَ التعاون الدولي.

أمّا الخضةُ الثانيةُ (1939-1945)، فلمْ تكُنْ عالميَّةً فقط، بل وكارثيةً أيضًا مع استعمال السلاح النووي، للمرَّة الأُولى، مُخلِّفةً ملايين الضحايا. وانتهت كسابقتها باقتسام المُنتصرين للعالم، ولكنَّ هذه المرَّة، بين فُسطاطَين، فُسطاطٌ أميركيٌّ ليبراليٌّ، وآخرٌ سوڤياتيٌّ شيوعيٌّ، مع إنشائهم “مُنظَّمة الأُمم المُتحدة”، للسهر على السلم والأمن الدوليين، بدل “عُصبة الأُمم” الفاشلة.

حربُ أوكرانيا، المُشتعلةُ في وسط أوروبا، هي واحدةٌ من الخضّات الكبيرة. صحيحٌ إنَّها محليَّةٌ بالجغرافيا، لكنَّها شبهُ عالميةٍ، لجهة العدد الكبير من الدول المُشاركة، مُواربةً، في غِمارها. من هنا، لم يكنْ عبثًا تسميتُها “بمفرمة اللَّحم”، تعبيرًا عن شراسة الحقد المُعتمِل بالقلوب، والذي أودى بمئات آلاف الضحايا وملايين الجرحى والمُشرَّدين. ويبقى المُقلقُ في هذه الحرب، ما تنطوي عليه من مخاطر الإنزلاق إلى حربٍ عالميةٍ، تُخرجُ السلاحَ النووي من جُحوره.

من هنا، الحاجةُ المُلحَّةُ لتسويةٍ، تُعيدُ الرَّويةَ للرؤوس الحاقدة، استدراكًا للتعاون البنّاء بدلَ التطاحُن المُدمِّر، عَبر الجلوس إلى طاولة الحوار والتفاوض شُرَكاءَ، وإنْ مُتنافسين، لاختلاق تسويةٍ تحفظُ الحقوقَ، بما يُطَمْئِنُ فُرقاءَ النزاع ويُعيدُ ترتيبَ الأوضاع، ويبعثُ الحياةَ في التعاون الدولي، بدل المُقاطعة والمُعاقبة.

إنَّه لَمنَ الغرابة بمكان، إن لم يكن من الإنتحار، تضحيةُ أوروبا الغربية بفُرَص التكامُل بين دول “أوراسيا”، تلك الوحدة الجغرافية الجامعة بين روسيا وأوروبا! فقد سبقَ للبريطاني هالفورد جون ماكيندر (Halford John Mackinder) (1861-1947)، أحد مُؤسِّسي الجغرافيا السياسية، أنْ أطلقَ في العام 1904، نظريةَ “قلب الأرض” (Heartland Theory)، القائمة على “قُوَّةُ اليابسة”، المُشَكَّلَة من امتدادٍ أرضيٍّ مُستوٍ من قارَّتَي أوروبا وآسيا. مؤدَّى هذه النظرية أنَّ مَنْ يحكُمُ أوروبا الشرقيةَ وبعضَ آسيا، يُسيطرُ على “قلب الأرض”. ومَن يحكُمُ “قلب الأرض” يُسيطرُ على جزيرة العالم (أوراسيا)، ومَن يحكمُ جزيرةَ أوراسيا، يُهَيْمِنُ على العالم”.

فأوكرانيا تكادُ تُشكِّلُ وَسَطَ “قلبِ الأرض”، لموقعها الجغرافي، ولتُربتِها الخصيبة والغنية، ما جعلَها نُقطةَ جذبٍ وتجاذُبٍ بين القوى الكبرى. وخوفًا من خروج الصراع عليها عن السيطرة، استقبلَ العالمُ، بفرحٍ،  ما رشحَ عن لقاء قمَّة ترامب- بوتين في ألاسكا، من أصداءٍ إيجابيةٍ بإمكانية حلّ هذه المأساة. وعزَّزَ التفاؤلَ استقبالُ الرئيس دونالد ترامب للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بمشاركة قادة أوروبا، حيثُ أجمعت التصريحات على إحداث خرقٍ بالإنسداد السياسي الغربي مع روسيا، تُوِّجَ بالإعلان عن لقاءٍ مُرتقبٍ بين الرئيسين الروسي والأوكراني.

هذا لا يعني أنَّ هذه اللّقاءات قد أفضت إلى إخراس المدافع، بل كسرت، على الأقلّ، جمودَ المُقاطعة وفتحت الآفاقَ أمام إمكانية الحلّ، إذا صفت النياتُ وانتفت الدسائسُ والمكائدُ. والفضلُ، إنْ نجحت الجهودُ، سيعودُ، حصرًا، إلى الرئيس ترامب، في ما يُشبه التكفيرَ عن مسؤولية بلاده الرئيسة في مصيبة أوكرانيا.

من منظور التسلُّط، يُناسبُ الولاياتَ المُتحدةَ والغربَ استمرارُ الحرب في أوكرانيا، لاستنزاف روسيا ولتفكيكها، إنْ أمكن، لكونها إحدى الدول المؤسِّسَة لمُنظَّمة “بريكس”، الداعية إلى عالمٍ مُتعدِّد الأقطاب والعُملات الدولية. وهذا ما يدفعُ إلى التساؤل عن دوافع حماس الرئيس ترامب، لوقف الحرب في أوكرانيا. وهنا، تعدَّدَت التكهُّناتُ بين من اعتبرَ أنَّ الرئيسَ ترامب أصبحَ أسيرَ وَعدِه بإيجاد الحلّ، أثناء حملة إعادة انتخابه، وبين من غلَّبَ المصلحة الإقتصادية، بدليل وجود وزراء المال والتجارة والتعاون الإستثماري والإقتصادي في عداد الوفدين إلى قمَّة ألاسكا، بغَرَض اقتسام مخزون منطقة دونباس (DONBAS)، الغني بالمعادن النادرة. بينما شطحَ البعضُ الآخرُ لتفسير ودِّ ترامب تجاه بوتين بالعمالة لروسيا.

ورُغم مُناصبة مراكز القوى الأميركية للرئيس ترامب، لا سيَّما وسائل الإعلام والمُجمَّع الصناعي العسكري والقوى الأوروبية الفاعلة، الحاقدة على روسيا ورئيسها، مضى الرئيسُ ترامب قُدُماً وبشجاعةٍ في البحث عن الحلّ. وهذا بحدِّ ذاته إنجازٌ، حتى إذا لم ينجحْ مسعاهُ، يكونُ قد حازَ شرفَ المُحاولة.

إنَّ من يتصفَّحُ مُجريات الحربين العالميتين الأخيرتين، يُذهلُه كمُّ الحقد الذي يكنُّه الغربُ لروسيا، رُغمَ عشرات الملايين من ضحاياها ومُشرَّديها، ثمنَ تحالفها مع هذا الغرب الجاحد! وهذا ما يدفعُ إلى التساؤل عن مُسبِّبات هذا الحقد الأعمى!

خطيئةُ ڤلاديمير بوتين، “الأصلية”، بمنظور الفَوقية الغربية، أنَّه فخورٌ حتى الهَوَس، بإرث وطنه الإمبراطوري. فقد ورثَ تركةً غارقةً في فاقةٍ، عجزت معها تُربةُ روسيا السوداء “Chernozem” عن إشباع جياعها من الخُبز الحاف.

وكانت خطيئتُه الأصليةُ الثانيةُ انصبابَ جُهوده لإنقاذ كبرياء بلاده، من خلال إعادة هيكلة المؤسَّسات وتثمير الثروات لتكونَ في خدمة التنمية والنهوض بالإقتصاد ومُرتكزات القُوَّة، بلوغًا لاستعادتها ما يليقُ بها من حُضورٍ دوليٍّ.

أمّا خطيئتُه الثالثةُ القاتلةُ، فقد تمثَّلت بأنَّه عَزَمَ على مواجهة إصرار الغرب، على توسيع “حلف الناتو” حتى نوافذ قصر الكرملين، نتيجة النَكْث بالعهد الشهير “لا بوصة واحدة شرقًا”، الذي أطلقَه جايمس بيكر وحملَه إلى ميخائيل غورباتشوڤ، في التاسع من شباط (فبراير) 1990، باسم جورج بوش الأب وهيلموت كول، مستشار ألمانيا، ومارغريت تاتشر وفرانسوا ميتران.

وعليه، تبدو مُشكلةُ أوكرانيا مُعضلةً كأداء، يتداخلُ فيها التاريخُ بالجغرافيا، بقدر ما يتواجهُ فيها الإرثُ الروحي بالسياسة والإقتصاد، ما يجعلُ حلَّها ضربًا من الإعجاز. وإذا ما تعذَّرَ، اليوم، الوصولُ إلى حلٍّ عادلٍ ومُستدامٍ، لا بأس من العمل على إنجاز اتفاقٍ جزئيٍّ، يُوقفُ القتالَ مع ضمان احترامٍ “الستاتيكو” على خطوط الجبهة العسكرية، بانتظار أن يتكفَّلَ عاملُ الزمن بإيجاد الحلّ المنشود، أُسوةً بالوضع بين الكوريتين، مُنذُ 1953، والوضع في قبرص المُقسَّمة، مُنذُ 1974.

لقد قيلَ، بأنَّ الرئيسَ ترامب يُريدُ إنهاءَ الحرب، بينما يُريدُ بوتين أن يربحَها. وأيّاً كانت النوايا، لا يشكُّ أحدٌ بأنَّ الرئيس ترامب مُتلهِّفٌ لوقف حرب أوكرانيا، سواءَ لغرضٍ بنفس يعقوب (ترامب)، أو وفاءً منه لوعدٍ غدا دينًا بذمَّته. وإذا كانت تصفيةُ الذمَّة تستوجبُ وفاء الدَيْن، فراحةُ الضمير-توأمُ الذِمَّة- لا تكتملُ إلّا بالنظر إلى الأُمور بعينين، لا بعين واحدةٍ. إذ لا يعقلُ أن تنعمَ عينٌ بالوفاء لأوكرانيا، بينما تغفلُ الأُخرى عن الظلم المُزمن اللّاحق بفلسطين.

فهل يعمدُ الرئيس ترامب، وهو القادرُ إنْ أرادَ، إلى الإقدام على كبح المجاهرة الفاقعة بتصفية قضية فلسطين، ووقف إذلال أهلها الذين حوَّلَهم الإجرامُ غير المسبوق، إلى قوافلَ من حَمَلَةِ الطناجر، مُناهُمُ الفوزُ بمغرفة حساءٍ، سدًّا لجوع الطفولة المُعذَّبة!

السوابقُ لا تُبشِّرُ بالخير، ومع ذلك، لا حولَ للغفلة العربية سوى الرهان على استفاقة الضمير، علَّ الرئيسَ ترامب يستلحقُ فُرصةَ خريف العُمر، ويطبعُ بصمتَه في سجلّ التاريخ، موسومًا “بجائزة نوبل للسلام”.

Exit mobile version