زهرات فان غوخ حيَّةٌ في نيويورك (1 من 2)

منحوتاتٌ مكبَّرةٌ من زهراته

هنري زغيب*

مقهورًا مات. ويرجِّحُ دارسون أَن يكونَ انتحر، وهو لم يَبِع من مجموعته الكثيرة سوى لوحةٍ واحدة. ولعلَّه حين انطفَأَ النُور في عينيه، كان مُوْقنًا أَنْ سيَجيْءُ يومٌ تكون فيه للوحاته قيمةٌ فنية، قد تَشقُّ لها نهجًا خاصًّا في عالم الفن التشكيلي. وإِنه هكذا، بعد غيابه، وبفضل جُوانَّا زوجة شقيقه تيو، وهي حافظَت على أَعماله وعرفَت كيف تسوِّقها، أَخذَت لوحاته تنتشر، وتُباع في المزادات حاصدةً أَعلى الأَسعار في العالَم.

أَحدثُ ما جرى على اسمه: معرضٌ في نيويورك للوحات أَزهاره. فماذا عنه؟

دوَّار الشمس

كان فان غوخ (1853-1890) مولعًا برسم الأَزهار، وخاصةً “دوَّار الشمس”. وله فيها مجموعتان: الأُولى رسَمها في باريس، والأُخرى في آرل (جنوب شرق فرنسا). تختلف فيهما الأَلوان والخطوط، لكنهما ينمَّان عن حب الفنان رسْمَ الزهور. وكانت لوحاتهما كثيرةً في مجموعة الفنان حيال قصر مسيرته الفنية (37 سنة فقط).

الأُسبوع الماضي تقاطَر المتابعون والنقاد إِلى “الحديقة النباتية” في بْرونْكْس (ضاحية من مدينة نيويورك)، وهي متحف كبير للنباتات والأَزهار، فيها مركزُ تعليم وتدريب، ومختبرٌ يدرس حياة الأَزهار. يستمر المعرض حتى 26 تشرين الأَول/أكتوبر 2025.

كان فان غوخ يخصص لرسم الأَزهار وقتًا أَطول مما لرسم سواها. كان يحبُّها، وكانت مهربًا نفسيًّا له، هو الذي أَمضى ردحًا كبيرًا من حياته القصيرة يرسم خارجًا في الطبيعة، فالأَزهار مصدر إِلهام له، شُغِف برسم أَنواعها وتداويرها (معظمها لدوَّار الشمس والسوسن.). وبذلك كان رائدًا في إِطلاق “موجة ما بعد الانطباعية”.

زهرات مكبَّرة في إِناء

الأَعمال المكبَّرة ببراعة

استعادةً لوحاتِه عن دوَّار الشمس، عمدَت إِدارة حديقة النباتات في نيويورك إِلى إِقامة معرض كبير خاص يضمُّ مكبَّراتٍ لأَزهار فان غوخ كما كان رسمَها على مساحة القماشة البيضاء.

في المعرض تماثيلُ عالية تجسِّد زهرات فان غوخ، وتكبيرٌ فني للوحاته عن الزهر في آرل (رسمها فان غوخ سنة 1889)، ما يجعل هذا المعرض تكريمًا غيرَ عادي بكامل الأَلوان والخطوط لذاك الرسام الهولندي الرائد. وما أَعاد الحياة إِلى تلك الأَزهار: إِسهام فنانين معاصرين في تنظيم العرض: لي بايكر، كاثرين بوروفسكي (البريطانيان المعروفان ببراعتهما في التكبير)، وخصوصًا الفرنسي سيريل لانسْلين الذي أَنشأ للأَزهار حجْمها مكبرًّا بتقنية الأَبعاد الثلاثة، ثم النحاتة الأَميركية إِيمي جاكوبسون التي وضعت نفَّذَت تماثيل مكبَّرَة لأَزهار فان غوخ بين السوسن والورد وأَنواع أُخرى من الزهر.

محطات من سيرته

إِدارة الحديقة هيَّأَتْ أَيضًا فيلمًا عن محطات كبرى في حياة فان غوخ، وفي الليل ينطلق أَمام الزوَّار مشهد باهر حي متحرك للوحة فان غوخ الشهيرة “الليلة المطرَّزة بالنجوم”  (رسمها سنة 1889). هكذا يكون هذا المعرض الاستثنائي مقَدِّمًا الفنَّ مع الطبيعة لجميع الفئات العمرية من الزوَّار،  كي يتمكنوا من تذوُّق أَقرب ما يكون إِلى أَعمال فان غوخ كأَحد أَهم الرسامين في العالم.

نجومُهُ المتحركة إِلكترونيًّا في ليل المدينة

البحث عن ذاته في الزهر

في النبذة عن فان غوخ عند مدخل الحديقة النيويوركية، أَنْ حين كان في الثالثة والثلاثين (1886)، وجدَ أَنْ لا حياة فنية مُريحة له ولا ناجحة ولا شعبية في هولندا، فانتقل يعيش نهائيًا في فرنسا، إِلى جانب شقيقه تيو الذي كان يعمل في باريس مُسَوِّقَ لوحات فنية. لكنه لم يجد كذلك في باريس ما يرضيه، فراح يُغْرق ريشته في رسم أَزهار دوَّار الشمس. هكذا دخل رسْمُ تلك الأَزهار في أَعماله بين 1886 و1887، لا الزهر في ذاته بل الزهْر وسْط الطبيعة الحاضنة. ومع نهاية 1887 تشكَّلت لديه مجموعة كبيرة من اللوحات في موضوع الزهْر.

ويرى زوار المعرض، بوضوحٍ، الفرق بين ما رسَمه فان غوخ من زهْر في باريس، وما عاد لاحقًا فرسمَه في مدينة آرل.

ما الفرق؟ وكيف التمييزُ بينهما؟

هذا ما أَعرضه في الجزء الآخَر (2 من 2) لــهذا المقال.

Exit mobile version