صِحَّةُ العالم من صِحَّةِ “هُرمُز” و”بابِ المَندَب”!

هُدى الحُسَيني*

في خضمِّ التوتّراتِ العسكريةِ المُتصاعِدة في الشرق الأوسط، برزَت مخاوف جدّية من لجوءِ إيران إلى استخدامِ أوراق ضغطٍ حسّاسة، من أبرزها التهديدُ بإغلاقِ مَضيقَي هُرمُز وبابِ المَندَب، وهما من أهمِّ المعابر البحرية لنقل النفط والغاز إلى العالم. وبينما انشغلت القوى الكبرى بإدارةِ التصعيد، بدأ اقتصاديون وديبلوماسيون كبارٌ دقَّ ناقوسِ الخطر من سيناريوهات قد تُفجِّرُ أزمةَ طاقةٍ عالمية غير مَسبوقة.

ووفق مصدرٍ اقتصادي غربي مُطَّلع، فإن إغلاق أيٍّ من المَضيقَين –ولو مؤقتًا– سيكون له تأثيرٌ كارثي على الاقتصاد العالمي، وخصوصًا على أوروبا التي تعتمد بنسبةٍ كبيرة على واردات الطاقة الآتية من الخليج.

مضيقُ هُرمُز هو الممرُّ البحري الأضيق والأكثر حساسية في العالم. يمرُّ عبره يوميًا نحو 20 مليون برميل من النفط الخام، أي ما يعُادلُ ثلث صادرات النفط العالمية المنقولة بحرًا. ويشيرُ المصدر إلى أنَّ أيَّ تعطيلٍ -سواء عبر الألغام البحرية أو الهجمات أو حتى التهديد- قد يؤدّي إلى قفز أسعار النفط إلى أكثر من 150 دولارًا للبرميل خلال أيام. ويُضيف: “أوروبا ستدفع الثمن الأكبر؛ لأنَّ البدائل محدودة، والأسواق العالمية لا تتحمّلُ صدمةً جديدة بعد تداعيات الحرب في أوكرانيا والتضخّم والانكماش”.

أمّا مضيقُ باب المَندَب، الذي يربطُ البحر الأحمر بخليجِ عَدَن وبحرِ العرب، فهو قناةٌ حيوية تمرُّ منها شحناتٌ ضخمة من النفط والغاز والسلع المُتَوَجِّهة إلى قناة السويس. ويقول المصدر إنَّ “أيَّ إغلاقٍ لبابِ المَندَب سيعني عمليًا قطع الشريان الجنوبي عن أوروبا، وإعادة رسم خطوط التجارة البحرية، وهو أمرٌ مُكلفٌ ومُعقّد”. ووفق بياناتٍ بحرية دولية، فإنَّ أكثرَ من 6 ملايين برميل من النفط تمرُّ عبر بابِ المَندَب يوميًا، إضافةً إلى بضائع بمليارات الدولارات. وأيُّ تعطيلٍ سيؤدّي إلى تأخيرِ الشحنات، وزيادةِ التكاليف، ورَفعِ الأسعارِ على المُستهلكين الأوروبيين.

من المُؤكَّدِ أنَّ أوروبا في قلب العاصفة؛ إذ تعتمدُ دول الاتحاد الأوروبي على واردات الطاقة من الشرق الأوسط، خصوصًا بعد تقليص الاعتماد على الغاز الروسي. ولذلك، فإنَّ أيَّ أزمةٍ في المَضيقَين ستعني ارتفاعًا حادًا في فواتير الطاقة، وعودةَ شبحِ الركود التضخّمي.

ويقول المصدر الاقتصادي: “الأسواقُ الأوروبية هشّة للغاية. لم تتعافَ بعد من آثارِ وباء “كوفيد” والحرب في أوكرانيا، ولا تتحمّلُ صدمةً نفطية جديدة. والحكومات ستكونُ مُضطَرّة للتدخُّل، ما سيزيد عجز الميزانيات، وقد يدفعُ بعض الاقتصادات إلى الركود”.

وأشارت تقاريرٌ أوروبية إلى أنَّ المفوضيّةَ الأوروبية بدأت بالفعل مُناقشاتٍ داخلية طارئة تشملُ تفعيلَ المخزون الاستراتيجي، وتحويلَ بعضِ الطلب إلى الغاز الأميركي، ولكن المصدرَ يُحذّرُ من أنَّ هذه الإجراءات “لن تكونَ كافية؛ بل ستؤخّر الأزمة فقط”.

وفي مواجهةِ اختناقٍ مُحتَمَلٍ للإمدادات، تسعى الدول الأوروبية إلى تفعيلِ بدائل، أبرزها الغاز الأميركي المُسال والجزائري. فالولايات المتحدة تملكُ قدرةً تصديرية كبيرة من الغاز المسال، وأظهرت فاعليتها خلال أزمة أوكرانيا، عندما تمَّ تعويضُ جُزءٍ من الغاز الروسي بإمدادات أميركية.

أما الجزائر، فهي من أكبر مزوّدي أوروبا بالغاز عبر أنابيب إلى إيطاليا وإسبانيا، وتلعب دورًا استراتيجيًا في استقرار الإمدادات إلى جنوب القارة. إلّا أنَّ المصدرَ يُحذّرُ من أنَّ “القدرات الحالية محدودة، ولن تعوِّضَ الكمّيات المفقودة في حال إغلاق هُرمُز أو باب المَندَب”. ويضيفُ أنَّ “الغاز الأميركي قد يسدُّ جُزءًا من الفجوة، ولكنه يحتاجُ إلى عقود نقل وبنية تحتية، وهو ما لا تملكه كل الدول الأوروبية، في حين تحتاج الجزائر إلى استثمارات إضافية”. ومع ذلك، تظلُّ هذه البدائل خط َّدفاعٍ مؤقت، يُمكِنُ أن يُخفّفَ من حدة الأزمة.

من جهةٍ أخرى، تبدو واشنطن أكثر حزمًا في التعامُلِ مع تهديدات إمدادات الطاقة. وحسب المصدر الاقتصادي، فإنَّ الولايات المتحدة تُعِدُّ أيَّ محاولةٍ لإغلاق المَضيقَين تهديدًا مباشرًا للأمن العالمي، وقد تردُّ عليه عسكريًا. ويضيف: “الإدارة الأميركية راقبت نيّات طهران، ونسّقت مع الحلفاء لنشرِ قواتٍ بحرية في البحرين وخليج عدن. وتُدركُ واشنطن أنَّ تعطيلَ الملاحة سيؤثّرُ في أوروبا وسلاسل التوريد العالمية”.

وقد تُفعِّلُ واشنطن آلياتَ دفاعٍ جماعي عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتضغطٌ ديبلوماسيًا على الصين وروسيا لثني طهران عن أيِّ خطواتٍ “غير محسوبة”.

الصين -بدورها- لم تَكُن بمنأى عن الأزمة. فهي أكبر مستورد للطاقة في العالم، وتعتمدُ على المَضيقَين لنقل النفط من الخليج إلى موانئها. ورُغمَ موقفها السياسي المُتحفّظ، فإنَّ بكين تملكُ أدواتَ ضغطٍ حقيقية على طهران. ويُضيفُ الخبيرُ الاقتصادي: “إذا شَعَرَت الصين بأنَّ إمداداتها مُهَدَّدة، فقد تتدخّلُ ديبلوماسيًا وربما اقتصاديًا. الصين تشتري 40 في المئة من صادرات إيران النفطية، وتوفّرُ لها شرايين مالية غير رسمية. بإمكانها التلميح بسحب هذه الامتيازات للضغط”. ويُرجَّحُ أن تحاولَ بكين لعب دور الوسيط، للحفاظ على استقرار الإمدادات، وتقديم نفسها بوصفها قوة مسؤولة في النظام العالمي.

لو تفاقمت الأزمة، لكانت الأسواق المالية تأثّرت عالميًا؛ ليس في قطاع الطاقة فقط؛ بل في قطاعاتٍ مثل النقل والصناعة والغذاء. فارتفاعُ أسعار النفط والغاز سيرفع تلقائيًا تكاليف الإنتاج والنقل، ما سينعكسُ على أسعار السلع، ويُعمِّقُ أزمة المعيشة.

وتقول وكالة “بلومبيرغ” إنَّ المستثمرين كانوا قد بَدَؤوا تحويلَ أموالهم إلى الذهب والملاذات الآمنة، قبل الإعلان عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران.

ويختم مُحَدِّثي الاقتصادي الغربي بالقول: “إنَّ العالمَ كان أمامَ لحظةٍ حرجة. أزمةُ الطاقة هذه لا تشبه أزمةَ السبعينيات؛ بل قد تكونُ أعقد؛ لأنَّ العالمَ اليوم أكثر ترابُطًا وهشاشة. وإذا لم تُحتَوَ التهديدات سريعًا، فسنواجه موجةً تضخُّمية غير مسبوقة منذ عقود”.

Exit mobile version