عمرو حمزاوي*
خلال الأشهر القليلة الماضية، كان التهديدُ الأكبر للأمن في الشرق الأوسط هو المغامرات العسكرية التي تنتهجها حكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل، وإيمانها بقدرتها على فَرضِ إرادتها على أعدائها من خلال الحرب، إلى جانب رفضها القاطع للمفاوضات والحلول السلمية.
بالتأكيد، ينبغي مواجهة ومعالجة مخاطر أخرى في المنطقة، بما في ذلك التطبيقات العسكرية غير المُنظّمة للذكاء الاصطناعي، والآثار المُزعزِعة للاستقرار للوضع الفلسطيني على مصر والأردن وسوريا والعراق. لكنَّ الأمرَ الأكثر إثارةً للقلق هو سهولةُ اندلاع الحروب والصراعات المسلّحة الآن في الشرق الأوسط (سواءَ بشكلٍ مباشر أو عبر وكلاء)، والغياب شبه التام للأُطُرِ الديبلوماسية الجماعية، والتفاوتات الهائلة في القدرات العسكرية والاستخباراتية بين القوى الإقليمية.
نتيجةً لذلك، لم يَكُن اندلاعُ الحرب بين إسرائيل وإيران في الأسبوع الفائت مفاجئًا. كما لم يكن مفاجئًا أن تضربَ إسرائيل منشآتٍ نووية ومواقعَ عسكرية إيرانية على امتداد منطقةٍ جغرافية واسعة، وأن تستهدفَ علماءً نوويين وقادةً عسكريين. ولم يكن مفاجئًا أيضًا ردُّ إيران: إطلاقُ صواريخ باليستية على إسرائيل، مُوَجَّهةً نحو أهدافٍ عسكرية واستراتيجية – بعضُها سقطَ في مناطق سكنية. ولم يكن مفاجئًا أيضًا وأيضًا إصرارُ إسرائيل على إطالةِ أمَدِ الحرب، مُعتَبِرَةً البرنامج النووي الإيراني تهديدًا وجوديًا، أو أن تَعرُضَ إيران العودة إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأنِ برنامجها النووي بمجرّدِ توقُّفِ الهجمات الإسرائيلية – ما يعني ضمنيًا اقتراحًا بوقف إطلاق النار.
يُرجّحُ الخللُ الهائل في القوة العسكرية والقدرات الاستخباراتية كفّةَ إسرائيل على إيران. فقد دُمِّرت أنظمة الدفاع الجوي الأكثر تطورًا لدى الجمهورية الإسلامية (منظومات أس-300 الروسية) في غاراتٍ إسرائيلية سابقة. ولعلّ أبرز ما في الأمر هو أنَّ وكلاءها في المنطقة -وهم حجر الزاوية في عقيدة نفوذها الإقليمي، التي ترسّخت إلى حدٍّ كبير بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 وسقوط صدام حسين- قد استُنزِفوا عسكريًا أو سياسيًا.
لطالما اعتمدت إيران، بقيادة مرشدها الأعلى والحرس الثوري الإسلامي، على شكلٍ مختلف من المغامرات العسكرية – حروبٌ بالوكالة في لبنان والعراق واليمن، وإلى حدٍّ ما في فلسطين. وكان الهدفُ هو ضمانَ نفوذٍ كبيرٍ في المنطقة، ورَدعِ الهجمات الإسرائيلية والأميركية على أراضيها من خلال إبقاء مصالح الدولة العبرية والولايات المتحدة تحت التهديدِ المُستَمرِّ عبر وكلائها، وتعزيز موقفها في الصراعات الإقليمية وأيِّ صفقةٍ كبرى مستقبلية مع واشنطن.
مع ذلك، فقد عانت هذه الاستراتيجية خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية من انتكاساتٍ شديدة. ألحقت إسرائيل أضرارًا جسيمة ب”حزب الله”، وانهار نظام بشار الأسد في سوريا فعليًا، وتدهورت قدرات الحوثيين الصاروخية بشكلٍ مطرد من خلال الغارات الجوية الإسرائيلية والأميركية.
في مواجهة الحقائق التي أعقبت 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كان على القيادة الإيرانية أن تُدرِكَ أنَّ استراتيجيتها الراسخة لم تَعُد كافيةً لحماية الأمن الإيراني أو ردع العدوان الإسرائيلي.
ربما بدأت الجمهورية الإسلامية تُدرِكُ هذا التحوُّل الاستراتيجي ورَدّت بفَتحِ قنواتٍ للتفاوُضِ مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي. كما سعت إلى تحسين العلاقات الديبلوماسية مع جيرانها العرب في الشرق الأوسط، على أمل أن يكونَ الرَفضُ العربي للهجمات الإسرائيلية المُحتَمَلة على أراضيها بمثابة حاجزٍ إقليمي، وأن يتوسّطَ بعضُ الدول العربية بين طهران وواشنطن.
في الواقع، تُظهرُ التصريحاتُ والمواقفُ الأخيرة من دول الخليج ومصر والعراق والأردن مُعارَضةَ العالم العربي الواضحة للضربات الإسرائيلية على إيران. وواصلت سلطنة عُمان وقطر التوسُّطَ لدى الولايات المتحدة في محاولةٍ للضغط على إسرائيل لوقف حملتها العسكرية.
مع ذلك، لم تكن التعديلاتُ في سلوكِ إيران الإقليمي، وتقارُبها مع جيرانها العرب، وجولاتُ مفاوضاتها مع الولايات المتحدة، كافيةً لرَدعِ إسرائيل. فقد حققت حكومة تل أبيب اليمينية المُتطرّفة بالفعل انتصارًا استراتيجيًا كاسحًا على وكلاء إيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وكما كرّرَ القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون مرارًا وتكرارًا، يبدو أن الطريقَ إلى طهران الآن بات مفتوحًا على مصراعيه.
ما لم تتدخَّل الولايات المتحدة بوضوحٍ وحزمٍ لوقف الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران، فمن المرجح أن تستمرَّ العمليات العسكرية لبعض الوقت. والحقيقة هي أنَّ إدارة الرئيس دونالد ترامب تبدو غير راغبة في ممارسةِ ضغوطٍ جادة على إسرائيل لوقف الحرب – ربما لأنها ترى في النتيجة المُحتَملة للصراع فرصةً استراتيجية لتفكيك البرنامج النووي الإيراني نهائيًا. هذه النظرة هي قصيرة المدى. على المديين المتوسط والطويل، لن يشهدَ الشرق الأوسط استقرارًا أو استعادةً للأمن إلّا بتطوير آلياٍتٍ إقليمية للأمن الجماعي، أُطرٌ تُسَهّلُ حلَّ النزاعات سلميًا وتُنهي الحروب والمواجهات العسكرية. يجب أن تقودَ هذه الآليات دولٌ إقليمية فاعلة، وخصوصًاً الدول العربية غير المتورّطة في مغامراتٍ عسكرية مباشرة أو بالوكالة، وأن تَدعمها جهاتٌ فاعلة دولية.
- عمرو حمزاوي هو زميل أول ومدير برنامج كارنيغي للشرق الأوسط. تُركّزُ أبحاثه وكتاباته على الحوكمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والهشاشة الاجتماعية، والأدوار المختلفة للحكومات والمجتمعات المدنية في المنطقة.