بدونِ دعمٍ مُستدام للأمن الغذائي والمياه النظيفة والصحة العامة، يواجه العديد من الفقراء في شمال أفريقيا مخاطر متزايدة من الجوع والمرض والوفيات. قد تتراجع الإنتاجية الزراعية، وقد تعاني المجتمعات الريفية، وقد تتراجع المكاسب في مجال تغذية الأطفال.
محمد محمود*
عندما أصدرت إدارة الرئيس دونالد ترامب الأمر التنفيذي رقم 14169 الذي يحمل عنوان “إعادة تقييم وتنظيم المساعدات الخارجية للولايات المتحدة”، ونفذته في أوائل العام 2025، أوقفت فعليًا جميع المساعدات الخارجية الأميركية تقريبًا. وقد عَلَّقَ الأمرُ في المقام الأول صرفَ برامج المساعدات غير العسكرية، ما أدّى إلى إنهاءِ مشاريع المساعدة والعقود والتوظيف المُمَوَّلة من الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم. وكان تأثير هذا الإلغاء المفاجئ للمساعدات الخارجية حادًا بشكلٍ خاص على البرامج الإنسانية والتنموية، الأمر الذي أدى إلى شلل تلك البرامج التي تستهدف المساعدات الغذائية، والوصول إلى المياه النظيفة، والصحة العامة، والدعم الزراعي.
لطالما كانت دول شمال أفريقيا مُتَلَقِّية ومُستفيدة مباشرة من برامج المساعدات الخارجية الأميركية، التي تُدار عمومًا من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) أو وزارة الزراعة الأميركية (USDA). بالإضافة إلى المساعدات الثنائية، تصل المساعدات الخارجية أيضًا إلى شمال أفريقيا بشكلٍ غير مباشر من خلال المنظمات الدولية ووكالات التنمية التي تتلقى تمويلًا كبيرًا من الولايات المتحدة، مثل مختلف وكالات ولجان الأمم المتحدة. ويهدف عددٌ من هذه البرامج المُموَّلة من جهاتٍ خارجية تحديدًا إلى تحسين فُرَصِ الحصول على الغذاء الكافي والمياه النظيفة، لا سيما في المناطق الأكثر عُرضةً لانعدام الأمن الغذائي المُزمِن وندرة المياه. وتلعب هذه البرامج مجتمعةً دورًا حيويًا في معالجة الجوع، ودعم الزراعة المستدامة، وتحسين ظروف الصحة العامة في المناطق شحيحة الموارد. ويُهدّدُ الانسحاب المفاجئ لهذا الدعم الحيوي بإجهاد وتقويض قدرة دول شمال أفريقيا على مواجهة عدد من التحديات المتعلقة بالغذاء والمياه.
إنَّ وقفَ المساعدات الخارجية الأميركية عن شمال أفريقيا لا يُعرّضُ مبادرات الأمن الغذائي والمائي الحيوية في المنطقة للخطر فحسب، بل يُشكّل أيضًا مخاطر كبيرة على المصالح الاستراتيجية الأميركية. يُمكن أن يُسهِمَ انعدامُ أمنِ الموارد المُطوَّل في عدم الاستقرار السياسي، ويزيد من خطر الصراع، ويُحفّز النزوح والهجرة، وهي تطوّرات قد تستلزمُ في كثيرٍ من الأحيان تدخّلاتٍ أمنية أميركية أكثر تكلفة. علاوةً على ذلك، تُمثّل المساعدات الخارجية أداةً رئيسةً للقوة الناعمة الأميركية، حيث تُعزّز العلاقات الديبلوماسية، وتُعزّز الاستقرار الإقليمي، وتُواجه النفوذ المتزايد للقوى المُتنافسة. في هذا السياق، لا يُعَدّ الاستثمار المُستدام في برامج التنمية أولويةً إنسانيةً فحسب، بل يُعدّ أيضًا عنصرًا عمليًا في السياسة الخارجية الأميركية.
المساعدات الإنسانية: السودان
ركّزت المساعدات الخارجية الأخيرة للسودان بشكلٍ كبير على المساعدات الإنسانية والغذائية، نتيجةً للحرب الأهلية المُستمرة التي ابتُلِيَت بها البلاد منذ نيسان (أبريل) 2023. وقد أدّت الحرب إلى حالةٍ من المجاعة واسعة النطاق، حيث يُواجه أكثر من نصف سكان البلاد جوعًا حادًا وسوء تغذية. في العام 2024، كانت الولايات المتحدة أكبرَ مانحٍ مُنفرد للسودان، سواء من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أو خطة الأمم المتحدة للاستجابة الإنسانية للسودان. ومع ذلك، جُمِّدَت المساعدات البالغة 126 مليون دولار، والتي كان من المقرّر تقديمها للسودان في العام 2025، بموجب الأمر التنفيذي 14169. وكانت النتائج فورية ومدمّرة: فقد توقف أكثر من 1000 مطبخ جماعي للطوارئ في السودان عن العمل، ما دفع سكانًا يعانون من أوضاعٍ هشّة إلى مزيدٍ من المجاعة والوفيات الناجمة عنها. وبالمثل، يُقلّص انخفاض التمويل الأميركي لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الخدمات التي تُوفّر الوصول إلى المياه النظيفة والآمنة لأكثر من نصف مليون نازح في السودان.
الغذاءُ من أجل التقدم
استفادَ عددٌ من دول شمال إفريقيا من برنامج “الغذاء من أجل التقدم”، الذي تُديره وزارة الزراعة الأميركية ويُركّز على تعزيز التنمية الزراعية والتجارة في الدول النامية. ويعمل البرنامج من خلال توفير السلع الزراعية الأميركية للدول المستفيدة، والتي تُباع محليًا لتمويل مشاريع تُحسِّنُ الإنتاجية الزراعية، وتدعم تطوير الأسواق، وتُعزّز الاقتصادات الريفية. يشكل تمويل المساعدات الذي تتلقاه شمال إفريقيا من هذا البرنامج جُزءًا كبيرًا من ميزانيتها. في الواقع، بين السنة المالية 2018 والسنة المالية 2024، شكلت قيمة السلع الممنوحة لشمال إفريقيا ما يقرب من ثلث (حوالي 29٪) من إجمالي قيمة السلع الممنوحة عالميًا في إطار هذا البرنامج خلال تلك الفترة. في السنة المالية 2018، حصلت مصر على دعمٍ تمويلي يُقدَّر بنحو 12.8 مليون دولار، بينما تلقّت السودان 300 ألف طن متري من القمح الأحمر الشتوي الصلب، بصفتها المتلقي الوحيد للبرنامج في السنة المالية 2021، بقيمة تقدر بحوالي 120 مليون دولار. وفي الآونة الأخيرة، في السنة المالية 2023، تلقّت موريتانيا 60 ألف طن متري من القمح بقيمة تقدر بنحو 36.15 مليون دولار. في السنة المالية 2024، حصلت تونس على 35 ألف طن متري من فول الصويا الأصفر بقيمة تقدر بحوالي 24.85 مليون دولار. مع ذلك، وبعد إيقافها مؤقتًا في البداية بسبب الأمر التنفيذي، ألغت وزارة الزراعة الأميركية مِنَحَ برنامج الغذاء من أجل التقدم. وبينما يُنهي هذا فعليًا منحة البرنامج النشطة لتونس في السنة المالية الحالية، ربما تكون المِنَح القائمة التي تعود إلى العام 2018 قد أُلغيت أيضًا، مما يُهدد الدعم السلعي الممنوح سابقًا لمصر والسودان وموريتانيا.
برنامج ماكغفرن-دُول للغذاء من أجل التعليم
على غرار برنامج الغذاء من أجل التقدم، يُعد برنامج ماكغفرن-دُول للغذاء من أجل التعليم وتغذية الأطفال مبادرة أخرى للمساعدات الغذائية تمولها وزارة الزراعة الأميركية. يُكافح البرنامج الجوع ويدعم التعليم المبكر في البلدان منخفضة الدخل التي تعاني من نقص الغذاء، وذلك من خلال توفير السلع الزراعية الأميركية، إلى جانب المساعدات المالية والتقنية. يموّل البرنامج مشاريع التغذية المدرسية التي تُحسّن معرفة القراءة والكتابة، وتعزز الالتحاق بالمدارس والأداء، وتعزز صحة الطفل، بدءًا من فترة الحمل وحتى مرحلة الطفولة المبكرة. انضمت موريتانيا إلى هذا البرنامج بمنحها مبلغ 22.5 مليون دولار أميركي من وزارة الزراعة الأميركية للحد من الجوع، وتحسين الصحة، وتعزيز التعليم الابتدائي من خلال مشروع مدته خمس سنوات (2019-2024) بعنوان “المستقبل لنا”، والذي خدم 209 مدارس محلية. في العام 2022، منحت وزارة الزراعة الأميركية موريتانيا مشروعًا ثانيًا مدته خمس سنوات بقيمة 28.5 مليون دولار (2022-2027) بعنوان “جسر المستقبل”، يهدف إلى توسيع نطاق جهود المشروع الأصلي ليشمل 111 مدرسة جديدة. خلال السنوات التي حصلت فيها موريتانيا على هذه المنح (2019 و2022)، شكّلت قيمتها 13% من إجمالي القيمة السنوية لجميع المنح التي وزّعها البرنامج. ومن المرجح أن يكون إنهاء وزارة الزراعة الأميركية أخيرًا لمشاريع ضمن هذا البرنامج قد أجّل هذا التوسع الثاني للمشروع في موريتانيا، ما عرّض صحة وتغذية أكثر من 72 ألف طفل في جميع أنحاء البلاد للخطر.
اليونيسِف: المياه والصرف الصحّي والنظافة الصحية
من بين المبادرات العالمية الرئيسة التي تدعمها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) للنهوض بصحة وسلامة الأطفال والشباب، برامج المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية. تتبنّى اليونيسِف نهجًا منهجيًا في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية من خلال العمل مع الحكومات لتعزيز السياسات وتحسين تقديم الخدمات. وبعيدًا من المشاريع المستقلة، تُسهِمُ اليونيسِف في صياغة الإصلاحات الوطنية من خلال جمع الأدلة، ودعم الابتكار، والتأثير في السياسات، وتعبئة الموارد لضمان تأثير أوسع وأكثر استدامة. ومن الأمثلة البارزة على تطبيق اليونيسِف لهذا النهج مشاركتها في الشراكة العالمية للصرف الصحي والمياه للجميع (SWA)، وهي مبادرة تستضيفها الأمم المتحدة تُركّز اهتمامها على تحقيق الوصول الشامل إلى المياه النظيفة والصرف الصحي والنظافة الصحية. في شمال أفريقيا، أدت جهود اليونيسِف في مجال التوعية والدعوة إلى انضمام مصر والسودان والمغرب وموريتانيا إلى هذه الشراكة العالمية. للأسف، في أعقاب تخفيضات المساعدات الخارجية الأميركية، والتي من المتوقع أن تُقلِّص تمويل اليونيسف بنسبة 20% على الأقل، تواجه برامج ومبادرات اليونيسِف في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في شمال أفريقيا خطرًا كبيرًا بالتقلّص ونقص التمويل. ووفقًا لليونيسِف، من المتوقع أن تُعرّض هذه التخفيضات التمويلية ما يقرب من 15 مليون أم وطفل حول العالم لخطر سوء التغذية الحاد، مما يزيد بشكل كبير من احتمال ارتفاع وفيات الأطفال نتيجةً لعدم كفاية فرص الحصول على الغذاء والمياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي.
عواقب خفض المساعدات الخارجية للولايات المتحدة
يُمثّلُ الوقف المفاجئ للمساعدات الخارجية الأميركية نقطةَ تحوُّل ذات تداعيات عميقة على النفوذ الأميركي العالمي وتنمية شمال إفريقيا. يُضعف هذا الوقف القوة الناعمة الأميركية من خلال إضعاف العلاقات الديبلوماسية والاستقرار الإقليمي، مما يُتيح فرصًا للقوى المتنافسة لتوسيع نفوذها. لذا، يُعد الحفاظ على المساعدات أمرًا ضروريًا ليس فقط لأسباب إنسانية، ولكن أيضًا للحفاظ على القيادة الأميركية والمصالح الاستراتيجية في المنطقة.
تتجلى المكاسب الاستراتيجية للولايات المتحدة من تقديم المساعدات الخارجية في شكل غذاء وماء في شمال إفريقيا بشكلٍ خاص في مصر. فبالإضافة إلى المساعدات العسكرية طويلة الأمد، كانت مصر متلقيًا رئيسًا للمساعدات الزراعية والغذائية من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. منذ العام 1978، استثمرت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أكثر من 1.4 مليار دولار في قطاع الزراعة في مصر لتعزيز الإنتاجية وتحديث الري وتحسين سُبُل عيش المزارعين. لم تدعم هذه الاستثمارات الأمن الغذائي لمصر فحسب، بل عززت أيضًا العلاقات الثنائية. في المقابل، ضمنت الولايات المتحدة شريكًا جيوسياسيًا موثوقًا به يعزز المصالح الأميركية من خلال التعاون في مكافحة الإرهاب وتعزيز الاستقرار الإقليمي في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
بدونِ دعمٍ مُستدام للأمن الغذائي والمياه النظيفة والصحة العامة، يواجه العديد من الفقراء في شمال أفريقيا مخاطر متزايدة من الجوع والمرض والوفيات. قد تتراجع الإنتاجية الزراعية، وقد تعاني المجتمعات الريفية، وقد تتراجع المكاسب في مجال تغذية الأطفال. في غياب هذه العوامل المستقرة، قد تواجه المنطقة ضغوطًا اجتماعية واقتصادية متزايدة. مستقبلًا، ستحتاج دول شمال أفريقيا إلى تعزيز قدراتها المحلية وإقامة شراكات جديدة لسد الفجوة التي خلفها وقف المساعدات الأميركية، وإلّا ستواجه خطر التخلف عن تحقيق أهداف التنمية.
- محمد محمود هو الرئيس التنفيذي ومؤسس مبادرة المناخ والمياه، وهو أيضًا مسؤول سياسات المناخ والمياه في الشرق الأوسط بمعهد جامعة الأمم المتحدة للمياه والبيئة والصحة. شغل سابقًا منصب المدير المؤسس لبرنامج المناخ والمياه في المعهد. تشمل مجالات خبرته التكيف مع تغير المناخ، وتحليل سياسات المياه، وتخطيط السيناريوهات.