لبنان: كَيفَ تَحكُمُ أزمةُ الشَرعِيّة خطابَ “حزب الله” المُتَشَدِّد؟

القيادة الجديدة لـ”حزب الله” تأتي في لحظةٍ إقليمية وداخلية شديدة الخطورة، فالتحوّلات والقرارات التي تتصدّى لها أكبر منها ومن شرعيتها الهزيلة أمام جمهورها. صحيحٌ أنَّ المرونة التنظيمية والعمل المؤسّسي للحزب أتاحا ملءَ الشواغر في المراكز القيادية، إلّا أنَّ هذه القيادات الجديدة لا يُمكنُ أن تكونَ من الرعيل الأوَّل، ولا صاحبة باعٍ في العمل القيادي والعسكري، ولا صاحبة سطوة على المراتب القيادية الأدنى بحُكم الخبرة.

نواب “حزب الله”: محمد رعد هو الوحيد الذي يتميز بحيثية.

ملاك جعفر عبّاس*

حَصَدَ “حزب الله” أصوات غالبية مَن تقدّموا إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية والاختيارية في مناطقه، وهي نتيجةٌ كانت مُتَوَقَّعة، على الأقل بالنسبة إلى كاتبة هذا المقال، منذ اليوم الأول لانتهاءِ الحربِ المُدَمِّرة التي شنّتها إسرائيل على الحزب وبيئته خريف العام الماضي.

يختلفُ البعضُ في قراءةِ ما بَينَ سطورِ النتائج، إلّا أنَّ الواقعَ الذي يجب التعاطي معه هو أنَّ سرديةَ الحزب وقدرته التعبوية والتنظيمية ما زالتا بالفاعلية نفسها، خصوصًا في غيابِ أيِّ سرديةٍ أخرى أو مشروعٍ سياسي مُنافس انتخابيًا، فكلُّ الخطابات والمواقف السياسية اللبنانية وغير اللبنانية المشتبكة مع الحزب سياسيًا تُفيدهُ انتخابيًا وتحديدًا موقف حزب “القوات اللبنانية” الذي يعمل كالوقود النووي لشَحذِ ماكينة “حزب الله” الانتخابية في شَدِّ العصبِ الهَويّاتي حولَ “المقاومة” وسلاحها وانتصاراتها وخياراتها المستقبلية.

يُدركُ المسؤولون في “حزب الله” فعالية هذا الخطاب، تجدهم لا يحيدون عنه قيد أنملة وكأنهم خاضوا حربًا قتلوا فيها بنيامين نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير ومعهم قيادات الجيش الإسرائيلي ورؤوس منظومة الاستخبارات، وفجّروا أجهزة النداء (البايجر) واللاسلكي للجيش الإسرائيلي مُدَمِّرينَ منظومة القيادة والسيطرة، وكأنّهم هم مَن مَحَقَ مخازن السلاح والصواريخ الإسرائيلية في ليلة واحدة.

إنَّ كلامهم عن أنَّ في جعبة المقاومة “الكثير من المفاجآت”، وأنَّ الترسانة العسكرية بألف خير، وأنّها تُبنى وتتعافى يوميًا، وأنَّ الخيارات ما زالت مفتوحة ومُتاحة، وأنَّ معادلة “جيش وشعب ومقاومة” ما زالت موجودة، وأنَّ “اليد التي ستمتد إلى السلاح ستُقطَع” … يتكرّرُ على كلِّ المنابر وفي كلِّ المناسبات. ويستغرب كثيرون من هذا الخطاب الذي يعتبرونه مُنفَصِلًا عن الواقع، وعن أداء الحزب نفسه. فالحزب سلّمَ سلاحه للدولة بالفعل جنوب الليطاني، ولم يَعُد له مراكز تُذكَر هناك، ويفاوض على مصير السلاح شمال النهر محاولًا انتزاع أكبر قدر من المكاسب. وكان الحزب انتخبَ، ببراغماتية لافتة من النائب محمد رعد، الرئيس جوزيف عون الذي كان شعاره الأبرز هو حصر السلاح بيد الدولة، وصوّتَ إيجابًا للبيان الوزاري لحكومة الرئيس نوّاف سلام الذي ألغى الثلاثية الشهيرة، وامتنع حتى عن الرد على كل الانتهاكات الإسرائيلية، وهي بالآلاف، لاتفاق وقف الأعمال العدائية. كما إنه يتجنّب الدخول في صدامٍ مباشر مع رئيس الجمهورية الذي يُردّد ويقول الكلام نفسه الذي يقوله رئيس الحكومة الذي يُفضّلُ الحزب تصويب سهامه نحوه.

لماذا إذًا يختلف الخطاب عن الأداء؟

يربطُ البعضُ هذا التبايُن بحسابات الحزب الإقليمية والمحلية. فمستقبل ما تبقّى من “محور المقاومة” مُرتَبِطٌ بنتيجةِ المفاوضات النووية الإيرانية-الأميركية، ومفاوضات السلام السورية-الإسرائيلية، وقدرة النظام الناشئ في سوريا على الاستمرار في الحُكم وحفظ الأمن والحدود مع لبنان، والمراهنة داخليًا على فشل الديبلوماسية اللبنانية في دفع إسرائيل للانسحاب من النقاط الخمس التي تحتلها، والتصويب على الجيش اللبناني، وإبقاء جذوة الخوف من الآخر باستحضارِ شبح مجازر صبرا وشاتيلا والحرب الأهلية، وصولًا إلى مجازر الساحل السوري. لكن كلّ هذه التفسيرات تقتضي تركَ الباب مواربًا من أجلِ لحظة العبور إلى التسوية عند انغلاقِ الأفق أمام السلاح، وهو مُغلَقٌ بالفعل، ولحظة اليقين أنَّ إيران لم تَعُد تريد، ولا تستطيع، ولا هي في وارد الاستثمار في إعادة بناء ترسانة الحزب. إلّا أنَّ هناك بُعدًا داخليًا يتعلّقُ بشخوص مَن هُم اليوم في واجهةِ الحزب، وديناميكية العلاقة داخل الهرم القيادي الجديد وبين الحزب وجمهوره، وهنا لا يُمكِنُ إغفال حجم الفراغ الهائل الذي خلفه اغتيال السيد حسن نصر الله وانعدام الوزن نتيجة الانكشاف الأمني المخيف الذي خلق جوًّا من الارتياب وطرح علامات استفهام على دور كل من لم تطله الاغتيالات في هذا الانكشاف.

اللحظة المفصلية

شكّلَ تاريخ اغتيال الأمين العام السابق ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، في السابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2024 لحظةً مفصلية فَقَدَ فيها الحزب وجمهوره القائد التاريخي الذي صَنعَ لهم المجد والهيبة والمصداقية، واختزلَ في الكاريزما الآسرة التي كان يتمتع بها صلابةَ الموقف والقرار ومرونة البراغماتية في لحظة الضرورة. فَقَدَ الحزب بغيابه القيادة الشرعية التي كانت تستطيع أن تأخذه في أيِّ اتجاهٍ تريد بكلمة واحدة من دون أن تواجه أي اعتراض يذكر. والشرعية كما يُعرّفها الأديب والمفكر أمين معلوف في مطالعته ونقده للتحوّلات التاريخية للحضارتين الغربية والعربية في كتاب “اختلال العالم” الصادر بالعربية عن دار الفارابي “هي ما يُتيحُ للشعوب والأفراد أن يقبلوا، دون مبالغة في الإكراه، سلطة مؤسّسة ما يجسدها اشخاص وتعتبر حاملة لقيم مشتركة”. ويُحدّدُ معلوف “الشرعية القتالية أو الكفاحية أو الوطنية” كعُنصرٍ أساسي لنجاح القادة التاريخيين الذين خلّدتهم شعوبهم آباء لها رُغم كل أخطائهم كمصطفى كمال أتاتورك وجمال عبد الناصر. “أصبح عبد الناصر معبود الجماهير العربية سنة 1956 لدى نشوب أزمة السويس لأنه أقدم على تحدّي الدول الاستعمارية الأوروبية، وخرج من هذا التحدي ظافرًا” يقول معلوف. “إن الانطباع الذي ما برح قائمًا عند العرب هو أنهم في تلك المرحلة كانوا هم صانعي تاريخهم ولم يكونوا مجرد كومبارس عاجزين تافهين ومحتَقَرين وأنهم وجدوا زعيمًا يرون فيه ذواتهم”. “مع عبد الناصر أحسَّ العرب بأنهم استعادوا كرامتهم وباتوا قادرين مُجددًا على السير بين الأمم مرفوعي الرأس”. “طلب عبد الناصر من إخوانه أن يرفعوا رأسهم. وباسمهم تحدّى الدول الاستعمارية، وباسمهم تصدّى للعدوان الثلاثي وباسمهم انتصر. فكان ثمة انفلات حالة حبور فورية. وبات عشرات الملايين من العرب لا يرون الّاه، ولا يفكرون إلّا فيه، ولا يحلفون إلّا باسمه. كانوا متأهبين لدعمه في وجه العالم بأسره، وحتى للموت من أجله أحيانًا، وبالتأكيد للتصفيق له والهتاف باسمه، وهم مغمضو العيون. كانوا يباركونه عندما يحرز نجاحات ويلعنون خصومه عندما يفشل”. يتشابه عبد الناصر ونصر الله ليس فقط في رمزية الاسم، بل أيضًا في رمزية الشخصية وكاريزميتها، تعيش خطاباتهما وكلماتهما طويلًا وتتحوّل إلى دستور لمؤيديهما، وما شعار “إنا على العهد” الذي رفعه “حزب الله” في تشييع نصر الله إلّا دلالة على “قداسة” النهج وصوابه بالنسبة إليهم، يستمد منه من خلفوه شرعيتهم ومُبرِّر وجودهم في سدة القيادة. فلا شرعية قتالية للأمين العام الحالي، الشيخ نعيم قاسم، الذي لم يضطلع بأيِّ دورٍ عسكري يُذكر من قبل، ولا كاريزما تُسعفه في ملء عباءة السيد وعمامته السوداء السلالية، وقد وقع الاختيار عليه فقط بعد اغتيال السيد هاشم صفي الدين الذي كان يحمل شيئًا من الشرعية الشعبية لنصرالله، أي أنه لم يَكُن الخيارَ الأوّل رُغم كونه نائبًا للأمين العام لفترة طويلة. ونوابُ الحزب لم يُعرَف عنهم من قبل أنهم كانوا صانعي قرار في الهرمية الحزبية، وفي ما خلا النائب محمد رعد، لا يمكن القول إنَّ أيًّا منهم يحملُ صفاتٍ قيادية تؤهّله للعب أيِّ دورٍ قيادي في المستقبل.

أزمة الشرعية

تأتي هذه القيادة في لحظةٍ إقليمية وداخلية شديدة الخطورة، فالتحوّلات والقرارات التي تتصدّى لها أكبر منها ومن شرعيتها الهزيلة أمام جمهورها. صحيحٌ أنَّ المرونة التنظيمية والعمل المؤسّسي للحزب أتاحا ملءَ الشواغر في المراكز القيادية، إلّا أنَّ هذه القيادات الجديدة لا يُمكنُ أن تكونَ من الرعيل الأوَّل، ولا صاحبة باع في العمل القيادي والعسكري، ولا صاحبة سطوة على المراتب القيادية الأدنى بحُكم الخبرة. كما إنَّ استمرارَ الاغتيالات واستهدافَ المقرّات يشيرُ إلى أنَّ هذه العناصر الجديدة لم تُنهِ ملفَّ الانكشاف الأمني. يُدركُ كلٌّ منهم أنَّ الخيارَ الصائب اليوم هو البراغماتية القصوى، التي هرولت إليها إيران أوّلًا، فلا مكانَ لدرجات الرمادي في عالمٍ يحكمه دونالد ترامب، إلّا أنهم يُدركون أيضًا أنَّ لا شرعية لهم إلّا إذا ردّدوا كلمات السيد إلى ما لا نهاية، كأنَّ شيئًا لم يتغير. يُعيدون بثَّ خطاباته كأنه لم يرحل، يُدرِكون أنَّ لا بقاءَ لهم في مواقعهم إلّا إن هم اتخذوا أكثر المواقف تصُّلبًا لأنَّ أيَّ مرونة ستضعُ تهمة العمالة والخيانة طلقة في جباههم، كما وضعها خالد الإسلامبولي في جسد أنور السادات بعد توقيع السلام مع إسرائيل وزيارته للقدس، رُغمَ أنه حقّقَ في الميدان لمصر ما لم يحققه عبد الناصر في أيٍّ من حروبه. “في وجدان كلِّ عربي بطلٌ عاثر، وشهوة انتقام من جميع من داسوا كرامته. فإذا وُعِدَ بذلك، أصاخ بسمعه، يخامره خليط من الانتظار وقلة اليقين، وإذا قُدِّمَ له ذلك، ولو جُزئيًا، ولو بصورة رمزية، أخذته الحمية” يقول معلوف “والذي يعيد إلى الشعب كرامته يقدر أن يحمله على قبول كثير من الأمور. يقدر أن يفرض عليه تضحيات، وتضييقات، ويقدر حتى أن يبدو طاغية لكن مع ذلك يبقى مسموعًا مُطاعًا”. وهذا ما يدركه قادة “حزب الله”. يُدركون أنَّ الشخص الوحيد الذي كان يمكن أن يحسم مصير السلاح من دون أن تعترض البيئة ومن دون أن تشعر أنها مهددة أو مطعونة أو مهزومة كان السيد حسن بشخصه، وليس الحزب بكليّته، وليس بينهم مَن يتمتع بشجاعة السادات ليصنع تحوُّلًا تاريخيًا يمتد لأجيال بما له وما عليه.

Exit mobile version