
هنري زغيب*
أُواصل بحثي في جوهر الشعر، في الأَصل، في المقاربة التي تجعل من الشعر شعرًا، لا استغلال التسمية لتمرير نصوص هي من النثْر في أَدناه، ولا يمكن أَبدًا أَن تكون في مقْدِس الشعر.
كان في السائد القديم أَنَّ لكلِّ شاعر شيطانًا “يوحي إِليه”، اعتقادًا أَن الشعر وحي خالص. ثم أَثبتَ تقدُّمُ العصور الشعرية نظريةً أُخرى، أَن الشعر صَنْعة، وإِن غالبًا ما تُفسد ما فيه من عفوية.
فكيف الجمع بينهما؟
بين الوحي والصَنعة
الشعر وحيٌ؟ صحيح. لا يؤْتى لِجَميع الناس؟ صحيح كذلك.
لكنّ الصحيحَ أَيضًا أَنَّ الشعر موهبةٌ وصَنعةٌ. جناحان لا يطير شاعرٌ إِلَّا بِهِما معًا. وليس جِدِّيًّا أَن يكتفي الشاعرُ بالسبْكة الأُولى للقصيدة حين يفرغ من كتابتها، بِحجّة أَنّها “هكذا أَتت”. بل عليه أَن يَعمل عليها صقْلًا وتَجويدًا، حتى تليقَ بالشعر والشاعر، مثلما لا يُهدى عقدُ اللؤْلؤ إِلى الحبيبة بِحالته البدائية، بل بَعد صقله وإِنجاز بَلْوَرته.
الشاعرُ المكرَّس (ومثلُه الناثرُ المكرَّس) هو – إِلى موهبته – حِرَفِيٌّ صَناع، يعرف اللُعبات البلاغية والجمالية جَميعَها، ويَمارسُها ببَراعة حاذقة. ومتى امتلَك الشاعرُ حِرَفِيَّتَه، أَتاهُ الشعر مترجِمًا شاعريته أَكثر.
بين الوعي واللاوعي
إِذا الـمُبدع مأْخوذٌ باستمرار إِلى “الحالة الأُخرى” (يسمِّيها البعض “حالة اللاوعي” أَثناء الكتابة)، فالحِرَفِيُّ هو ذاك “الآخر” الواعي فيه. يُنَبِّهه. يَقيه عثَراتِ القلَم وشطَطَ الاسترسال. وحين يتصالَح في الشاعرِ الفنانُ والحِرَفِيُّ، يخرج الشعر لَمّاعًا أَكثر، مُشعًّا أَكثر. يخرج شِعرًا أَكثر.
حدَّدَ اليونان الشعر بأَنّه “عربةٌ يَجُرُّها حصانان: العاطفة والخيال، ويَسوسُها حوذِيٌّ حكيمٌ هو العقل”. إِذًا لا بُدَّ في الشعر من وعيٍ يُعَقْلِنُ اللاوعي، تمامًا كما لا بُدَّ للرسام من زيتٍ تأْسيسي (يَشُدّ نسيجَ القماش كي لا يتفسَّخ مع السنوات فيُشَقِّقَ الأَلوان التي عليه مع مرور السنين) يَدهن به كامل مساحة قِماشَتَه البيضاء، قبل أَن يدخل في “حالة اللاوعي”، حالة الإِبداع خُطوطًا وأَلوانًا وولادةَ لوحة.
الوهج لا الوجه
الشعر هو هذا الـمَسُّ الأُعجوبِيُّ الذي لا تفسيرَ منطقيًا له. مسٌّ حسّيٌّ لاعقلانِيّ (مع أَنَّ خلفيّةَ أُصوله عقلانيةٌ، بل تقْنيّةٌ، بَحتة)، تَمامًا كالأُوبرا العظيَمة: ليس لِجَمالِها تفسيرٌ عقلانِي، فهي حسّية لاعقلانيَّة (فيما أُصولُ تأْليفِها عقلانية، بل: تقْنيةٌ، بَحتة). وهنا عبثُ أَن نبحثَ في القصيدة عن “الحكاية”، ونُشيحَ عن تقْنيَّة الشاعر، ومهاراتٍ فنيةٍ جَمالية فيها، هي التي تَجعل قصيدته على جَمال. فالذي سيبقى على الزمان: وهجُ القصيدة لا وجهُ صاحبها.
مدار الشاعر
إِذا الإِيقاع هو المدار الذي يتَكَوكَب فيه الشعر -كما تَتَكَوكَب النجومُ في مدارها، وتتنوَّع شعاعاتُها، وتَحْلَولِي لأَنَّها متناغمة فيه – فعلى الشاعر أَن يُجَدِّد، يُطوِّر، يَجتزئ، يُنوِّع، إِنّما من داخل هذا المدار، فإِذا خرج عنه، سقَط في السديم وضاع في المجهول، لأَنه يكون خرجَ من كينونة فنِّه وجوهرها.
ولا جِدِّيَّةَ للكلام على ما يسمَّى “الإِيقاع الداخلي”. فالإِيقاع الحقيقي هو الذي يَطفُر، يَبرُز، يفرضُ نفسه على سامعيه، لا ذاك الذي يُحاول السامعون أَن يبحثوا عنه ليفرضوا عليهم افتراضاتِهم فيه. وبالمقابِل كذلك: الإِيقاعُ الذي يَغرَق في طنْطنَةٍ وزنِيَّةٍ ونَغميةٍ مَجَّانية، لا يُشكِّلُ الشعر ولا بِحال.
الإِيقاع أَوَّلًا وأَخيرًا
الإِيقاعُ، إِذًا، ميزانٌ يَجب أَن يكونَ ظاهرًا، واضحًا، مفهومًا، سهلَ بلوغ المتلقّي، لا أَن يَبحث عنه المتلقُّون باجتهاداتٍ، يعمَدون إِلى تفسيرها، والتنظير حولَها، واستنباط ما قد لا يكون فيه، لِيتجنَّبوا شعورَ أَنَّهُم أَخفقوا في إِيجاد ذاك الإِيقاع “داخلًا”.
السمفونيا الخالدة لا نُفتّش نَحن عن إِيقاعها “داخليًّا”، بل ميلودياها هي التي تفرض نفسها علينا، بدون جهدٍ منَّا، أَو مِمّن يُنَظِّرون لنا عنها.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).