الدكتور فيكتور الزمتر*
غرقت وسائلُ الإعلام العربية والإسرائيلية والدولية، في الأسبوع الفائت، بالتساؤل عن مغزى تغييب إسرائيل عن جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المُثلَّث الخليجي: السعودية قطر والإمارات، نظرًا لمنزلة تل أبيب في عيون واشنطن.
تنوَّعت التحليلاتُ على خلفية تخصيص الخليج بأُولى زيارات سيّد البيت الأبيض إلى الخارج، خلافًا لتقليد الأسلاف باستهلال طلّاتهم الخارجية على دولٍ تحتلُّ مراكز الصدارة لدى واشنطن. إلّا أنَّ تلك التحليلات بقيت في إطار الأحاجي والإجتهادات، كونها راوحت بين تحوُّلٍ في سياسة الإدارة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، أو بين تحوُّلٍ في علاقة الرئيس الأميركي مع رئيس وزراء إسرائيل، وكلاهما يستدعي بعضَ الوقت لإثباتِ صوابيته.
لا مُجافاة بالقول أنَّ تاريخ العلاقات الأميركية-الإسرائيلية يُظهرُ إنٍّها علاقاتٌ فريدةٌ لا شبيهَ لها في العلاقات بين الدول، أقلُّ ما يُقالُ فيها أنٍّها علاقاتٌ عُضويةٌ، لدرجةٍ يصعبُ معها الفصلُ في ترابُطها وتداخُلها السياسي والإقتصادي والعسكري والأمني . ما دفعَ بعضَ القادة الإسرائيليين إلى التباهي بمدى نفوذهم في دوائر صُنع القرار الأميركي.
غنيٌّ عن البيان، أنَّ الولاياتَ المُتحدةَ الأميركية هي الدولةُ الأُولى التي اعترفت بحكومة إسرائيل المؤقَّتة، “بحكم الأمر الواقع”، وذلك فورَ إعلانها يوم 14 أيّار (مايو) 1948. ومع ذلك، بقيت الحضانةُ الأوروبيةُ للكيان الجديد، بدايةً مع بريطانيا، من موقعها صاحبة “وعد بلفور”، 1917، وسلطة الإنتداب على فلسطين. بينما تولَّت فرنسا تسليحَ الكيان وتحصينه بالخبرات النووية الرادعة، في خمسينيات القرن العشرين،. وفي العام 1956، شهدت العلاقاتُ الأميركيةُ-الإسرائيليةُ أوَّلَ صدعٍ، عندما أرغمَ الرئيس دوايت أيزنهاور حكومة تل أبيب على سحب قواتها من سيناء وشرق قناة السويس، بالتوازي مع إرغامه بريطانيا وفرنسا على الإنسحاب من القناة، إثر العدوان الثُلاثي (بريطانيا، فرنسا وإسرائيل) على مصر، في ذلك العام.
لكنَّ الهزيمةَ الكاسحةَ، التي أنزلتها إسرائيلُ، خلال ستَّة أيّامٍ، بمصر وسوريا والأردن، في العام 1967، فتَّحت أعينَ واشنطن على الفائدة الإستراتيجية من التفوُّق الإسرائيلي، الذي يُمكنُ الإستفادة منه، لتعزيز النفوذ الأميركي، في عزِّ العداء الناصري المُعلن ضدَّ الغرب، ووسط احتدام الحرب الباردة مع السوڤيات.
وعلى عكس ما جناهُ التفوُّق العسكري الإسرائيلي، في العام 1967، من تزايد الدعم الأميركي لإسرائيل، أظهرَ تدميرُ “خطّ بارليف” وعبورُ الجيش المصري إلى ضفَّة القناة الشرقية، خلال حرب 1973، هشاشةَ الكيان الإسرائيلي، ما أشعرَ واشنطن بالخطر عليه، فاندفعت لإقامة جسرٍ جويٍّ، لنقل الأسلحة والذخائر ولإنزال الدبابات مع طواقمها، إنقاذًا للقوات الإسرائيلية.
وما زاد في تأليب الرأي العام الغربي ضدّ العرب، ما أحدثَه قرار الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، بحظر تصدير النفط إلى الغرب، من ارتفاعٍ بأسعار الطاقة. ولم يطلْ استبشار العرب طويلًا بوحدة الجيشين المصري والسوري وممّا حقَّقته حرب تشرين الأول (أكتوبر)، 1973، حتى افترقت مصر وسوريا، “…كلٌّ في طريق …” وأمست وحدتُهما “… “خبرًا وحديثًا من أحاديث الجوى”، على ما يقول الشاعر المصري، إبراهيم ناجي، في قصيدته العصماء، الأطلال.
وباتت بقيَّةُ قصَّة التفكُّك العربي المعروفة يلُفُّها الحزن والإحباط، مع خروج مصر من الصراع مع إسرائيل وعقدها معاهدة سلام “كامب دايڤيد”، مرورًا بالصدامات مع إسرائيل في جنوب لبنان، التي تُوِّجت باحتلال جنوب لبنان وُصولًا إلى بيروت، في العام 1982.
إلى ذلك، حصلت سلسلةٌ من الحروب والحوادث الخطيرة، عملت جميعُها على توثيق التكافُل بين الغرب وإسرائيل، لدرجةٍ تُبرِّرُ اعتقادَ البعض بأنَّها، بخُلاصاتها، تبدو وكأنَّها من صُنع مايسترو واحدٍ، لجعل تل أبيب ضرورةً استراتيجيةً لواشنطن. هذا الإعتقاد يستمدُّ مُبرِّراته من سهر إسرائيل على مصيرها، وبالخصوص من استقالة شعوب وقادة البلدان، التي كانت مسرحًا لتلك الأحداث، من مسؤولية سهرها على مُستقبل أجيالها. شملت هذه السلسلة، في ما شملت، الثورةَ الإيرانيةَ، في العام 1979، والحربَ الإيرانيةَ-العراقيةَ (1980-1988) ثم اجتياح العراق للكويت، في العام 1990، وتحريرها في العام 1991، وُصولًا اإلى هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 واجتياح العراق من قِبَل الغربِ في العام 2003، وفلتان الحركات الاُصولية المُتشدِّدة، إضافةً إلى “الربيع العربي” وتداعياته والبرنامج النووي الإيراني …
من هنا، لا عجبَ ممّا آلت إليه أوضاعُ العالم العربي، الذي تبدَّلت أولوياتُه القُطرية، على حساب قضاياه القومية المركزية، لا سيَّما قضية فلسطين، التي أضحت ضحيَّةَ “السلام الإبراهيمي”.
إنَّ الإغراقَ بالرهان على خلافٍ بين الإدارة الأميركية وحكومة إسرائيل اليمينية فيه شيءٌ من المُغالاة، كي لا نقول من السذاجة السياسية، قياسًا على ما قدَّمه الرئيس ترامب لإسرائيل، في ولايته الأُولى. والدليلُ على ذلك، البناءُ على عدم إدراج إسرائيل بجولة الرئيس الأُولى إلى الخارج، ونسيان استقبال الرئيس ترامب لنتنياهو كأوَّل زائرٍ للبيت الأبيض في ولايته الثانية.
لا شكَّ بأنَّ التفاوضَ مع إيران حول برنامجها النووي، ومع “حماس” لإطلاق آخر رهينة أميركية ومع الحوثيين لوقف هجماتهم على السفن الأميركية ورفعَ العقوبات عن سوريا، من دون رضى الإسرائيليين، من شأنه أنْ يُقلقَهم لاعتيادهم على وقوف واشنطن على خاطرهم في كلِّ ما يتّصل بالشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، من المُفيد الأخذ بعين الإعتبار أنَّ شخصيةَ الرئيس ترامب لا تستوي وصفات السياسي التقليدي المُتعارَف عليه. فهو رجلُ أعمالٍ يبغي الربحَ السهل، بدون المُغامرة بأثمانٍ غير محسوبةٍ، وإنْ لجأ إلى سياسة التهديد الكلامي لإرباك الخصم. فهو يكادُ يكونُ واحدًا من الرؤساء الأميركيين القلائل، الذين لم يتورَّطوا بحروبٍ خارجيةٍ، بعضُها لم تكن في صالح المصالح الأميركية المباشرة.
وعليه، غالبُ الظنّ أنَّ جولتَه الخليجيةَ تنسجمُ تمامًا مع العمود الفقري لسياسته الإقتصادية، الهادفة إلى استقطاب رؤوس الأموال الخارجية، للإستثمار في مُختلف القطاعات المُنتجة، بعد هجرة الأموال الأميركية إلى الشرق الأقصى، الذي تحوَّل إلى مصنع العالم، على حساب الإقتصاد الأميركي ويده العاملة. وهذا ما حقَّقته جولتُه الخليجيةُ، التي عادَ منها مُحمَّلًا بمئات المليارات من الدولارات، التي من شأنها تنشيطُ الإقتصاد الأميركي.
وإذا صحَّ أنَّ ثمَّةَ تحوُّلًا جديًّا في سياسة الرئيس ترامب تجاه إسرائيل، فهذه فرضيةٌ قائمةٌ، إن لم يكن اليوم ففي المستقبل، حالما يتبيَّنُ للمسؤولين الأميركيين أين تكمنُ بالفعل مصالحُهم العليا. فمن الصعوبة بمكانٍ الإستمرارُ بسياسة النعامة، وتغطية قبائح منهجية القتل والتدمير، الجارية راهنًا في العالم العربي.
أمرٌ آخرٌ من السذاجة إهمالُه، ويتمثَّلُ بهَوَسِ الرئيس ترامب “بجعل أميركا عظيمةً مُجدَّدًا”، على أنْ يتمَّ ذلك بفضل سياسته وأثناء حُكمه بالذات. إضافةً إلى ذلك، من الطبيعي، في ولايته الثانية والأخيرة، أن يحلمَ بأنْ يُتوِّجَ خريفَ عُمرِه وزهرةَ إنجازاته الشخصية، المهنية والسياسية، بإرثِ صانع السلام. فالرئيسُ ترامب، المعروف بوفائه بوعوده، قادرٌ على تحقيق السلام.
إنَّ الإنتصارَ للحقِّ وسامٌ إنسانيٌّ بامتيازٍ، لا يعلو عليه أيُّ وسامٍ. عسى أنْ تتكلَّلَ نوايا الرئيس ترامب السلمية بالنجاح، أملًا بأنْ تحظى قضيةُ فلسطين بلفتةٍ مُنصفةٍ، تبرِّىء ضمير البشرية من الخذلان!
- الدكتور فيكتور الزمتر هو كاتب سياسي وسفير لبناني سابق.